ربما تكون رأيت بعض التطبيقات التي تعدك بأن تجعلك أذكى في دقائق، فيما يعرف بـ«ألعاب العقل»، أو تلك البرامج التي يباع منها مئات النسخ يوميًّا على الإنترنت وتسمى أيضًا بـ«تمارين العقل».
هذه الألعاب البسيطة مصممة لتحدي القدرات العقلية، بهدف تحسين أداء المهام اليومية المهمة، لكن هل الضغط مرارًا على رسم متحرك لسمكة سابحة أو لافتات شارع مضاءة على الهاتف يساعد فعلًا في تحسين الطريقة التي يعمل بها عقلك؟
يجيب عن هذا السؤال والتر بوت أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة ولاية فلوريدا في مقال نشره موقع «ذا كونفرزيشن».
في بداية المقال، يشير بوت إلى غياب التوافق في بيانات فاعلية ألعاب العقل لمجموعتين كبيرتين من العلماء والأطباء الممارسين المتخصصين في الصحة العقلية.
صدرت الدراستان خلال أشهر متباعدة عام 2014، وضمت المجموعتان أعضاءً لديهم خبرة لسنوات في الأبحاث، وخبراء في المعرفة، والتعلم، واكتساب المهارات، وعلم الأعصاب، والخرف، ودرستا بعناية الأدلة نفسها المتوفرة آنذاك.
ورغم ذلك، أصدرت المجموعتان بيانات معاكسة تمامًا بعضها لبعض، بحسب المقال، إذ استنتجت المجموعة الأولى «وجود أدلة ضئيلة على أن ممارسة ألعاب العقل تحسن القدرات الإدراكية الأساسية العامة، أو تمكن الفرد من اجتياز عالم الحياة اليومية المعقد بطريقة أفضل».
بينما خلصت الثانية، وفقًا للمقال، إلى أن «مجموعة جوهرية ومتزايدة من الأدلة تظهر أن بعض أنظمة التدريب المعرفي يمكنها تحسين الوظائف الإدراكية إلى حدٍ كبير، من بينها طرق يمكن تعميمها على الحياة اليومية».
تكشف هذه التقارير المتباينة المتنافسة، وفقًا لما كتبه بوت في مقاله، عن الاختلاف العميق بين الخبراء، ونزاع رئيسي بينهم حول ما يُحتسب دليلًا مقنعًا يثبت صحة شيء ما.
بعدها، في عام 2016، انضمت لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية إلى الجدال بسلسلة من القرارات، تضمنت غرامة بقيمة 50 مليون دولار (خُفضَّت لاحقًا إلى مليوني دولار فقط) ضد برنامج لتدريب العقل، هو ضمن البرامج الأعلى من حيث حجم الإعلانات الدعائية في السوق. إذ استنتجت اللجنة أن دعايا شركة «Lumos Labs»، التي تروج لقدرة برنامجها «ليموستي» لتدريبات العقل على تحسين إدراك المستهلكين، وتقوية أدائهم في الدراسة والعمل، وحمايتهم من مرض الزهايمر، والمساعدة في علاج أعراض اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، لا تستند إلى دليل.
ويرى كاتب المقال أن الأمر الأهم، وسط تلك المزاعم المتضاربة والبيانات العلمية والأحكام الحكومية والإعلانات، هو المستهلك، متسائلًا: ماذا يجب أن يصدق المستهلكون؟ وهل تستحق ألعاب العقل أن تستثمر فيها وقتك وأموالك؟ وما أنواع الفوائد التي يمكنك توقعها لو كانت موجودة بالأساس؟ أم يفضل أن تمضي وقتك في فعل شيء آخر؟
سرد بوت خبراته التي تؤهله ليجيب عن تلك الأسئلة قبل المضي قدمًا في الإجابة، مشيرًا إلى أنه عالم متخصص في العلوم المعرفية، وعضو في معهد التعمير الناجح (Institute for Successful Longevity) في جامعة ولاية فلوريدا. كما درس الإدراك، والأداء البشري، وأثر أنواع التدريب المختلفة في نشاط العقل لعقدين تقريبًا، وأجرى كذلك دراسات معملية اختبرت كل الأفكار المُشكلة للمزاعم التي تسوقها شركات ألعاب العقل.
يحمل بوت إجابتين للسؤال المتعلق بجدوى تمارين العقل وما إذا كانت تستحق المال والمجهود، الأولى – المتفائلة – هي «لا نعرف»، أما إجابته الحقيقية فهي بالتأكيد «لا».
لا أدلة قاطعة في الأبحاث حول تأثير ألعاب العقل
يرى بوت وزملاؤه أن معظم الدراسات المتعلقة بالموضوع ينقصها تقديم الأدلة القاطعة في كلا الحالتين، وأن بعض المشكلات في هذا الصدد إحصائية بطبيعتها.
وأوضح أن الدراسات عن تدريب العقل غالبًا تفحص أثر التدريبات عبر اختبارات معرفية متعددة، مثل الانتباه، والذاكرة، والمهارات الاستنتاجية، على مدى الزمن، وهذه الاستراتيجية منطقية لكشف نطاق المكاسب المتوقعة.
لكنه يشير إلى أن هناك فرصة في كل اختبار مُدار أن تتحسن النتيجة الخاصة بالأداء من قبيل الصدفة فقط، وكلما زادت الاختبارات المُدارة، زادت فرصة أن يجد الباحثون نتيجة واحدة مزيفة على الأقل.
لا يمكن الوثوق في دراسات حول ألعاب العقل تتضمن عدة اختبارات مُدارة ثم تورد بعدها نتيجة أو اثنتين بارزتين، إلا إذا كانت تتحكم في عدد الاختبارات المُدارة، وللأسف، تتجنب العديد من الدراسات فعل ذلك، ما يجعل نتائجها موضع الشك.
ويرى بوت أن هناك مشكلة أخرى تتعلق بتصميم البرنامج تتمثل في نقص المجموعات المرجعية، موضحًا أنه لكي تدعي أن علاجًا ما له تأثير، يجب أن تقارن المجموعة التي خضعت له بمجموعة أخرى لم تخضع للعلاج.
يحتمل على سبيل المثال أن من يحضر تدريبًا للعقل يتحسن في امتحان التقييم لأنه بالفعل خضع له من قبل، مرة قبل التدريب، ومرة بعده؛ وبما أن المجموعة المرجعية التي لم تخضع للعلاج تحضر الاختبار مرتين أيضًا، يُمكن إذن استبعاد حدوث التحسينات المعرفية بناء على الممارسة.
قارنت العديد من الدراسات التي استخدمت لدعم فاعلية تدريبات العقل، بحسب بوت، بين أثر التدريبات في المجموعات التي خضعت لها، ومجموعة مرجعية لم تفعل أي شيء. لكنه يقول إن المشكلة هنا هي أن أي اختلافات لوحظت بين المجموعتين يمكن بسهولة إرجاعها إلى العلاج الوهمي.
ويشرح بوت الأمر قائلًا إن التحسينات الناتجة عن العلاج الوهمي ليست نتيجة مباشرة للعلاج، لكنها بسبب شعور المشاركين الذين يتوقعون حدوث تحسن نتيجةً لتناول أي دواء. وهذا شاغل مهم في أي دراسة تدخلية، سواء كانت تهدف لفهم أثر عقار جديد أو أثر منتج تدريبي للعقل.
ويشير إلى أن الباحثين يدركون الآن أن فعل أي شيء يولد توقعات بالتحسن أكثر من عدم فعل شيء على الإطلاق؛ لذا فقد غير إدراك احتمالية تأثير العلاج الوهمي معايير اختبار فاعلية ألعاب العقل؛ وعليه، أصبحت الدراسات الآن تستخدم على الأرجح مجموعة مرجعية فاعلة مكونة من مشاركين يؤدون بعض الأنشطة البديلة التي لا تتعلق بتمارين العقل، بدلًا من عدم فعل أي شيء.
لكن بوت يرى أن هذه الضوابط الفعالة تظل غير كافية للسيطرة على التوقعات، ويضرب مثلًا ليوضح وجهة نظره قائلًا إن من المستبعد، على سبيل المثال، أن يتوقع المشاركون في مجموعات مرجعية تتعرض للكلمات المتقاطعة المحوسبة أو مقاطع الفيديو التعليمية، تحسنًا بقدر المشاركين الذين يُطلب منهم تجربة منتجات تمرين العقل التجارية ذات الوتيرة السريعة والمتكيفة، التي توصف على وجه التحديد بقدرتها على تحسين الإدراك.
رغم ذلك، ما زالت تلك الدراسات معيبة التصميم، فتزعم تقديم أدلة على فاعلية تمارين العقل التجارية، وتبقى قدرة الدراسات على قياس التوقعات بهدف المساعدة في فهم ومواجهة الآثار المحتملة لظاهرة العلاج الوهمي نادرة، بحسب مقال بوت.
يطور المشاركون في دراسات بوت وزملائه توقعاتهم بناءً على ظروف التدريب، ويتفائلون خاصة في ما يتعلق بتأثير تمرين العقل. ويشكل اختلاف التوقعات بين المجموعات المشاركة في التجربة مصدر قلق كبير؛ لأن هناك أدلة متزايدة تقترح أن الاختبارات الإدراكية عرضة للتأثر بالعلاج الوهمي، بما في ذلك اختبارات الذاكرة، والذكاء، والانتباه.
هل يوجد آلية محتملة لتحسن أداء العقل؟
يطرح بوت سؤالًا آخر بحاجة للإجابة: هل يجب أن تُفلح تمارين العقل؟ هل يجب أن نتوقع، وفقًا لما يعرفه العلماء عن كيفية التعلم واكتساب مهارات جديدة، أن التمرن على مهارة واحدة يمكن أن يحسن الأداء في مهارة أخرى لم نتمرن لأجلها؟
هذا هو الادعاء الأساسي الذي تقدمه شركات ألعاب العقل، أن الانخراط في ألعاب على الحاسوب أو الهاتف النقال سيحسن أداءك في كل المهام التي لا تتضمنها اللعبة.
يضرب بوت مثالًا بـ«تمرين سرعة المعالجة» الذي أضيف إلى منتجات تمرين العقل التجارية. والهدف هنا هو تحسين قدرة اكتشاف الأشياء في المحيط، الأمر الذي قد يكون مفيدًا في تفادي اصطدام السيارات.
تأخذ لعبة تمرين العقل تكوين مشاهد من الطبيعة بها طيور، ويتوجب على اللاعبين تحديد مكان طيور بعينها، رغم أن الصورة تُعرض لفترة وجيزة فقط، لكن هل إيجاد الطيور على شاشة ما يمكن أن يساعدك في رصد وتجنب أحد المشاة الذي قد يسير في الشارع أثناء قيادتك؟
في رأي بوت، هذا سؤال حاسم؛ إذ يولي بضعة أشخاص فقط اهتمامًا بالغًا بتحسين نتيجتهم في تمارين العقل التدريبية المحوسبة، رغم أن ما يهم هو تحسين قدرتهم على أداء المهام اليومية المرتبطة بأمانهم، وصحتهم، واستقلالهم، ونجاحهم في الحياة، لكن الأبحاث على مدى قرن كامل تقول إن مكاسب التعلم والتدريب غالبًا ما تكون محدودة للغاية.
يستعرض بوت لإثبات وجهة نظره، قصة شخص يُعرف باسم «سي إف»، إذ استطاع بالتدريب المكثف تحسين ذاكرة أرقامه من تذكر سبعة أرقام إلى تذكر 79 رقمًا، وتمكن بعد التدريب من سماع قائمة عشوائية مكونة من 79 رقمًا وأعاد سردها فورًا ببراعة ودون تردد، لكنه ظل قادرًا على تذكر واسترجاع خمسة حروف فقط من الأبجدية.
ويشير بوت إلى أن هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة لأفراد استطاعوا تحسين أدائهم في مهمة ما بدرجة كبيرة، لكنهم لم يظهروا أي مكاسب للتدريب على الإطلاق حين قُدم لهم تحدٍ مختلف قليلًا؛ ولذلك يتساءل: إذا كانت مكاسب التدرب على تذكر الأرقام لم تتحول إلى تذكر الحروف، لما إذن يتحول التدرُب الافتراضي على إيجاد الطيور إلى القيادة، أو الأداء الأكاديمي، أو الذاكرة اليومية؟
الحفاظ على نشاطك العقلي بعيدًا عن ألعاب العقل
يرى بوت أن برامج تدريب العقل ما هي إلا اختصار جذاب لخطة تحسين مستوى الذكاء سريعًا، لكن تحسين الإدراك والحفاظ عليه ليس سهلًا ولا سريعًا، فربما يتطلب تحديًا معرفيًّ وتعلمًا طوال الحياة، أو على الأقل لفترة طويلة.
ماذا تفعل إذن لو كنت قلقًا بشأن إدراكك؟
ينصح بوت بمواصلة اللعب إن كنت منخرطًا في ألعاب العقل ومستمتعًا بها، لكن ابق تطلعاتك واقعية، إذا كنت تلعب لجني الفوائد المعرفية فحسب، ضع في اعتبارك ممارسة أنشطة أخرى محفزة معرفيًا أو مُرضية على الأقل، مثل تعلم لغة جديدة أو تعلم العزف على آلة موسيقية.
وتقترح بعض الأدلة أن النشاط الجسدي قد تكون لديه القدرة على المساعدة في الحفاظ على الإدراك. وحتى لو كانت ممارسة الرياضة غير مؤثرة في الإدراك، ففوائدها الصحية جلية، لذا فلا ضير من ممارستها، بحسب بوت.
ويرى بوت أن أهم درس مستفاد من الدراسات عن التدريب أنه في حال كنت ترغب في تحسين أدائك في أمر يهمك، فما عليك سوى ممارسته. فلعب تمارين العقل سيحسن أداؤك فقط في لعب تمارين العقل.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».