يتصدر عناوين الأخبار في المنطقة العربية في الوقت الحالي حدثان بارزان يتعلقان بأكاديميين أجانب، الأول هو الإفراج عن ماثيو هيدجز، البريطاني الذي كان متهمًا بالتجسس في الإمارات العربية المتحدة، والثاني هو تطورات قضية مقتل الإيطالي جوليو ريجيني في مصر، الذي تتهم أجهزة الأمن الإيطالية نظيرتها المصرية بالمسؤولية عن مقتله. وبينما قد يبدو تزامن هذين الحدثين مجرد صدفةٍ للبعض، إلا أنَّ حسن حسن، الكاتب السوري الأصل المشارك بمجلة «ذي أتلانتيك» الأمريكية، يرى أنَّ المسألة تتعلق بالطبيعة الحالية للمنطقة العربية ذاتها، التي يصفها بكونها «حقل ألغامٍ» للباحثين.

اعتُقل هيدجز في مايو (أيار) الماضي، وحُكِم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة «التجسس لصالح دولة أجنبية، وتهديد الأمن السياسي والاقتصادي والعسكري للإمارات العربية المتحدة». وأُطلق سراحه في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد العفو عنه. وتحدَّث عن محنته علنًا للمرة الأولى هذا الأسبوع، قائلًا إنَّه اعترف تحت الإكراه بعد أن هدده مستجوبوه بتعذيبه في قاعدةٍ عسكرية خارج البلاد.

يذكر حسن أنَّه عاش وعمل في الإمارات لسبع سنوات، وتعامل مع هيدجز عدة مرات عام 2014. ويرى أنَّ فهم السياق الأوسع لمحنته قد يساعد الآخرين على تجنب مصيرٍ مشابه. وبينما لم يكن هيدجز جاسوسًا كما أوضحت الحكومة البريطانية وزملاؤه الأكاديميون عند انتشار أنباء قضيته، إلا أنَّ حسن متأكدٌ أنَّ سبب احتجازه لسبعة أشهر في الإمارات كان صراحته بخصوص موضوع بحثه، الذي كان يتناول آليات العمل داخل أجهزة الأمن الإماراتية.

تضطلع أجهزة الأمن الإماراتية بدورٍ بارز متزايد منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011، وهي موضوعٌ يتجنب المواطنون الإماراتيون الحديث عنه وفقًا لحسن. ولهذه الأجهزة دورٌ محوري في عمليات التطهير بحق الإسلاميين والنشطاء السياسيين على مر السنوت الماضية، وهي مسؤولةٌ عن طرد وترحيل الآلاف من الأكاديميين والمهنيين من الإمارات.

ويوضح حسن أنَّه في مناسباتٍ قليلة طوال فترة إقامته في الإمارات، تحدث معه مواطنون إماراتيون عن السلطة الغاشمة التي تتمتع بها أجهزة الأمن، وبعض هؤلاء ممن تحدثوا لم يكونوا قادرين على الحصول على وظيفة لوجود صلة قرابة بينهم وبين شخصٍ ينتمي للحركات الإسلاموية، لكنَّ من تحدثوا معه كانوا جميعًا يناقشون الأمر بجملٍ عامة وغامضة، وأحيانًا باستخدام الإيماءات وليس الكلمات، وفي أماكن آمنةٍ وسط أصدقاءٍ موثوقين. فالإماراتيون خائفون من أجهزة الأمن، ويعتقدون عن حق أنَّ قراراتها السيادية لا يمكن الطعن فيها، حتى لو كان ذلك الطعن من جهة حكام الدولة أنفسهم.

Embed from Getty Images

ابن زايد وابن سلمان، الحاكمين الفعليين للإمارات والسعودية.

ويرى حسن أنَّه من الطبيعي في سياقٍ كهذا أن يثير باحثٌ أجنبي الشكوك حين يطرح أسئلةً بخصوص الأجهزة الأمنية في الدولة. لكنَّ هيدجز قال لصحيفة «التايمز» البريطانية إنَّه صُدِم حين شهد ضده أحد أصدقائه الإماراتيون.

وبحسب حسن، عادةً ما يخوض الصحافيون والباحثون في الإمارات مواجهاتٍ عصيبة مع أجهزة الأمن. إذ تستمر الاستجوابات للأبد، وتكون مصممةً بحيث تؤدي إلى اعترافٍ في النهاية؛ إذ يبدو الاعتراف بعد عدة ساعاتٍ من الاستجواب البديل الأفضل للتعذيب أو الترحيل.

قال هيدجز لشبكة «سي.إن.إن» الأمريكية إنَّ الاستجواب الأول تضمن سلسلة من الاتهامات: «بدأوا بسؤالي ما إذا كنتُ أنتمي لوزارة الخارجية البريطانية. ثم راحوا يسألونني إذا كنتُ عضوًا في «مكتب الاستخبارات البريطاني (MI6)»، واستمروا على هذا المنوال. وسألوني لاحقًا عن رتبتي، وما إن كنتُ ملازمًا أول، أم ثانٍ، أم نقيب أم رائد. وفي لحظة ذعر قلتُ ‘نعم، نعم أنا نقيب’، فقط لأحاول استرضائهم بأي شكل».

https://www.sasapost.com/translation/why-censoring-speech-is-necessary-in-the-uae/

لكنَّ استجواب هيدجز يبدو مألوفًا بالنسبة لحسن؛ إذ يقول إنَّه في بدايات عام 2010، كان يعمل مراسلًا في الإمارات لصحيفة «ذا ناشونال». وبعد الانفجار البركاني في آيسلندا الذي غطى أوروبا بالرماد، أوكلت إليه مهمة تغطية أزمة تعطُّل الرحلات الجوية التي نشأت عن الكارثة، وكانت الأسوأ منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول). ولطبيعة المهمة، ذهب حسن إلى مطار أبوظبي الدولي للتحدث مع المسافرين القادمين. فاقترب منه رجلٌ بملابس مدنية وسأله عن سبب حديثه مع المسافرين. ثم اقترب منه رجلٌ آخر وطلب منه الرجلان أن يرافقهما. وسرعان ما جاء المزيد من رجال الأمن، وطلب منه أحدهم عدم «تصعيد» الموقف. وأوضح حسن مرارًا أنَّه صحافي، وأنَّه فقط يقوم بعمله، وعندما أشار إلى أنَّ إساءة معاملة الصحفيين قد تضر سمعة الإمارات، وبَّخه أحد الحراس قائلًا: «لا تتحدث عن سمعة الإمارات». فاضطر حسن للصمت والرد فقط على أسئلتهم. وفي النهاية تركوه يرحل بعد التأكد من هويته.

لكنَّ هيدجز لم يمتلك نفس حظه جزئيًا لأنَّ مواطنًا محليًا زعم أنَّه جاسوس. ولأنَّ أجهزة الأمن كانت لديها هذه المعلومة الخاطئة، كانت مصممًة على ما يبدو للحصول على اعترافه. فأجهزة الأمن الإماراتية دائمًا ما تعتمد على الشك. ويحكي حسن عن زميلةٍ بريطانية اعتُقلت عام 2014 بعد أن أفاد حارس أمنٍ أنَّها التقطت صورً للسفارة السورية. ففي الإمارات يُمنع التقاط صور السفارات، حتى لو كان ذلك من قبيل الصدفة وظهرت السفارة في صورةٍ أوسع مُلتقطة من مسافةٍ بعيدة، ورغم أنَّ الشرطة لم تجد في النهاية أي صورٍ للسفارة في حوزتها، فإنَّها استمرت في احتجازها واستجوابها لأسبوع.

ولهذه الأسباب، يرى حسن أنَّ الأكاديميين والصحافيين يتجولون في حقل ألغام حين يعملون في دولٍ عربية. ولتفادي المشكلات، عليهم أن يدركوا في البداية أنَّ الكثير من هذه الدول لا تتسم بالتسامح الذي تُبديه. فالإمارات ترحب بالأجانب والاستثمار الأجنبي، لكنَّ هذا لا يعني أنَّها منفتحة. وهناك خطوط حمراء غير مكتوبة، ولا يتحدث عنها أحد يتجاوزها الصحافيون على مسؤوليتهم الخاصة، ومن هذه الخطوط الحمراء أجهزة الأمن ومسألة المقيمين دون جنسية، وأيضًا توجيه أي نقدٍ صريح إلى مصر أو السعودية أو الرئيس الأمريكي ترامب؛ إذ يمكن أن يوقعك ذلك في مشكلاتٍ؛ لأنَّ الإمارات تمارس الرقابة مجاملةً لهؤلاء الحلفاء.

Embed from Getty Images

ابن زايد والسيسي وسلمان وترامب، في قمةٍ بالرياض في مايو (أيار) 2017.

وفي النهاية، ينصح حسن الباحثين والأكاديميين العازمين على دراسة العالم العربي أن يفهموا أولًا البيئة والثقافة ويعتادوهما. وإن أرادوا يمكنهم اللجوء للقنوات الرسمية للحصول على الروايات الرسمية للأحداث، لكن إن أرادوا الحقيقة، عليهم أن يتمهلوا ويبنوا علاقاتٍ قوية قبل توجيه أي أسئلةٍ حساسة، حتى لا يخيفوا المواطنين كم فعل هيدجز. ولتحقيق تقدمٍ في دراساتهم، عليهم الانغماس في البيئة لسنوات، وجمع الملاحظات المختلفة ومقتطفات المحادثات السريعة، والانتباه للمخاطر المحيطة دائمًا. فهيدجز ليس أول أكاديمي يُتَّهم بالتجسس، ولن يكون الأخير.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد