حروب أمريكا الإمبريالية الجديدة ربما تشق طريقها لبلادهم لتبقى.

بدأ ترامب حكمه بشحن عنصري، ليصل الحال بأمريكا – عقب ثمانية أشهر من بداية مدته – إلى اشتباكات عنيفة بين حشود من القوميين البيض و الـ«كو كلوكس كلان» المنتمين لليمين المتطرف، وبين مجموعات أخرى مناهضة للعنصرية؛ وذلك بسبب خطط المدينة لإزالة تمثال الجنرال روبرت لي، الذي قاد القوات الكونفدرالية في الحرب الأهلية الأمريكية. قتل شخص واحد وجرح 11 آخرين في تلك الاشتباكات بين أمريكيين وأمريكيين، في مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا.

وهنا يتساءل خوان كول، أستاذ التاريخ بكلية ريتشارد ميتشيل بجامعة ميتشجان، في مقاله المنشور على موقع «ذا نيشن»: هل تلك الاشتباكات بين طرفين أمريكيين تنذر بأن أمريكا التي سعت طويلًا شن حرب إمبريالية أفسدت الشرق الأوسط تتحول لتصبح مثل الشرق الأوسط نفسه؟ ولعل الأهم هل تمتد جذور المشكلة التي تظهر الآن إلى تاريخ أمريكا الإمبريالي الجديد منذ بداية دعم ريغان الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي في القرن الماضي وعززتها حرب بوش المتلاعبة في العراق؟

يقول «خوان» لطالما تورط الأمريكيون في شئون الشرق الأوسط على مر العقود القليلة الماضية، لدرجة أنهم بدأوا يفسرون سياساتهم الخاصة وفقًا لتلك المنطقة. ويتساءل هل قيادة سيارة ودهس مجموعة من المتظاهرين فعل داعشي؟ هل تهديم تمثال الجنرالات الكونفدرالية يشبه تدمير الآثار الآشورية السورية القديمة؟ وهل الديكتاتور السوري بشار الأسد قاتل جماعي أم أنه حصن منيع ضد جحافل الأصوليين؟ وهل يفيد استعارة مثل تلك الرموز من منطقةٍ فعلت الولايات المتحدة الكثير لإفسادها؟

 

تشير «جويس كرم» إلى أن المسيرة القومية البيضاء في شارلوتسفيل واقعة في غرام الأسد، فقد سافر «ديفيد دوك»، أحد رموز الـ «كو كلوكس كلان»، كثيرا لدمشق كي يلقي الخطب لعدة سنوات، إذ جذبه خطاب الحزب الحاكم السوري «حزب البعث» المعادي للسامية وإسرائيل. علاوة على ذلك، يعرب القوميين البيض عن اعجابهم بالاتحاد الروسي باعتباره معقلًا للبيض. كما سخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوات بلاده الجوية لخدمة الأسد، فضلًا عن أن كلًا من اليمين المتطرف الأمريكي والروسي – وبعض عناصر اليسار الأمريكي المتطرف- يعتبرون الأسد حصنًا منيعًا ضد الإرهابيين الإسلاميين.

في ربيع عام 2017، ضرب الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» سوريا بصواريخ كروز، وذلك عقب مزاعم إطلاق النظام الحاكم السوري لغاز السارين على المدنيين بالقرى، إلا أن مجلة بريتبارت أشارت إلى أن الضربة كانت من عمل «إيفانكا ترامب»، وعزا موقعا «ديفيد ديوك» – قومي أمريكي أبيض كان قائدًا سابقًا لحركة كو كلوكس كلان – و«النازيون الجدد» الضربة إلى «التطرف اليهودي» و«التلاعب» من اليهود على التوالي. جدير بالذكر أن بريتبارت هي مجلة على الإنترنت أسسها كبير استراتيجيي البيت الأبيض الحالي ستيف بانون كصوت لـ«اليمين البديل» وهو تيار يتبنى أيدولوجيات يمينية متطرفة مع رفضِِ للسياسة المحافظة، وتتسم أفكاره بأنها انعزالية، معادية للسامية، وتدعم معتقد سيادة البيض، كما أنها تتداخل مع النازية الجديدة، والأهلانية، والإسلاموفوبيا.

اقرا أيضًا: إن لم تكن معي فأنت ضدي.. هكذا كان عصر الرعب في أمريكا «المؤمنة»

معاداة السامية في أمريكا تتخذ منعطفًا جديدًا

شواهد معاداة السامية لها تاريخ طويل في أمريكا، لكن ربطها بسياسة إسرائيل والشرق الأوسط هو منعطف جديد

يذكر الكاتب ما قالته العصابات اليمينية المتطرفة التي غزت شارلوتسفيل نهاية الأسبوع الماضي: «لن تحل محلنا»، لكن في مرحلة ما غيرت شعارها لتقول «اليهود لن يحلوا محلنا». يعكس هذا الشعور أن نظريات المؤامرة حول كون العولمة نتاج المصالح التجارية اليهودية، التي أدت بدورها إلى تصدير الأعمال التجارية الأمريكية إلى الخارج أو استيراد العمالة الرخيصة من الخارج. ويرى أن مثل تلك الشواهد لها تاريخ طويل في أمريكا، وعلى الأقل تعود إلى الجبهة المسيحية للأب تشارلز كوجلين في الثلاثينات -الذي استغل انتشار برنامجه الإذاعي لنشر رسالة «أمريكا أولًا» متضمنة هجومًا على اليهود – لكن ربطها بسياسات إسرائيل والشرق الأوسط هو تحول جديد.

وصفت الديلي بيست والعديد من المعلقين الآخرين جريمة القتل بالسيارة أنها «هجوم إرهابي على غرار داعش»، والتي يزعم أن مرتكبها «جيمس فيلدز جونيور»، وأسفرت عن مقتل «هيثر هيير» البالغة من العمر 32 عامًا، وتسببت في إصابة 19 آخرين بجروح.

كانت الإشارة إلى استخدام السيارات لضرب المدنيين بأنها فعل (ذئب منفرد) متعاطف مع تنظيم الدولة الإسلامية المتهاوي الآن، أو بعبارة أخرى: إن الهجوم العنيف من فعل شخص متعاطف مع داعش، لكنه نفذه خارج إطار التنظيم ودون مساعدته، في حين أن داعش لم تكن رائدة في اتباع هذا التكنيك، إذ استخدمه الإرهابيون من أطراف عدة طوال سنوات، على سبيل المثال استخدمه اتباع التنظيمات الإرهابية لقوة فتكه الخاصة، في يوليو (تموز) 2016، قاد رجل من أصول تونسية حافلة نقل ثقيل، داهسًا بها الحشود في مدينة نيس الفرنسية، متسببًا في مقتل أكثر من 80 شخصًا. وفي 3 يونيو (حزيران) هذا العام، شن رجلان من أصول مغربية وثالث ولد في باكستان هجومًا إرهابيًا بالسيارات على جسر لندن؛ ما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، هم على الأرجح سائحون من الخارج.

إرهاب داعش والقوميين البيض

يشبه المتهم المزعوم في هجوم شارلوتسفيل الإرهابيين الشباب الدواعش في أوروبا

اعتبر اليمين المتطرف سريعًا هجوم السيارة عملية تكتيكية، فيما يبدو أنه حادث انتقامي، حيث قاد رجل بريطاني شاحنة وسط المصلين في مسجد فينسبري بارك في لندن في التاسع عشر من يونيو (حزيران)؛ مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة 11 آخرين.

ويقول الكاتب: إنه المفارقة، أن المتهم المزعوم في هجوم شارلوتسفيل «جيمس فيلدر» يشبه بعض الشباب الإرهابيين الدواعش في أوروبا. فقد اتخذ من النازية الألمانية قدوة، وانغمس في دقائق تاريخها العسكري. حاول الانضمام للجيش، لكن تم تسريحه بعد إنهائه التدريب الأساسي العام لعدم تلبيته المتطلبات. فضلًا عن أن اتصالات أمه القعيدة على كرسي متحرك بالنجدة تظهر استغاثتها لدى اعتدائه عليها وترهيبها، لدرجة أنه في أحد المرات وجَّه سكينًا نحوها. ويقال إنه يتناول أدوية بوصفة طبية؛ لأنه يعاني من مشاكل الغضب، مثلما هو الحال مع «محمد بولهيل» المتهم في هجوم «نيس»، إذ يعاني الأخير أيضًا من مشاكل غضب وإساءة معاملة أسرته.

اقرأ أيضًا: أمريكا التي لا تعرفها.. 5 كتب تكشف الجانب المظلم للسياسة الأمريكية

إرهاب الأجانب مقابل مشاكل غضب المواطنين!

(ديلون هوبر، خدم في الجيش الأمريكي في حرب أفغانستان وحرب العراق، وأحد المنتمين لجماعة فانغارد أمريكا)

يقول الكاتب: إن جدلًا آخر – متوقعًا – اندلع مؤخرًا حول ما إذا كان ليوصف المتهم في هجوم شارلوتسفيل بالإرهابي، في مقابل وصفه بـ«المتهور» في فورة غضب قاتلة؟ يخشى البعض من أن القذف بتهمة «الإرهاب» يمكن أن يشجع الحكومة على محاولة توسعة قوانينها المتعلقة بالإرهاب الداخلي، في وقت تتزايد فيه عدائية وزارة العدل تجاه أية معارضة. أما البعض الآخر، من بينهم الكاتب نفسه، أشاروا إلى أنه في حال كان «فيلد» مسلمًا، لما كان هناك جدل حول استخدام أية تسمية منهما.

ويذكر أن هناك جدلًا مماثلًا يجري بالتوازي في الشرق الأوسط، العديد من الداعمين للثوار المتبقين في سوريا غاضبون على نحو مبرر من وصفهم بأنهم: إما تنظيم قاعدة أو داعش، مشيرين إلى أن العديد منهم أرادوا فقط الهروب من طغيان حزب البعث – الحزب الحاكم الأوحد – وعلى نفس المنوال، لا تتفق النخبة السياسية اللبنانية مع الولايات المتحدة وإسرائيل في أن حزب الله منظمة إرهابية، بل يرون أن وظيفته حارس قومي لجنوب لبنان؛ نظرًا لتاريخ محاولات إسرائيل الطويل لضم جنوب لبنان. فذلك الطابع غير المستقر لتعريف الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، أدى ببساطة إلى افتراض شخص «مبتدئ» كدونالد ترامب أن الحكومة اللبنانية هي حليف للولايات المتحدة الأمريكية ضد حزب الله، الذي يعد حقيقة جزءًا من الحكومة اللبنانية، ولطالما كان جزءا منها لسنوات عديدة.

ازدواجية مواقف القوميين البيض

(صورة لمجموعة من المنتمين لجماعة فانغارد أمريكا من أحد معسكراتهم)

في أعقاب فظائع هجوم شارلوتسفيل، تجمعت حشود يسارية احتجاجا على أجندة القوميين البيض، في دورهام بولاية نورث كارولينا، وأسقطت الحشود تمثالًا لجنرال كونفدرالي. بينما ردد جناح اليمين الأمريكي لبعض الوقت أن إزالة أو تخريب الآثار الكونفدرالية يشبه هجمات تنظيم الدولة الإسلامية على المواقع التاريخية. فقد اعتبرت الجماعة المتشددة المسلمة المتمردة أن الآثار الآشورية وغيرها من التماثيل والآثار أعمال الشيطان، كما حدث في عام 391 م، عندما مزق البطريرك الروماني ثيوفيلوس وأتباعه معبدًا وثنيًا «سرابيوم» في الإسكندرية باعتباره عملًا من الشيطان.

غير أن تماثيل الشخصيات الكونفدرالية ليست تماثيل طويلة الأمد؛ إذ انتصبت أغلبها في بدايات القرن العشرين ومنتصفه كحركة وطنية قومية رسمية في الجنوب، احتفاءًا بـ«جيم كرو» ورفضًا ضمنيًا لحركة الحقوق المدنية. إلا أن العديد من الناس يعتبرهم احتفالًا بثقافة الرقيق في المنطقة. أما تاريخيًا، في المقابل كان اليمين الأمريكي منتشيًا عندما دمر الروس أو غيرهم من التابعين للاتحاد السوفيتي سابقًا تمثال ستالين، وفي عام 2003، دبرت إدارة بوش إسقاط تمثال صدام حسين في العراق الذي احتلته الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا يؤكد الكاتب أن تلك الأفعال لا تبدو مسألة حفاظ على التاريخ، بل يبدو أن القضية هنا هي الحفاظ على تاريخ القومية البيضاء.

روج جناح اليمين الأمريكي لبعض الوقت إلى إزالة أو تخريب الآثار الكونفدرالية يشبه هجمات تنظيم الدولة الإسلامية على المواقع التاريخية

يشير الكاتب إلى أن قياس الأمريكان أنفسهم بالشرق الأوسط ليس من قبيل الصدفة، فقد ساعدت حقبة الإمبريالية الجديدة للولايات المتحدة في المنطقة على التأثير في طريقة نظرة الأمريكيين لأنفسهم، تغيرت الحقبة بطريقة كبيرة مع بداية تشجيع رونالد ريغان لليمين المتطرف الإسلامي في تمرد عصاباته ضد السوفييت في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي، وبلغت أقصاها مع جورج بوش عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). ومن خلال تحركات لا يمكن التراجع فيها، ساعد ريغان في صعود القاعدة، بينما ساعد بوش في صعود داعش، موفرين مزيدًا من مبررات النزعة العسكرية الجديدة. إن مئات الآلاف من الأمريكيين الآن عاصروا تدخل الجيش في العراق وفي افغانستان.

برزت باستمرار عناوين حول تهديدات بالإرهاب الأجنبي، مزحزحةً الأضواء عن الخطر الحقيقي للقوميين البيض داخل أمريكا نفسها، فعلى الرغم من أن محاربين الجيوش القدامى هم شعب مثير للإعجاب، ساهم بحث إدارة بوش المستميت عن أهداف حربية في خفض المعايير العسكرية، فضلًا عن أنه لا يخفى على أحد أن القوميين البيض سعوا للمشاركة في حروب بوش كجزء من أيديولوجيتهم، ويبدو أن أحد هؤلاء هو زعيم إحدى مجموعات الكراهية التي جابت شارلوتسفيل. ويختتم قائلًا: إن حروب أمريكا في الخارج ساهمت في تغذية تيار التفوق الأبيض الجديد، وإن أعتى حروبنا هي تزييف السياسات الداخلية، ولعل الإجابة عن السؤال في العنوان هي: «نعم» أمريكا تتحول لتصبح مثل الشرق الأوسط.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد