كتبت هيلين ماكدونالد، وهي صحافية ومؤلفة وكاتِبة بريطانية وباحثة بقسم التاريخ وفلسفة العلم بجامعة كمبريدج، مقالًا في صحيفة «نيويورك تايمز» عن تأثير جائحة كورونا على البيئة بعد تراجع النشاط البشري بسبب الإغلاق، وما واكبه من انتشار مقاطع فيديو حقيقية أو زائفة توثق هذه التغييرات.
وتستهل الكاتبة المقال بقولها: «في نهاية مارس (آذار) كنت، مثل العديد من الأشخاص، أقضي ساعات كل يوم على الإنترنت، وانتباهي مركز على الرسوم البيانية للوفيات المتوقعة، وخرائط بؤر تفشي العدوى (النقاط الساخنة)، وصور المسافرين الذين يرتدون الكمامات المحتشدين في عربات مترو الأنفاق.
ولكن بعد ذلك ظهرت صور جديدة، وكانت مختلفة تمامًا عن الصور الأخرى. كانت خرائط تظهر تحسينات في جودة الهواء، وصورًا للشوارع والساحات المهجورة التي تغمرها أشعة الشمس، والأكثر إثارة للدهشة: مقاطع فيديو للحيوانات البرية التي كثرت في المدن والبلدات المهجورة حديثًا».
مقاطع الفيديو الخاصة بالحيوانات تحظى بشعبية كبيرة
وتذكر الكاتبة أن مقاطع الفيديو الخاصة بالحيوانات تحظى بشعبية مدهشة؛ إذ حظى أحد مقاطع الفيديو بعنوان «آثار إغلاق كورونا على الحيوانات» على قناة نيتشر كونكشن على «يوتيوب» بأكثر من 5 ملايين مشاهدة، وهو يتضمن لقطات للخنازير البرية وهي تتجول في المدن الإيطالية، وغزال سيكا الياباني يمشي في شوارع مدينة «نارا»، وقطيع من الأوز المصري يعبر المدرج الخالي بمطار بن جوريون في تل أبيب، وكثيرًا ما يعاد نشر محتوى هذه الفيديوهات في وسائل الإعلام الإخبارية الرئيسة.
✅ Acqua pulita a #Venezia con i pesci 🐠 che si tornano a vedere
✅ Un cigno 🦢 sul Naviglio a #Milano
✅ un delfino 🐬 nel porto di #CagliariTornare a inquinare sarebbe un delitto: sfruttiamo questa scia per ripensare a come sviluppare la società in armonia con la natura pic.twitter.com/dH0PLqm4Q1
— Roberto Dupplicato (@duppli) March 16, 2020
مقاطع الفيديو جادة ومشجعة. تقول إحدى مستخدمي «يوتيوب» على قناة بلانيت ناو وصوتها مفعم بالدهشة وهي تعرض علينا لقطات لمدينة البندقية قبل الإغلاق وبعده، والمدينة تنتقل من المياه الموحلة والحشود الصاخبة إلى الشوارع الفارغة والقنوات النظيفة: «يا له من اختلاف في غياب البشر!». تتحدث إلينا وهي تعرض لقطات للأسماك والدلافين، ولقطات من الشاشة لتغريدات حول بجعات البندقية، وأنباء عن أن البط يعود إلى نافورات روما. وتقول عن مياه القناة بلغة حالمة: «انظروا كم هي زرقاء».
جانب إيجابي للجائحة
مثل هذه الأدلة على الانبعاث المفاجئ للطبيعة، وفقًا لأحد مقاطع فيديو نيتشر كونكشن، تمثل «الجانب الإيجابي» للفظائع المتعددة التي تسببت فيها الجائحة. ففي هذه الفيديوهات، يبدو أن التقدم البشري، الذي يُنظر إليه تقليديًا على أنه تحرك إلى الخارج من المدن لغزو البرية، لم يتوقف فحسب، بل إنه ارتد على عقبيه.
لم يعد بإمكاننا الذهاب إلى أي مكان. نحن عالقون في منازلنا، وفجأة نجد أن الحيوانات هي التي تأتي إلينا. يقول أحد العناوين الرئيسة في صحيفة الجارديان: «الطبيعة تستعيد البندقية»، كما لو كان الأمر حربًا يقبع البشر فيها تحت الحصار.
إنها عودة المكبوتين، الذين يتخذون شكل ماعز يقضمون الكلأ في الأسيجة المقصوصة للحدائق، ويركضون على طول شواطئ مدن ويلز الساحلية، وأسراب الديك الرومي البري التي تسير باختيال في هارفارد يارد كما لو كانوا يتذكرون الغابات التي كانت تنمو هناك يومًا ما.
وتوضح هيلين ماكدونالد أن المحاكاة الساخرة لمقاطع الفيديو هذه مزدهرة، ومعظمها على تويتر. هناك صور مزيفة للديناصورات يمرحون في شوارع المدينة، وصورة لببغاوات اللوريكيت مصحوبة بشرح «يعود الحمام في لندن إلى ألوانه الطبيعية الآن مع انخفاض مستويات التلوث. الأرض تندمل جراحها».
وهناك صورة أحببتها الكاتبة لبيتزات متدلية من الأغصان وتطفو في البحر بهيبة وعليها عنوان يقول «مع فرض الحجر الصحي على الجميع، عادت كل الحياة البرية الإيطالية إلى الغابات والمياه». هذه سخرية مفرطة، تنتقد فكرة أن الحيوانات البرية التي تغير سلوكها اليومي قد تكون أخبارًا مشجعة في حين تتزايد معاناة البشر وموتهم.
الكثير من مقاطع الفيديو مزيفة أو مضللة
تزايد رد الفعل العكسي مع الكشف عن أن العديد من مقاطع الفيديو المتعلقة بالطبيعة هذه تنطوي على محتوى مضلل أو مزيف؛ إذ جرى تصوير الدلافين في سردينيا، وليس البندقية. وصورة لأفيال النائمة التي شاركها أحد مستخدمي تويتر وأحبها ما يقرب من مليون شخص لم تكن للأفيال وهي غائبة عن الوعي بعد شرب نبيذ الذرة في قرية في إقليم يونان بالصين، كما ادعى العنوان.
في الواقع، كانت معظم الحيوانات في مقاطع الفيديو هذه موجودة طوال الوقت. تعد البجعات مشهدًا مألوفًا في مياه جزيرة بورانو في البندقية، كما ترددت الديوك الرومي البرية على هارفارد لعدة سنوات، وفي بعض المدن الأوروبية أصبحت الخنازير البرية شائعة جدًا لدرجة أنها تعتبر آفات؛ مما يجعل مقاطع الفيديو هذه مروعة بأقدم معنى لهذه الكلمة؛ أي أنها بمثابة الكشف عن أشياء كانت موجودة دائمًا، ولكن دون أن يلاحظها أحد، مثل أسماك البندقية التي يمكننا رؤيتها فقط لمجرد أن الماء الذي تسبح فيه لم يعد عكرًا بسبب حركة القوارب المستمرة.
لكن حقيقة مقاطع الفيديو هذه تبدو أقل إثارة لاهتمام للكاتبة من الأسباب وراء شعبيتها. ما الذي نتحرق لرؤيته في عالم الطبيعة الآن، ولماذا؟ أي شخصٍ حلَّق إلى داخل منزله طائرٌ أو خفاشٌ يعرف كيف يمكن أن يكون ذلك مزعجًا عندما تظهر الحيوانات في الأماكن التي تفترض أنها خاصة بك، كما لو كانت بشيرًا بالحظ الطيب، أو نذيرًا بكارثة مستقبلية. هذه الزيارة المفاجئة وغير المعتادة للحيوانات إلى شوارعنا ومدننا تبدو ذات أهمية مماثلة، ذلك أن وجودها حديث مشحون بالأهمية بالنسبة للإنسان.
هل انتهت الحضارة أم أنها في إجازة؟
ولأننا في أوقات التفكك والأزمات نبحث عن الألفة لكي تعيدنا إلى الواقع، فإن العديد من مقاطع الفيديو هذه تنجح معنا؛ لأنها تعرض مشاهد مباشرة من الخيال السينمائي، التي تكون فيها الشوارع الساكنة والخالية في المدن التي شهدت كوارث كبرى مصحوبة بازدهار في النباتات والحياة البرية؛ والنموذج الأكثر شهرة في هذا الجانب هو فيلم «أنا أسطورة» I Am Legend، حيث تظهر قطعان من الغزلان ذات الذيل الأبيض تتقافز بين السيارات المهجورة في شوارع مانهاتن التي كستها النباتات. نحن نعرف هذه الأماكن. لقد رأيناها من قبل، وهذه المعرفة تحمل معها وعدًا بالبقاء.
ربما توفر لنا مقاطع الفيديو هذه عن الحيوانات العائدة أنواعًا أخرى من الطمأنينة أيضًا. تبدو أزمة (كوفيد-19) بمثابة تكثيف لسلسلة متزايدة من حالات الطوارئ: تحذيرات من انهيار مناخي لا يمكن إيقافه، وزيادة مخيفة في حرائق الغابات، وذوبان الجليد السريع في القطب الشمالي.
لقد شعرنا منذ فترة طويلة بالعجز واليأس بشأن مصير كوكبنا. وكما اقترح الكاتب والمدافع عن حماية البيئة، بيل مكيبين، لتحفيزنا نحن بحاجة إلى رؤى التعافي والتجديد والانبعاث.
تنطلق مقاطع الفيديو هذه من فرضية أن غيابنا عن مدننا مؤقت، وهي فترة زمنية يمكن تعلم الدروس فيها. لم تنته الحضارة: إنها فقط في إجازة مؤقتة، صدرت لها أوامر بالتزام غرفتها من أجل تفكير طويل وشاق حول ما فعلته. هنا يقول لنا مبدعو الفيديو هؤلاء: ها هي الجنة الجديدة، إذا كنت ترغب فيها.
هل الهجرة وزيادة عدد السكان هما السبب في اعتلال البيئة؟
يضيف المقال: يتحول هذا الاندفاع بسهولة إلى أخلاقيات عقابية، كما يشهد بذلك العديد من التعليقات التي ينشرها المشاهدون تحت مقاطع الفيديو. وهي تتراوح بين الإحساس بالتكفير إلى تخيلات القصاص الخالص. وتشير بعض مقاطع الفيديو صراحة إلى أن هذا هو الوقت المناسب «للأرض للتعافي واستعادة شبابها وطاقاتها»، ولكن رأي عدد كبير من المعلقين على هذه المشاركات هو أن الجائحة هي نوع ما من انتقام عالم الطبيعة المظلوم والمنتهك.
ويظهر شعار معين، مع اختلافات، بشكل متكرر في التعليقات: «نحن في الواقع نمثل الفيروس على أمنا الأرض، وفيروس كورونا ما هو إلا أجسام مضادة». ورغم أنها فكرة كارهة للبشر بشكل كبير وغير متماسكة من الناحية العلمية، إلا أنها يجرى تداولها باستحسان بواسطة العنصريين البيض الذين يميلون إلى إلقاء اللوم فيما يتعلق بمشاكل البيئة في العالم على الهجرة والزيادة المفرطة في عدد السكان.
الحيوانات تبعث إلينا برسالة الأمل عندما ينتهي الكابوس
تقول الكاتبة: لكن كلما شاهدت مقاطع الفيديو هذه، كلما بدا أنها تدحض مثل هذه الأشكال الساخرة من التشاؤم واليأس. فالصور التي تقدمها لنا، من خطوط الكهرباء الغامضة وقرون الوعول، من مساحات الرمال الشاسعة المهجورة المليئة بأسراب من الطيور البحرية والسلاحف، تفتح أمامنا أيضًا مساحة لتخيل العالم الجديد الذي سيأتي عندما تنتهي هذه الأزمة، مساحة قد تسمح لنا ليس بإعادة التفكير فحسب في كيفية ارتباطنا بالعالم الطبيعي، ولكن أيضًا ارتباطنا ببعضنا البعض.
وتضيف: يوضح مقطع الفيديو الذي يُعرَض في زاوية شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بي الآن أن الحيوانات لديها الآن فرصة «لاكتشاف كل ما حرموا منه» وأنها قادرة على استعادة «ما هو حق شرعي لها».
يعود المتجاهَلون والمهمَلون والمضطهَدون لاستعادة فضاءاتهم، بالطريقة نفسها التي نشهد بها التحول نحو الاعتراف بالأدوار الجوهرية لعمال المستودعات وسائقي توصيل الطلبات ومساعدي البقالة والبوابين وعمال البريد والعاملين الصحيين ومقدمي الرعاية والعديد من الأشخاص الآخرين الذين يعملون في الخطوط الأمامية للأزمة.
وتختم الكاتبة مقالها بالقول: بدأت أرى الحيوانات في مقاطع الفيديو هذه على أنها أكثر بكثير من مجرد لحم وعظام. إنهم مبعوثو الأمل والاحتمالية، الذين يجعلوننا نجرؤ على الحلم بعالم أفضل عندما ينتهي هذا الظلام الكابوسي».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».