السنوات الأولى من الولادة وحتى سن الثامنة هي سنوات جوهرية وحاسمة لنمو الأطفال الاجتماعي والعاطفي والفكري، ولكن التعليم في أستراليا في هذه السنوات الأولى مقسَّم إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل التعليم الإلزامي، ويسمى غالبًا تعليم الطفولة المبكرة، ومرحلة التعليم الإلزامي التي يقضي فيها الطفل ثلاث سنوات.

بهذا استهلَّت مارتينا تاسون، محاضرة اللغة والثقافة في جامعة ملبورن، مقالها الذي نشره موقع «ذا كونفرزيشن» الأسترالي، والذي تحدثت فيه عن مشكلات نظام التعليم في المراحل الأولى من عمر الأطفال، وكيف يؤثر ذلك في نموهم الفكري والاجتماعي والعاطفي.

تواصل الكاتبة مقالها فتقول: في الآونة الأخيرة، كان التركيز في السنوات الثلاثة الإلزامية على التقييم الذي يُنتج بيانات بالأرقام (درجات) وكان المدرسون في حاجة إلى إثبات أن الأطفال يستوفون المعايير ويحققون هذه الأرقام.

وعلى النقيض من ذلك، يكون التركيز في سنوات ما قبل التعليم الإلزامي على ملاحظة الطفل والتفاعل معه وتستند ممارسات المعلمين في هذه المرحلة على الاعتقاد القائل إن جميع الأطفال متعلمون فاعلون وقادرون على اكتساب المعرفة، وبهذا أصبح هناك هوَّة كبيرة بين هذه الأنظمة التعليمية المنفصلة؛ إذ ينتقل الأطفال من اللعب إلى أداء الاختبارات في غمضة عين وهذا التغيير المفاجئ في طريقة تعليم الأطفال يمثل مشكلة.

السنوات الأولى من عمر الأطفال

تلفت الكاتبة إلى مراجعة البحوث التي أُجرِيت عام 2015 حول أفضل الممارسات في سنوات الطفولة الأولى حددت العوامل الرئيسة في التدريس والتعلم الناجح، وأوضحت المراجعة أهمية العوامل التالية:

  • الانتقال السلس من التعليم قبل الإلزامي إلى التعليم المدرسي الإلزامي.
  • التعليم المرتكز على اللعب.
  • رؤية الأطفال على أنهم مؤهلون ولديهم القدرة الذاتية على التعلم.
  • تفاعلات وحوارات تتضمن مناقشات ثرية بين الأطفال وأقرانهم وبين الأطفال والمعلمين.

أدخلت أستراليا منهجًا إلزاميًّا وبرنامج تقييم وطنيٍّ في المدارس الابتدائية ونوَّهت الدراسة إلى أن هذا الأمر يعني أن عديدًا من مدرسي الصفوف الأولى قد تبنُّوا نهجًا أكثر رسمية ومحدودية للتعليم في المدارس، وهو غير مناسب للأطفال الصغار.

ويمكننا أن نرى هذه الفجوة الناتجة من اختلاف أنظمة التعليم بين السنوات الأولى غير الإلزامية والتعليم الإلزامي في ولاية فيكتوريا؛ فمن ناحية، يحتاج المعلمون أن يعرفوا الحاجات اللازمة للأطفال من سن الولادة وحتى ثماني سنوات، ومن ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 5 أعوام إلى 12 عامًا، يتطلب المنهج الفيكتوري من المعلمين أن يقيِّموا التلاميذ ويعطوهم درجات وفقًا لمعايير المناهج المرصودة لهذه المرحلة.

Embed from Getty Images

إن التركيز على التقييم الرسمي وبيانات الأرقام في السنوات الأولى من التعليم تعني أن أطفالًا بعمر ست سنوات يمكن أن يوصموا بالفشل وفي بلدان مثل فنلندا وسنغافورة، التي صُنِّفت على أنها الأفضل أداءً في مجال التعليم، لا يبدأ الأطفال التعليم الرسمي قبل عمر ست أو سبع سنوات.

ووصفت إحدى الدراسات السنوات الأولى في بلدان مثل المملكة المتحدة وأمريكا وأستراليا بأنها كانت تحت رحمة سياسات التطوير من القمة إلى القاعدة، الأمر الذي أدَّى إلى «أن يسود مناخ من المعيارية الشديدة والتقييم الإلزامي في السنوات الأولى للأطفال»، وبيَّن باحثون بريطانيون حقيقة «التحول إلى بيانات الأرقام» في السنوات الأولى وتأثيراته في الأطفال والمدرسين على حد سواء واستخدم الباحثون الأستراليون مصطلح «إجبار الصغار ليصبحوا كبارًا بالغين» لوصف التوقعات غير الواقعية المطلوب من الأطفال تحقيقها.

اختبارات الأطفال.. ما الذي يحدث في مدارسنا؟

تشير الكاتبة إلى أن بحث الدكتوراة الذي أجرته وجد أن «التحول إلى بيانات الأرقام» و«إجبار الصغار ليصبحوا كبارًا بالغين» هي التي تُعرِّف التعليم في ولاية فيكتوريا ولغايات البحث، تعاملتُ مع أكثر من 100 مدرِّس ومدرِّسة للمرحلة الأولية لاستكشاف طرق تعليم القراءة والكتابة ومسارات تقييمها التي يطبقونها في الصفوف الدراسية، والأمر الذي لاحظت تكراره هو أن هؤلاء المدرسين كان المتوقع منهم أن يقيِّموا الأطفال الصغار دوريًّا بطرق رسمية وتحويل هذه البيانات إلى أرقام (درجات).

وأعرب المدرِّسون عن إحباطهم من هذا الأمر، ووصف أحدهم السنوات الأولى بأنها «مقتولة بسبب التقييم»، وعبَّر آخر عن أسفه لأن توقعات المجتمع غير عقلانية؛ إذ إن «الناس مولعون بالبيانات والأرقام». وكان هناك شعور غامر بأن المعلمين يعرفون أطفالهم أفضل من أي جهة أخرى، ولذلك، يجب أن يكونوا هم المؤهلين لتقييم الأطفال بالطريقة التي يرونها مناسبة، وأيضًا اختيار طرق تدريس القراءة والكتابة المناسبة بدلًا من إلزامهم باستخدام مجموعة من أدوات التقييم التجارية.

تقول الكاتبة إن إطار التعلم والتطوير في السنوات المبكرة لولاية فيكتوريا (VEYLDF) صُمم لدعم معلمي السنوات الأولى الذين يتعاملون مع الأطفال والأُسر أيضًا، ويقوم هذا الإطار التعليمي على فرضية مفادها أن الأطفال لديهم فرص كبرى لتطوير مساراتهم العصبية من أجل التعلم، وهم أيضًا الأكثر عرضة للتجارب السلبية منذ الولادة وحتى ثماني سنوات.

Embed from Getty Images

ويعتمد الإطار أيضًا على الأبحاث حول أفضل الممارسات التعليمية للأطفال في هذه السنوات، وبدلًا من التقييم الرسمي المعتمد على الأرقام، يدعو إطار (VEYLDF) إلى إجراء تقييم واقعي وتفاعلي يمكن للأطفال جميعهم من خلاله إظهار ما تعلموه وكيف، يتطورون ويتقدمون.

وتُشجع إدارة التعليم في فيكتوريا المدرسين على استخدام هذا الإطار، إلا أننا لا نعرف كم شخصًا يستخدم الإطار فعليًّا في التدريس والتعلم، وبما أن وضْع درجات للطلاب وفقًا للمعايير المناهج الدراسية أمر إلزامي منذ بداية التعليم الإلزامي، فلا نستطيع تحديد عدد المدرسين الذين يعتمدون إطار (VEYLDF)؛ إذ من الصعب أن يكون لك مكانٌ في كلا المعسكرين، كما أن المدرسين يجدون أنفسهم مجبرين على التقييم بالطريقة الرسمية وإعداد الأطفال للمرحلة التالية التي تتضمن برنامج التقييم الوطني (NAPLAN).

الأطفال يجب أن يمارسوا طفولتهم

وعلى الرغم من هذا الواقع الشديد الوطأة على الأطفال، فإن هناك بعض المدارس التي تجاهلت النظام الرسمي واتبعت نظامًا خاصًّا، ومدرسة سانت جون الابتدائية المتعددة الثقافة واحدة من هذه المدارس، ويكفي أن تُلقي نظرة على موقعها الإلكتروني لتعرف أنها تتبع فلسفة مختلفة.

مجتمع

منذ سنة واحدة
مترجم: بعد تداعيات كورونا.. كيف يمكن تطوير التعليم في الشرق الأوسط؟

تقول الكاتبة: تعرَّفتُ أثناء محادثتي مع مديرة المدرسة في ذلك الوقت، جيما جوديير، على المعتقدات التي تتبناها المدرسة، والتي كانت مستوحاة من التدريس والتعلم في مدارس ريجيو إميليا في إيطاليا. تقول جيما إن الأطفال لا يأتون إلى المدرسة ليكونوا «جالسين في مقاعدهم»، بل يجب أن يشركهم المدرِّسون في العملية التعليمية عن طريق توفير خبرات تعليمية هادفة ومرتبطة بسياق معين لجذب انتباههم، وبالطبع، بتركيزهم على التجربة التعليمية الغنية، لا يزال الأطفال يحصلون على درجات رائعة دون الخضوع لامتحانات باستمرار.

وتختم الكاتبة بالقول: حان الوقت لإعادة النظر في سنوات الدراسة الأولى، والتأكد من أن المدرسين لديهم المهارات والفهم الذي يحتاجون إليه لدعم الأطفال في هذه المرحلة، ويجب أن تكون هذه السنوات وقتًا ينخرط فيه الأطفال ويشعرون بالحماسة للتعلم، كما يجب أن يمتلئ وقت المدرسة بالبهجة وأن يُسمح للأطفال بأن يمارسوا طفولتهم.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد