دراسة تصف كيف أجرى الباحثون أول تسلسل ناجح للحمض النووي لكشف عِرق مومياوات مصرية قديمة.
كتب فيليب بيري، مدوِّن وكاتب يكتب في عدد من المجلات، مقالًا حول محاولات الباحثين التوصُّل إلى عِرق المصريين القدماء، ومن أين أتوا، بعد أن تمكن العلماء للمرة الأولى من إجراء تسلسل للحمض النووي للمومياوات.
في مطلع مقاله، يشير الكاتب إلى أن علماء المصريات والكتاب والباحثين وغيرهم تجادلوا حول عِرق المصريين القدماء منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل. ويعتقد بعضهم اليوم أنهم كانوا أفارقة من جنوب الصحراء الكبرى، ويمكننا حتى أن نرى هذا التفسير الشائع – في هوليوود بشكل كبير- مصورًا في الفيديو الموسيقي لمايكل جاكسون عام 1991 في أغنية تذكر الوقت (Remember the Time) من ألبومه دينجرس (Dangerous).
وفي غضون ذلك، يقول بعض الرجعيين إنه لم تكن هناك أبدًا أي حضارة سوداء مهمة – وهذا زيف مطلق بالطبع بحسب وصف الكاتب، لقد كان هناك في الواقع عديد من الإمبراطوريات والممالك الأفريقية المتقدمة عبر التاريخ. ومن الغريب أن بعض الجماعات اليمينية المتطرفة قد استخدمت حتى بيانات فصائل الدم لتعلن أن الملك توت عنخ آمون وإخوانه يعودون بأصولهم إلى منطقة الشمال الأوروبي، وهو ما نَفَته دراسات الأعراق والجينات لاحقًا.
تسلسل الحمض النووي للمومياوات
ولفت الكاتب إلى أنه كان يُعتقد أن المشكلة تكمن في أن الحمض النووي للمومياء لا يمكن تسلسله، لكن مجموعة من الباحثين الدوليين، باستخدام أساليب فريدة، تغلبوا على الحواجز لكي يفعلوا ذلك، ووجدوا أن قدماء المصريين كانوا أكثر ارتباطًا – بشكل أساسي- بشعوب الشرق الأدنى، لا سيما مع بلاد الشام وشرق البحر المتوسط الذي يضم اليوم دول تركيا والعراق وفلسطين المحتلة والأردن وسوريا ولبنان وأجزاء من شرق وشمال مصر، وكانت المومياوات المستخدمة في الأبحاث من عصر الدولة الحديثة وفترة لاحقة (فترة متأخرة عن الدولة الوسطى) عندما كانت مصر تحت الحكم الروماني.
ووفقًا للدراسة التي نُشِرت في مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز»، يشترك المصريون المعاصرون في 8% من الجينوم الخاص بهم مع سكان وسط أفريقيا، وهو عدد أكبر بكثير من الجينوم القديم، ولم يحدث تدفق الجينات الواقعة جنوب الصحراء الكبرى إلا خلال الـ 1500 عام الماضية. ويمكن أن يُعزى ذلك إلى تجارة الرقيق عبر الصحراء أو إلى التجارة العادية الطويلة المسافة بين المنطقتين، ويزعم الباحثون أن تحسين التنقل عبر نهر النيل خلال هذه الفترة أدَّى إلى زيادة التجارة مع داخل القارة.
وتعرَّضت مصر للغزو على مدار العصور القديمة عدة مرات، بما في ذلك من جانب الإسكندر الأكبر والإغريق والرومان والعرب وغيرهم، وأراد الباحثون معرفة هل تسببت هذه الموجات المستمرة من الغزاة في أي تغييرات جينية كبيرة لدى السكان بمرور الوقت أم لا. يقول رئيس المجموعة فولفجانج هاك من معهد ماكس بلانك في ألمانيا في بيان صحفي: «لم تخضع العوامل الوراثية لمجتمع أبو صير الملق لأي تحولات كبيرة خلال الفترة الزمنية التي درسناها، والتي تبلغ 1300 عام، مما يشير إلى أن السكان ظلوا غير متأثرين نسبيًّا من الناحية الوراثية بالغزو والحكم الأجنبي».
الحمض النووي وعِرق المصريين القدماء
وألمح الكاتب إلى أن الدراسة قادها عالم الآثار يوهانس كراوس، وهو أيضًا من معهد ماكس بلانك. وتاريخيًّا، كانت هناك مشكلة في العثور على حمض نووي سليم من المومياوات المصرية القديمة. وأشارت الدراسة إلى أن «مناخ مصر الحار، ومستويات الرطوبة العالية في عديد من المقابر، وبعض المواد الكيميائية المُستخدَمة في أساليب التحنيط، تسهم في تدهور الحمض النووي ويُعتَقد أنها تجعل بقاء الحمض النووي على المدى الطويل في المومياوات المصرية أمرًا غير مرجح».
كما كان يُعتقد أنه حتى لو جرى استرداد المادة الجينية، فقد لا تكون موثوقًا بها. وعلى الرغم من ذلك، تمكن كراوس وزملاؤه من تقديم أساليب قوية لتسلسل الحمض النووي والتحقق منه، وأكملوا أول اختبار جينومي ناجح على المومياوات المصرية القديمة.
وجاء كل منهم من أبو صير الملق في بني سويف، وهو موقع أثري يقع على طول نهر النيل، على بعد 70 ميلًا (115 كم) جنوبي القاهرة، وتضم المقبرة الواقعة هناك مومياوات تعرض جوانب تكشف عن تكريس عبادة أوزوريس، إله الحياة الآخرة ذي البشرة الخضراء في الرسومات القديمة.
أولًا، أُخِذت جينومات الميتوكوندريا من 90 مومياء، ومن هذه، وجد كراوس وزملاؤه أنهم لا يستطيعون الحصول على الجينوم الكامل إلا من ثلاث مومياوات فقط. وفي هذه الدراسة، أخذ العلماء عينات من الأسنان والعظام والأنسجة الرخوة. وقدَّمت الأسنان والعظام معظم الحمض النووي، وتوفرت لها الحماية باستخدام أنسجة رخوة جرى الحفاظ عليها من خلال عملية التحنيط.
وأخذ الباحثون هذه العينات إلى مختبر في ألمانيا. وبدأوا بتعقيم الغرفة، ثم وضعوا العينات تحت الأشعة فوق البنفسجية لمدة ساعة لتعقيمها، ومن هناك، تمكنوا من إجراء تسلسل الحمض النووي.
مقارنة جينوم المومياوات
أفاد الكاتب أن العلماء جمعوا أيضًا بياناتٍ عن التاريخ المصري والبيانات الأثرية لشمال أفريقيا، لإعطاء اكتشافاتهم بعض السياق، وأرادوا معرفة التغييرات التي حدثت مع مرور الوقت، وكم أجل التوصل لحقائق، وقارنوا جينوم المومياوات بجينوم 100 مصري معاصر و125 إثيوبيًّا، قال كراوس: «على مدى 1300 عام، نرى استمرارية جينية بين العِرقين».
وكانت أقدم مومياء جرى تسلسلها تعود إلى الدولة الحديثة، 1388 قبل الميلاد، عندما كانت مصر في أوج قوتها ومجدها. وكانت المومياء الأحدث تعود إلى عام 426م، عندما كانت البلاد خاضعة للحكم الروماني. وتعد القدرة على الحصول على بيانات خاصة بالجينوم عن قدماء المصريين إنجازًا كبيرًا يفتح آفاقًا جديدة للبحث.
وأحد القيود وفقًا لتقريرهم، «جرى الحصول على جميع بياناتنا الجينية من موقع واحد في مصر الوسطى وقد لا تكون ممثلة لكل مصر القديمة»، ويقولون إن التركيب الجيني للناس في جنوب مصر، قد يكون مختلفًا، حيث إنه أقرب إلى المناطق الداخلية للقارة.
ويريد الباحثون في المستقبل أن يحددوا بالضبط متى تسربت جينات أفريقيا جنوب الصحراء إلى الجينوم المصري ولماذا. وسيرغبون أيضًا في معرفة من أين جاء المصريون القدماء أنفسهم، وللقيام بذلك، يتعين عليهم تحديد الحمض النووي في عصور أقدم، كما قال كراوس، «بالعودة إلى ما هو أبعد من ذلك في الزمن، في عصور ما قبل التاريخ». باستخدام تسلسل الحمض النووي العالي الإنتاجية وتقنيات التحقق المتطورة، أثبت الباحثون أنه يمكنهم استرداد الحمض النووي الموثوق به من المومياوات، على الرغم من المناخ القاسي وتقنيات التحنيط الضارة.
واختتم الكاتب مقاله بالقول إنه من المحتمل أن تسهم مزيد من الاختبارات في معرفة كثير بشأن فهمنا لقدماء المصريين، وربما حتى أولئك الذين ينتمون لأماكن أخرى أيضًا؛ مما يساعد على سد الفجوات في الذاكرة الجماعية للبشرية.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».