من غير المرجح أن يُسامح الشعب الرؤساء الأمريكيين على احترافهم الكذب للحفاظ على صورتهم العامة أو منصبهم. 

أعد مايكل بليك، أستاذ الفلسفة والسياسة العامة والحكم بجامعة واشنطن، تقريرًا نشره موقع «ذا كونفرسيشن»، يشير فيه إلى احتراف جميع الرؤساء الأمريكيين الكذب.

وأوضح بليك أنه خلال ولاية ترامب، احتفظت صحيفة «واشنطن بوست» بقاعدة بيانات لأكاذيب الرئيس وخداعه، ووصلت الحصيلة النهائية إلى أكثر من 30 ألف كذبة؛ وبالمثل، يصر منتقدو الرئيس جو بايدن على أنه كاذب أيضًا، وأن وسائل الإعلام متواطئة في تجاهل خداعه المتكرر للشعب الأمريكي، ويبدو أن تكرار هذه الانتقادات يشير إلى أن معظم الناس لا يريدون رئيسًا يكذب، بحسب الكاتب، ومع ذلك، فقد وجدت دراسة حديثة أن جميع الرؤساء الأمريكيين – من واشنطن إلى ترامب – قد كذبوا عن وعي في تصريحاتهم العامة.

ويؤكد بليك، بصفته فيلسوفًا سياسيًّا تركز منهجية الناس في التفكير في خضم الخلاف السياسي، أن الأهم ليس ما إذا كان الرئيس يكذب، ولكن متى؟ ولماذا يفعل ذلك؟ ومن غير المرجح أن يُسامح الناس الرؤساء الذين يكذبون للحفاظ على صورتهم العامة أو منصبهم، ومع ذلك، غالبًا ما يتم الاحتفاء بأولئك الذين يكذبون من أجل خدمة الجمهور.

أخلاقية الخداع.. لماذا تُعد الأكاذيب خطأ أصلًا؟

قدم الفيلسوف إيمانويل كانط، في القرن الثامن عشر، وصفًا قويًّا لخطأ الكذب؛ بالنسبة إلى كانط، فإن الكذب خطأ مثل التهديدات والإكراه؛ لأن هذا يتجاوز الإرادة المستقلة لشخصٍ آخر، ويعامله على أنه مجرد أداة، عندما يستخدم المسلح التهديدات لإكراه شخصٍ ما على القيام بعملٍ معين، فإنه لا يحترم قوة ذلك الشخص العقلانية. والأكاذيب هي بالمثل عدم احترام للقوة العقلانية: لقد تم التلاعب بقرار الفرد، بحيث لا يملك حرية التصرف، وعد كانط أي كذبة غير أخلاقية؛ حتى لو قيلت لقاتلٍ عند إعدامه.

يشير بليك إلى أن فلاسفة العصر الحديث غالبًا ما أيدوا نسخًا من تفسير كانط أثناء سعيهم إلى إيجاد استثناءات له، وأحد الموضوعات المشتركة هو ضرورة الخداع لتحقيق هدف سياسي مهم، على سبيل المثال، من المرجح تعريض عملية عسكرية مرتقبة للخطر، بسبب زعيم سياسي يقدم إجابات صادقة حولها، وهو ما لن يرغبه معظم العاملين في المجال العسكري في تلك الدولة؛ يرى الكاتب أن المفتاح هو احتمالية قبول الناس مثل هذا الخداع، بعد وقوعه، بسبب النتيجة التي حققها هذا الخداع.

Embed from Getty Images

خلال الحرب العالمية الثانية، سعت الحكومة البريطانية إلى خداع القيادة النازية بشأن خططها للغزو؛ مما استلزم الكذب حتى على حلفاء بريطانيا، كان يُعتقد عمومًا أن الضرورة الأخلاقية لهزيمة ألمانيا النازية مهمة بما يكفي لتبرير هذا النوع من الخداع، ويوضح هذا المثال أيضًا موضوعًا آخر، فقد يُسمح بالخداع عندما يكون في سياق علاقة عدائية، لا ينبغي فيها توقع قول الحقيقة؛ قد يكون، أو لا يكون، الكذب على المواطنين مبررًا، ولكن يبدو أنه ما من خطأ كبير في الكذب على الأعداء أثناء الحرب.

أكاذيب بيضاء؟

خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، كان الرئيس فرانكلين دي روزفلت مقتنعًا بأن توسع هتلر في أوروبا يشكل تهديدًا للمشروع الديمقراطي الليبرالي، لكنه واجه جمهورًا ناخبًا لا يرغب الانخراط في حرب أوروبية، واختار روزفلت الإصرار علنًا على أنه يعارض أي تدخل، بينما كان يفعل كل ما في وسعه للتحضير للحرب وللمساعدة السرية للقضية البريطانية.

دولي

منذ سنة واحدة
«ذي إنترسبت»: كيف كذبت جنرالات الجيش الأمريكي بشأن الحرب في العراق وأفغانستان؟

وفي وقتٍ مبكرٍ من عام 1948 أشار المؤرخ توماس بيلي إلى أن روزفلت اتخذ خيارًا محسوبًا للاستعداد للحرب مع الإصرار على أنه لم يفعل شيئًا كهذا، ويرى الكاتب أن تصريح روزفلت بوجهة نظره بشأن هتلر كان من الممكن أن يؤدي إلى هزيمته في انتخابات عام 1940.

أما قبل روزفلت، أجرى أبراهام لنكولن حسابات مماثلة، وربما كانت أكاذيب لينكولن فيما يتعلق بمفاوضاته مع الكونفدرالية – التي وصفتها ميج موت، أستاذة النظرية السياسية، بالمراوغة – مفيدة في الحفاظ على الولايات المتحدة دولة واحدة؛ وكان لنكولن على استعداد لفتح مفاوضات سلام مع الكونفدرالية، مدركًا أن كثيرين في حزبه يعتقدون أن الاستسلام غير المشروط من قبل الجنوب فقط من شأنه أن يحل مسألة العبودية، وفي مرحلةٍ ما، كتب لينكولن مذكرة إلى حزبه يؤكد فيها – كذبًا – أنه لم يكن هناك مفوضو سلام يتم إرسالهم للاجتماع مع الكونفدرالية.

ويشير الكاتب إلى ما ذكره، لاحقًا، عضو في الكونجرس أنه في غياب تلك المذكرة، فإن التعديل الثالث عشر – الذي أنهى ممارسة العبودية – لم يكن ليتم تمريره.

أكاذيب جيدة وأخرى سيئة

يرى بليك أن المشكلة تكمن بالطبع في أن عددًا كبيرًا من الأكاذيب الرئاسية لا يمكن ربطها بسهولة بأهداف مهمة، فأكاذيب الرئيس بيل كلينتون حول أنشطته الجنسية كانت إما لخدمة مصالح ذاتية وإما للحفاظ على منصبه.

Embed from Getty Images

وبالمثل، فإن إصرار الرئيس ريتشارد نيكسون على عدم درايته شيئًا عن فضيحة ووترجيت كان على الأرجح كذبة. فقد أكد جون دين، المستشار القانوني لنيكسون، بعد سنوات أن الرئيس كان على علم بخطة سرقة مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية ووافق عليها، هذه الفضيحة أنهت رئاسة نيكسون في النهاية، وفي كلتا الحالتين، واجه هؤلاء الرؤساء تهديدًا كبيرًا لرئاستهم – واختاروا الخداع ليس لإنقاذ الأمة، ولكن لإنقاذ سلطتهم.

الرئيسان بايدن وترامب.. والحقيقة

من المرجح أن الرئيس ترامب كذب أكثر من معظم الرؤساء، بحسب التقرير، ومع ذلك، فإن ما يلفت النظر في أكاذيبه هو أنه قالها دفاعًا عن صورته أو بقائه السياسي بدلاً من خدمة بعض المصالح السياسية المركزية.

في الواقع، يبدو أن أفضل ما يمكن فهمه من أكاذيب الرئيس ترامب غير المعقولة أنها اختبارات للولاء؛ إذ أظهر أولئك الذين في دائرته والذين كرروا أكاذيبه ولاءهم للرئيس ترامب بالقيام بذلك، وهاجم ترامب، مؤخرًا، أعضاء الحزب الجمهوري الذين لم يكرروا مزاعمه الكاذبة بشأن تزوير الانتخابات، ووصفهم بالخيانة.

يقول بليك إن الدراسات الحديثة تشير إلى أن الرئيس بايدن، حتى الآن، لم يرق إلى مستوى خداع الرئيس ترامب. ومع ذلك، فقد قدم ادعاءات خادعة ومضللة حول عدد من الموضوعات، من بينها التكاليف الناتجة من سياسات معينة، وتاريخه، وحياته المبكرة. تبدو هذه الأكاذيب مختلفة إلى حد ما عن تلك التي رواها لينكولن وروزفلت، فهي تُقال بشكل عام من أجل جعل الخطاب البلاغي أقوى بدلًا من كونه وسيلة ضرورية لهدف سياسي لا يمكن تحقيقه إلا بهذه الطريقة، كما يبدو أنها أقل تبريرًا من الناحية الأخلاقية من الأكاذيب السابقة.

Embed from Getty Images

يمكن تبرير هذه الأكاذيب بالإشارة إلى الممارسات التي تنطوي بالضرورة على الصراع والحيل، لا أحد يتوقع الصدق من جانب العدو أثناء الحرب، ولا حتى من المعارضين في السياسة أيضًا. يعتقد بعض الفلاسفة السياسيين أنه عندما تصبح السياسة لعبة عدائية، فقد يُسامح السياسيون عندما يسعون لخداع الطرف الآخر، قد يعتمد الرئيس بايدن على هذه الفكرة، ويمكن ملاحظة أن الحزب الجمهوري أقل انفتاحًا على المفاوضات بين الحزبين مما كان عليه في أي وقت في تاريخه.

لكن حتى هذا التبرير الأخير قد لا يكون كافيًا، فقد يُسمح بالكذب على المعارضين السياسيين في سياق الخصومة، أما الأكاذيب التي يقولها الرؤساء، وغالبًا ما تكون موجهة للناخبين، فمن الصعب تبريرها.

وأخيرًا، حتى تكون الأكاذيب مبررة، من وجهة نظر الكاتب، فيجب أن تلقى تصديقًا واسعًا، إذ إن الكذبة التي تنكشف على الفور؛ من غير المرجح أن تحقق الهدف الذي يبررها، وهذا عبء أكبر، ويجد الرؤساء المعاصرون صعوبة أكبر في الكذب دون الاعتراف بها مقارنة بالرؤساء الذين خدموا قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.

إذا كان على الرؤساء الكذب، أحيانًا، للدفاع عن قيم سياسية مهمة، فيبدو أن الرئيس الصالح عليه أن يكون قادرًا على الكذب ببراعة!

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد