ما تزال المطاعم والمدارس والشركات مفتوحةً في بيلاروسيا حتى الآن، فيما تتجاهل الحكومة خطر انتشار فيروس كورونا، وتقلّل من جدّية الجائحة. يشرح تقريرٌ منشور حديثًا على موقع صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية الأسباب المحتملة لهذا الموقف الرسمي، وتشابهه مع مناهج الأنظمة الاستبدادية في مختلف أنحاء العالم.
إنكارٌ رسميّ
بحسب التقرير يقف رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو عقبةً أمام مواجهة (كوفيد-19)، بالرغم من ظهور نحو 5 آلاف حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا المستجدّ وأكثر من 40 حالة وفاة بالبلاد. تعدّ بيلاروسيا الآن الدولة الوحيدة التي تنكر خطر فيروس كورونا في أوروبا، ولقد أوضح الرئيس موقفه الرافض للإعلان عن حالة حجر صحيّ كامل، وأن الخوف من فيروس كورونا ليس سوى «ذهان» على سكان بيلاورسيا العقلاء تجاهله.
بدأت سلطات عاصمة بيلاروسيا مينسك باتخاذ بعض الإجراءات الإلزامية لمواجهة فيروس كورونا في 7 أبريل (نيسان) من العام الجاري. تنطبق هذه التدابير فقط على مدينة مينسك، وتتمثل في: الطلب من الجميع غسل أيديهم بانتظام في الكنائس والأديرة، وحملات تعقيم وسائل النقل العام وأماكن التجمعات العامة، وارتداء الكمامات في صالونات التجميل، وكذلك إبقاء مسافات أكثر من 1.5 متر بين الطاولات في المطاعم وأماكن تقديم الطعام، وإيقاف زيارة دور رعاية المسنين.
لا تزال الإجراءات في باقي المدن إرشادية فقط، ولم تُفرض بصورة إلزامية حتى الآن وفقًا للتقرير. ما زال الناس يذهبون إلى أعمالهم في جميع أنحاء البلاد – بما في ذلك العاصمة – المدارس والمطاعم والصالات الرياضية مفتوحة لروّادها، وخدمات وسائل النقل العام تعمل على قدمٍ وساق دون تأثر.
لماذا تتشبّث الحكومة بمبدأ إنكار خطر فيروس كورونا؟ وماذا يعني ذلك فيما يتعلّق باستجابة الأنظمة الاستبدادية للتهديدات العالمية عمومًا؟
يجيب التقرير: لا تتمتع بيلاروسيا إلا بموارد اقتصاديةٍ محدودة وتنتظرها الانتخابات الرئاسية في 30 من أغسطس (آب) المقبل، وقد يكون لهذين الأمرين علاقة بموقف الحكومة المتمنّع عن الحجر الصحي والإجراءات المطلوبة الأخرى. لكن – ينوّه التقرير – يساعد وضع بيلاروسيا الاقتصادي والجيوسياسي الفريد في تفسير سبب استجابة الحكام الأوتوقراطيين في مختلف أنحاء العالم بمجموعة واسعة من أشكال الاستجابات المحتملة للأوبئة.
الاعتماد على جهود الدول الأخرى
استفادت الحكومة البيلاروسية من استجابة الدول الأخرى لفيروس كورونا، وكذلك من استجابة شعبها نفسه. وحتى الآن، لم تبذل الحكومة إلا جهودًا ومساهمات مالية محدودة لاحتواء الجائحة.
بيلاروسيا في الأساس دولة حبيسة (غير ساحلية)، وقد أغلقت الدول المجاورة لها – بولندا وأوكرانيا وليتوانيا ولاتفيا – حدودها البرية خلال أول أسبوعين من شهر مارس (آذار)، مع وجود استثناءات محدودة لنقل البضائع والمسافرين الدبلوماسيين.
عزلت هذه الإجراءات بيلاروسيا فعليًا دون أن تبذل حكومتها أيّ جهد يُذكر. يُعطي هذا فرصةً استثنائية للحكومة البيلاروسية لتحظى بـ«هدية مجانيّة» من الدول الأخرى، فهي الآن غير مضطرة لدعم الأفراد والشركات التي كانت لتفقد العمل بالإغلاق الرسمي أو الإجراءات الصارمة التي كان على بيلاروسيا أن تتخذها للحدّ من خطر التعرض لفيروس كورونا.
وعلى الرغم من الاستجابة الرسمية المحدودة في بيلاروسيا، فقد انضم أطباؤها للحملة العالمية الداعية للبقاء في المنازل محرّضين الجميع على تقليل التواصل مع الآخرين ما أمكن.
ويشير التقرير إلى دعوة قادة المعارضة والمجتمع المدني البيلاروسي إلى «الحجر الصحي الشعبي» والمقرر العمل به من 23 مارس حتى 30 أبريل، مطالبين الناس بالبقاء في المنازل في هذه الفترة وتطبيق الحجر على أطفالهم وذويهم أيضًا مع تخفيض التفاعلات الاجتماعية إلى أقصى حدّ ممكن.
وبينما أصرّت وسائل الإعلام الرسمية على التقليل من شأن الأزمة ومدى جدّيتها، يتخذ الكثير من البيلاروسيين الاحتياطات اللازمة ويجدون طرقهم الخاصة لتحقيق نوعٍ من العزل الذاتيّ دون انتظارِ القرارات الرسمية. ويبدو ذلك جليًّا بانخفاض حجم حركة المرور اليومية خلال أيام العمل الأسبوعية في مينسك 37.5% منذ بداية شهر مارس.
هل تماطل الحكومة من أجل الانتخابات؟
في صيف 2020 سيترشّح ألكسندر لوكاشينكو لفترة ولايته السادسة. وفي هذا المجال يقترح التقرير أنه بالامتناع عن تصنيف الفيروس بمثابة تهديد، تصرف الحكومة البيلاروسية الانتباه عن قدراتها المحدودة فيما يتعلّق بمساعدة المحتاجين.
نما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 1.5% فقط عام 2019، وهو ما يمثّل تراجعًا عن نسبة النموّ البالغة 3.05% عام 2018.
أدت الجائحة العالمية إلى تفاقم مشاكل بيلاروسيا الاقتصادية على مستويات متعددة، ويشمل ذلك ارتفاع الدولار وتعليق عمل الشركات الأجنبية.
وما زال الفيروس التاجي المستجد السبب الجذري الكامن وراء التحديات الاقتصادية المتزايدة، مما يحدّ من جوانب ضعف الحكومة لتقتصر على الفرص المشتركة والمشحونة بالعواطف لحشد الاحتجاجات المتأثرة بالعوامل الاقتصادية.
فضلًا عما سبق، أدت الجائحة العالمية إلى تفاقم مشاكل بيلاروسيا الاقتصادية على مستويات متعددة، ويشمل ذلك ارتفاع الدولار وتعليق عمل الشركات الأجنبية.
يضب التقرير مثلًا بشركة «بل جي» – وهي أكبر شركة مصنّعة لسيارات الركاب في بيلاروسيا – والتي عانت من تأخيراتٍ في توريد مكونات سيارات «جيلي» من الصين، إذ يقع أكبر مصنعٍ للزجاج الأمامي لشركة «جيلي» في مدينة ووهان، حيث بدأ انتشار الفيروس من الأساس.
يسعى لوكاشينكو لتجنب انتباه الناخبين إلى سوء تعامل الحكومة في المجال الاقتصادي، وذلك بتحويل التركيز لقوته الشخصية وقدرته على مكافحة الفيروس التاجي وفقًا للتقرير. قد يهدف هذا النهج في التعامل إلى تقليل فرص الاحتجاجات قبل الانتخابات، وتجنب الاشتباكات المحتملة مع المعارضة وردود الفعل السلبية من الغرب كذلك.
الأنظمة الاستبدادية والتهديدات العالمية
يطرح عالما السياسة ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات فكرة استفادة القادة ذوي العقول الأوتوقراطية من الأزمات، لأن حالات الطوارئ توفّر فرصًا مهمة للمطالبة بسلطات استثنائية.
ويقترح ديكلان والش في مقالٍ منشور له مؤخرًا أن الأوتوقراطيين حول العالم يتوجهون إلى «عدّة أدواتهم المجرّبة والمثبت نجاحها» لفرض سيطرتهم الكاملة على الوضع الفوضوي الناجم عن الفيروس التاجي.
يشير ما يحدث في بيلاروسيا إلى أن الحكومات المركزية السلطة تصبّ اهتمامها على الحفاظ على صورتها وسلطتها، حتى ولو لم تكن طريقة استجابتها فعالة أو ملائمة لمعالجة أزمة الجائحة الراهنة. تعتمد استجاباتهم على الموارد المتاحة، بالإضافة أيضًا للوضع الجيوسياسي الخاصّ بكل بلد.
عملت بروباجندا وإعلام الدولة لسنواتٍ عديدة على تشكيل صورةٍ لوكاشينكو بمثابة ضامنٍ النظام والقائم عليه، ولرسم صورة لبيلاروسيا على أنها جزيرة السلام والاستقرار وسط الكوارث المستعرّة في العالم – من ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية أو مسألة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم – ويبدو أن لوكاشينكو عازمٌ على الاستمرار في ترسيخ هذه الصورة.
يذكر التقرير مثالًا على ذلك: توقفت الرياضات الاحترافية في جميع أنحاء العالم، لكن الدوري البيلاروسي للمحترفين ما يزال يبثّ مباريات كرة القدم حتى اللحظة. ومع ذلك، إذا أراد لوكاشينكو الحفاظ على سلطته يتعيّن عليه أن يجد طريقه ما بين الحفاظ على علاقاته مع الغرب مقابل مطالب موسكو لتحقيق تكاملٍ أكبر، والانتخابات الرئاسية المقبلة وتاريخ القمع الوحشي للمعارضة في البلاد.
يُلخص التقرير في الختام بأن الحكومة البيلاروسية استطاعت إبعاد الانتباه عن قصورها في تقديم الإغاثة الاقتصادية للمحتاجين في فترة ما قبل الانتخابات الرئاسية المهمة، وذلك عبر متابعة الإنكار الرسميّ لخطر جائحة كورونا والاستفادة بنفس الوقت من استجابة الدول المجاورة للفيروس التاجي – فضلًا عن تشجيع البيلاروسيين لبعضهم على تطبيق التباعد الاجتماعي، بالرغم من تكذيبات لوكاشينكو للأمر – وإذا وجدت الحلول لخطر الجائحة قبل الانتخابات الرئاسية، فستنسب الحكومة الفضل لنفسها لقدرتها على النجاح بالحرب ضد الفيروس التاجي، أما إذا استمرت الجائحة لفترةٍ أطول من ذلك فقد يؤدي هذا النهج إلى نتائج عكسية متسببًا في اضطراباتٍ شعبية بالبلاد ومعرّضًا علاقات بيلاروسيا مع الغرب إلى الخطر.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».
علامات
ألكسندر لوكاشينكو, أنظمة ديكتاتورية, استبداد, الديكتاتورية, بيلاروسيا, ترجمات, حكومات, دولي, روسيا, روسيا البيضاء, صحة, فيروس كورونا, كورونا, كوفيد -19, واشنطن بوست