ألقت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية الضوء على معاناة اليمنيين بسبب الحرب الأهلية التي تدور رحاها بين جماعة الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله من جهة والقوات الحكومية الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي من جهة أخرى. وذلك في تقرير أعدَّته سيبوهان أوجرادي، رئيسة مكتب الصحيفة الأمريكية في القاهرة وعلى المجاهد الصحفي بالصحيفة نفسها، حيث يروي الكاتبان القصة في صورة فصول أشبه بفصول الرواية، مجسدَيْن الهول والحزن والألم والمعاناة التي يعيشها الشعب اليمني من جرَّاء هذه الحرب، وموضِّحَيْن أنه بسبب هذه الحرب، يضطر أب يمني إلى الاختيار بين علاج أحد طفليه وترك الآخر ليواجه مصيره.

ويستهل الكاتبان التقرير بقولهما: كان الاختيار يلوح في الأفق أمام ناظري محمد فليت أحمد، ويثقل كاهله بالخزي فأطفاله يتضورون جوعًا، وغدا أصغر طفلين من أولاده مريضين، تحترق أجسادهما النحيلة من الحمى، وتتألم صدورهما الهزيلة من حر الزفرات. وكانت جيوب محمد خاوية، وتزيد تكلفة الرحلة إلى المستشفى على ما يتكسَّبه في شهور.

وفي محاولة يائسة للحصول على المساعدة، توسَّل محمد إلى رجل أعمال محلي لإقراضه المال. فوافق الرجل على إقراضه نحو 50 دولارًا – ما يكفي فقط للمساعدة في دفع تكاليف سفر طفل واحد إلى المدينة. وليس أمام الطفلة الأخرى إلا البقاء في القرية.

الاختيار المستحيل

يشير التقرير إلى أن كل يوم يأتي على محمد ومعه مثل هذه المذلة المتجددة؛ محنة مؤلمة ومستحيلة. هل يأكل نصيبه من قوت عائلته، أم يصوم ليأخذ كل طفل لقمة إضافية؟ هل يخرج للبحث عن عمل يعلم أنه غير موجود، أم يستجدي نبات القات المخدر، ثم يحاول بيعه مقابل مبلغ زهيد؟

والآن أُجبر على الاختيار بين طفلين يحبهما، وقد وُلِدا قبل 9 أشهر من زوجتين مختلفتين. مَرِض الصبي عليّ في البداية، وتفاقم المرض ببطء ثم فجأة أُغمِضت عيناه ولم يستطع أن يفتحهُما. وكان المرض ينهش أخته رينا بأنيابه هي الأخرى، لكن عينيها كانت لا تزال مفتوحة.

ولم يكن هناك متسع من الوقت لتقييم خياراته، فقرر محمد أن الطفل الأكثر مرضًا يحتاج إلى العلاج أولًا. لذلك، حمل محمد طفله وبدأ رحلة من السير المضني إلى الوادي، أملًا في العثور على رحلة إلى المدينة.

الأزمة التي تخيم على اليمن

يلفت التقرير إلى أن هذا الوادي يقع في محافظة حجة، حيث كان كثيرون، مثل محمد، يعملون باليومية ومزارعي قات. لكن مع ارتفاع أسعار الوقود وسط الحرب الأهلية الطويلة في اليمن، بدأت الشاحنات التي كانت تُقلهم إلى العمل تختفي. وتوقفت مشروعات البناء وأصبحت هناك منافسة شديدة على الأعمال الزراعية القليلة؛ مما خلَّف عديدًا من الرجال دون أي مصدر للدخل.

Embed from Getty Images

وفي الوقت نفسه، ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وعجزت العائلات عن شراء مواد غذائية أساسية، مثل الأرز والخضراوات. وفي محافظة حجة، سجَّل برنامج الغذاء العالمي زيادة بنسبة 25% في أسعار المواد الغذائية هذا العام. وقال عديد من النساء اللواتي يعانين من الجوع الشديد، إن الظروف جعلت إرضاع أطفالهن مستحيلًا. وتنتشر أزمة الجوع في اليمن على نطاق واسع، حيث لا يتجاوز طعام كثير من الناس في منطقة محمد أوراق الشجر المسلوقة.

وأفلتت البلاد بشق الأنفس من إعلان المجاعة الرسمي، ولكن الآن، تقول الأمم المتحدة إنه دون تدخل عاجل آخر، فإن مثل هذا التصنيف سيكون أمرًا لا مفر منه. وقالت الأمم المتحدة إن ما لا يقل عن 5 ملايين شخص على شفا المجاعة، ويعيش نحو 47 ألف شخص بالفعل في ظروف شبيهة بالمجاعة، من بينهم 5 آلاف في منطقة المغربة التي يعيش فيها محمد. ولا يوجد نقص في الغذاء فحسب، بل هناك عوائق مالية لشراء الطعام.

عربي

منذ سنة واحدة
مترجم: قرن من الأزمات المتفاقمة.. متى تنتهي أزمة منطقة تهامة اليمنية؟

ومنذ نحو سبع سنوات، حارب المتمردون الحوثيون الحكومة المعترف بها دوليًّا للسيطرة على البلاد. وتسيطر الحكومة، بدعم تحالف عسكري تقوده السعودية، على المجال الجوي للبلاد وفرضت قيودًا شديدة على ميناء الحُدَيْدَة على البحر الأحمر، وهو بوابة مهمة للواردات لشمال البلاد.

وألقى الحوثيون باللوم على القيود المفروضة على الميناء في أزمة الوقود ورفضوا مناقشة هدنة حتى إعادة فتح المطار في صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون ورفع جميع القيود المفروضة على الميناء، ويقول المحللون إنه في الوقت الذي تسهم فيه قيود الموانئ في ارتفاع أسعار الوقود، يُخزَّن الوقود الذي يدخل المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون ويُباع بأسعار مرتفعة في السوق السوداء؛ مما يزيد من تفاقم الأزمة.

الرحلة.. مأساة أشبه بالخيال

يضيف التقرير: وباستخدام الأموال التي اقترضها محمد في ذلك اليوم من أغسطس (آب)، عثر محمد وزوجته أنيسة على مقعدين في شاحنة ظلت تطوي الأرض طيًّا لعدة ساعات حتى نقلتهم إلى مدينة حجة، عاصمة المحافظة. وفي الشاحنة، كان عقل محمد مشغولًا بالطفل المجاور له وأخوته الآخرين الذين تركهم خلفه، كما روى لاحقًا.

Embed from Getty Images

وفي المنزل، حاولت بشرى، الزوجة الأخرى، رعاية أطفال الأسرة الثمانية الآخرين. وكانوا يستيقظون كل صباح وهم يبكون من الجوع. ولا أحد في العائلة يمتلك هاتفًا، لذلك لم تستطع سماع أخبار الصبي أو إبلاغ محمد بأن حالة طفلته رينا كانت تزداد سوءًا. وتتذكر قائلة: «كنتُ أخشى أن يموت هو هناك، وتموت هي هنا».

عندما وصل محمد وأنيسة إلى المستشفى، وجدا أن طفلهما يعاني من سوء تغذية حاد والتهاب رئوي. وبعد أربعة أيام من وصوله إلى المستشفى، توفي علي. وقالت أنيسة: «لفَظَ أنفاسه الأخيرة بين يديَّ، فاحتضنته وقبَّلته، وكان هذا كل شيء».

وفي ذلك المساء، عاد الوالدان اللذان فجَعَهما الموت في صغيرهما إلى المنزل. ودُفِن علي بالقرب من منزلهم في تلك الليلة، وغطوا قبره الصغير بكومة من التراب والعصي.

الأمل باق برغم شبح الموت

ألمح التقرير إلى أنه عندما أُغمِضت عيون رينا كما حدث مع علي قبل وفاته بقليل، ظن محمد أنها علامة شؤم. ولكن بما أن جيرانه فقراء مثله، لم يكن هناك فرصة للاقتراض. وفي اليوم التالي جلست بشرى تغلي أوراق الشجر المعروفة محليًّا بالحَلَص لتناول طعام الغداء. وكانت الطفلة رينا تدخل في غيبوبة وتفِيق منها وهي بين ذراعيها.

وعندما طُبِخت الأوراق وتحوَّلت إلى يخنة خضراء، تجمع الأطفال حولها، وظلوا يأكلون ويلعقون أصابعهم حتى زوال كل شيء. ووقف محمد يسكب مسحوق التبغ الرخيص في فمه للمساعدة في كبح شهيَّته.

وقالت بشرى: «لو كان لدينا أموال، لكنا أخذناها إلى المستشفى».

وقال محمد: «من المحتمل أن تموت هنا. ماذا نستطيع أن نفعل»؟

وبعد ظهر ذلك اليوم، سار محمد وأنيسة على طريق ترابي إلى مكان دفن ابنهما على تل صغير.

وقال محمد: «أنا أفكر في الطفلة. الطفلة ستلحق بأخيها».

الفرصة الأخيرة

وأفاد التقرير بأنه في اليوم التالي بعد أن أُغمِضت عيون رينا وراحت تتردى في عالم الغيبوبة، علم فريق من صحفيي «واشنطن بوست» الذين كانوا يزورون القرية بحالتها ورتبوا لرحلة مجانية لنقل محمد وبشرى ورينا إلى مستشفى في مدينة حجة في اليوم نفسه. وفي مستشفى الجمهوري، كتب فريق من الممرضات من جناح سوء التغذية قياسات رينا بعناية. طولها: 24 بوصة (60 سم) وزنها: 11.9 رطل (5.3 كجم) ومحيط أعلى ذراعها: 4.25 بوصة (10.7 سم).

Embed from Getty Images

وساعدت القياسات في تأكيد شكوك الطبيب عادل علي العبدلي. وكانت رينا تعاني من سوء تغذية حاد، والذي يمكن أن يضعف جهاز المناعة لدى الأطفال ويجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. وإذا كان الجوع وحده لا يقتل الطفل، فغالبًا ما تؤدي الآثار الجانبية الأخرى إلى ذلك المصير.

وقال إنه حتى أولئك الذين حالفهم الحظ في تلقي العلاج، غالبًا ما يعودون إلى الظروف نفسها التي أصابتهم بالمرض في البداية. ويتعين على البعض العودة للعلاج مرةً أخرى، ولكنهم لا يعودون أبدًا، ووضَع رينا على الطاولة واستمع إلى أنفاسها التي تخرج بصعوبة. وقال إنه يشتبه في إصابتها بعدوى في الصدر. ومع المضادات الحيوية والحليب المدعَّم والفيتامينات، سيكون لديها فرصة جيدة للشفاء.

وفي غرفتين صغيرتين خارج القاعة، جلست نحو 12 أمًّا شابة أخرى مع أطفال يعانون من سوء التغذية على أسرَّة مصطفة إزاء الحائط، وكان أطفالهن يرقدون بجانبهن.

وقال العبدلي إنه لم يتبقَّ سوى سرير واحد. يمكن أن تأخذه رينا.

وخلافًا لشقيقها، كانت لها فرصة أن تعيش.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد