إن التفكير في فهرسة نظريات المؤامرة المعروضة على موقع «يوتيوب» شيء أحمق، لكن دعونا نستعرض بعضها: الهبوط الزائف على القمر، الأرض المسطحة، الأمور المتعلقة بأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، جمعية المتنورين، معارضو التلقيح ضد الأمراض، الدجل الطبي، نيكولا تسلا والأهرامات، العملات الورقية، التبريد العالمي، الأناس السحالي، أسياد الروبوتات، السفر عبر الزمن، وغير ذلك الكثير من الأشياء الأكثر غرابة التي لم تسمع عنها على الأرجح. هكذا بدأ أليكساس مادريجال مقاله الذي نشره على موقع «ذي أتلانتك».
قال موقع «يوتيوب» الشهر الماضي أنه سيوقف اقتراح «المحتوى الذي يمكن أن يؤدي إلى تضليل المستخدمين بطرق ضارة مثل الفيديوهات التي تُروج لعلاج إعجازي زائف لمرض خطير أو تدعي أن الأرض مسطحة أو تدعي ادعاءات كاذبة بشكل لا يقبل النقاش عن الأحداث التاريخية مثل 11 سبتمبر».
لكن فيديوهات المؤامرة ما زالت تملأ الموقع الأكبر للفيديوهات على الإنترنت على الإطلاق. في وقت سابق من هذا الأسبوع قال الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز كيفن روز في تقرير عن استمرار نجاح فيديوهات المؤامرة على يوتيوب: «كثير من الشباب أصبحوا يتبنون نظرة للعالم ترتكز على «يوتيوب» رافضين بذلك المصادر الرئيسية للمعلومات لصالح مُنشئي محتوى ليس لهم وجود سوى على هذا الموقع ويتحدثون عن تواريخ سرية وتفسيرات رسمية مزيفة».
هل «يوتيوب» فعلا مليء بنظريات المؤامرة ولماذا لا يتم حذفها؟
يقول الموقع إن هذه المواد المثيرة للمشاكل تمثل «أقل من واحد بالمائة من المحتوى على يوتيوب». هذا صحيح بلا شك، وخاصة لأن هناك الكثير جدًا من الأشياء على يوتيوب. لقد توصل بحث تم إجراؤه عام 2015 أن نصف مقاطع الفيديو على «يوتيوب» تم مشاهدتها أقل من 350 مرة، وأن 90% منها تم مشاهدتها أقل من 11 ألف مرة تقريبًا.
وهذا يعني أن «يوتيوب» لا تحركه قاعدة الهرم من الفيديوهات نادرة المشاهدة وإنما قمة الهرم من الفيديوهات ذات الشعبية الكبيرة. بمقياس «يوتيوب» تمثل كل فئة من فئات المحتوى أقل من واحد بالمائة من المحتوى، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن لعدد قليل من الفيديوهات أن تستأثر بجمهور واسع جدًا حتى إن كانت بعضها يتحدث عن أن بعض البشر هم في الأصل سحالي.
الحجة الأعمق التي يقدمها موقع «يوتيوب» هي أن فيديوهات المؤامرة على الموقع ليست سوى خطأ. لكن العقلية المؤمنة بنظرية المؤامرة مترابطة في النسيج الاجتماعي ليوتيوب، بل هي في الواقع جزء لا يتجزأ من الإنتاج الاقتصادي في الموقع.
يوفر موقع «يوتيوب» إمكانيات لا نهائية لإنشاء المحتوى ونظامًا بيئيًا مغلقًا وخوارزمية غامضة بالإضافة إلى فرص لعدد قليل جدًا من الأشخاص للحصول على قدر كبير جدًا من المال. وفي حين أن ظروف الإنتاج هذه -التي تحفز إنشاء المحتوى بتكلفة منخفضة جدًا- موجودة في منصات اجتماعية حديثة أخرى إلا أن التوليفة التي يقدمها «يوتيوب» هي التي تجعل فيديوهات المؤامرة تحظى بالشعبية على الموقع وهي التي تجعل من الصعب جدًا اقتلاع تلك الفيديوهات منه.
كيف يتحكم «يوتيوب» بأضواء الشهرة؟
كان من المفترض أن يقوم الإنترنت بجعل وسائل الإعلام مجانية، وهو ما كان ينبغي أن يزيل كل الحواجز نحو الشهرة أمام صانعي المحتوى، لكنه أزالها أما الجميع، وفجأة -وبحسب الكاتب- أصبح كل ركن من أركان الإنترنت عبارة عن برميل من السرطانات، منافسة عشوائية غبية شرسة لا ينتصر فيها سوى قلة مختارة من الأشخاص، وهؤلاء تساعدهم خوارزمية الاقتراح التي تمنح المشاهدات لأسباب لا يمكن لأحد أن يفسرها بشكل صحيح. ولذلك فإن السؤال المحوري لمقدم المحتوى الذي لا يحقق نجاحًا على يوتيوب: هل يتم قمع المحتوى الخاص بي؟
جين تشاي – خبيرة تجميل ويوتيوبر شهيرة
يقول الكاتب: لست فوق هذا التفكير، ولا أحد ممن ينشرون على الإنترنت فوق هذا التفكير. شاهد خبرًا لك يهبط للأسفل بينما خبر آخر مشابه يصعد إلى قمة أخبار جوجل وستجد نفسك تتساءل عن الأسباب. شاهد بعض المنشورات تنتشر انتشار النار في الهشيم على فيسبوك في حين أن منشورات أفضل وأجدر منها بالانتشار تظهر لعدد محدود من المستخدمين وستجد نفسك -أيضًا- تتساءل: هل يتم قمع المحتوى الخاص بي؟
تُطلق، الباحثة في وسائل الإعلام، تاينا بوشر، على الفهم الشعبي لهذه الأنظمة من قبل الأشخاص اسم «الخيال الخوارزمي». وقد توصلت تاينا إلى أن حتى المستخدمين العشوائيين لوسائل التواصل الاجتماعي -ناهيك عن نجوم يوتيوب- «يعيدون اختيار تعبيراتهم لكي يتم التعرف عليها بشكل أفضل ونشرها على نطاق أوسع من قبل خوارزمية إظهار المنشورات للمستخدمين الخاصة بموقع فيسبوك»، ويذهب البعض إلى الخطوة المنطقية التالية ويشعرون أنهم مستهدفون من قبل الخوارزمية أو أن هناك «شيئًا غريبًا» يحدث عندما لا تتم مشاهدة منشوراتهم.
قد يكون الأمر يتم بشكل عشوائي أو يتعلق بالحظ، لكن هذا لا يجعله أقل غرابة. كما يقول عالم النفس روب برذرتون في كتابه عقول مرتابة: «إرث أجدادنا لنا هو دماغ مبرمج لرؤية الصدف واستنتاج الأسباب». ما يعنيه هذا -كما يقول برذرتون- هو أنه «في بعض الأحيان يبدو أن تصديق المؤامرات هو المعادل المعرفي لرؤية معنى في العشوائية».
وأي مكان نرى فيه توزيعًا عشوائيًا لقلة المشاهدات والشعبية الهائلة أكثر من يوتيوب؟
سياسة.. دراما.. ومجتمع قائم بذاته وسط «يوتيوب»
لقد أصبحت كلمتا جوجل وتويتر فعلين في اللغة الإنجليزية بسبب الموقعين المشهورين، أما موقع «يوتيوب» فقد أدى إلى ظهور اسم: يوتيوبر (YouTuber) ويعني الشخص الذي ينشئ فيديوهات ويعرضها على يوتيوب. كون شبه خيالي، حيث يوجد فرق ودراما، واستراتيجيات وتكتيكات، وفائزون (مشاهدات) وخاسرون (مشاهدات أقل). يظهر مشاهير اليوتيوبرز في فيديوهات بعضهم البعض. وهم يركبون الأخبار والمواقف السياسية لتحقيق المشاهدات وينسخون أنواع وحيل فيديوهات بعضهم البعض. كما أنهم يحاربون وسائل الإعلام الخارجية زاعمين الإطاحة بمؤسسة المشاهير القديمة؛ دعم يوتيوبر ما في معركته من أجل الشهرة يعني معارضة قوى هوليوود الكبيرة.
مايكل ستيفنز – يوتيوبر تعليمي شهير يملك قناة على «يوتيوب» باسم (vsauce)
لقد تم تصميم «يوتيوب» كمجتمع حقيقي مبني على منصة أعمال. ومع مرور الوقت قدم يوتيوبرز المشهورون أنفسهم على أنهم يحفظون هذا المجتمع بحمايته من شركة «يوتيوب» وكذلك من يوتيوبرز الزائفين الذين لا يفهمون كيف تسير الأمور. يحب يوتيوبرز إنشاء فيديوهات حول العلاقة بين صانعي المحتوى وشركة «يوتيوب» بل والدخول في التفاصيل الدقيقة حول مستويات تحقيق الدخل. هذا جزء من الميتا دراما الخاصة بهذه المنصة، وهي إحدى الطرق التي يستخدمها صانعو المحتوى لممارسة السلطة ضد الكيان التنظيمي شبه الحكومي لموقع يوتيوب.
في الحقيقة يعتبر صانعوا المحتوى مسؤولين عن تحقيق العوائد الضخمة لموقع يوتيوب، ومع ذلك فهم عاجزون بشكل فردي عن فرض شروط علاقتهم حتى عندما يرتبطون معًا فيما يُطلق عليها شبكات متعددة القنوات من صانعي المحتوى. موقع «يوتيوب» يريد المشاهدات في الأماكن التي يربح منها المال؛ ويوتيوبرز يريدون مشاهدات للمحتوى الخاص بهم سواء كان ذلك لصالح «يوتيوب» أم لا.
أضف أنواعًا معينة من سياسات التظلم وسيكون لديك الوصفة المثالية لمئات من الفيديوهات حول قيام «يوتيوب» بفرض الرقابة على الأشخاص أو قمع آرائهم بشكل أو بآخر.
من هنا كانت المبالغة في رد الفعل على الفيديو التسويقي الذي طرحه موقع «يوتيوب» في نهاية العام الماضي. لقد حصل ذلك الفيديو على رقم قياسي من عدم الإعجابات وصل إلى 15 مليون، ردًا على صناع الفيديو الذين لم يضموا له بيو دي باي (PewDiePie) وهو أكثر يوتيوبرز شعبية بعد قيامه بسلسلة من الأشياء الغريبة بما في ذلك نشر فيديوهات تعادي السامية بحسب الكاتب. لقد عارض مجتمع «يوتيوب» «الحقيقي» شركة يوتيوب، وكما قال أحد التعليقات: «15 مليون عدم إعجاب! إنني فخور بهذا المجتمع».
الكثير من اليوتيوبرز والقليل من المشاهدين!
مما له أهمية بالغة أنه يجب على يوتيوبرز الاستثمار العاطفي في المشاهدين لأنهم يحتاجون أن يقوم هؤلاء المشاهدون بـ«الإعجاب والتعليق والاشتراك». يتعين على المجتمع المخلص المحيط بيوتيوبرز دعمهم بإجراءات ملموسة لرفع ترتيبهم على الموقع. لقد وُجد أن الأشخاص الذين يحبون «يوتيوب» «تزيد احتمالية شعورهم بالارتباط الشخصي بشخصيات البرامج التليفزيونية التي يفضلونها بنسبة 47% مقارنة بمتوسط البالغين».
إنه وسط حميم يولد مشاعر حقيقية بالارتباط بالأشخاص الموجودين على الناحية الأخرى من الكاميرا. إنهم ليسوا نجومًا سينمائيين مغرورين، وإنما يوتيوبرز يخوضون قتالًا شريفًا من أجل الحصول على مشاهدات. إنهم يقدمون لك محتوى حقيقيًا وليس فقط ما يتم ترشيحه بواسطة حمقى وسائل الإعلام الرئيسية.
لكن بسبب إمكانية الوصول السهلة هذه فإن كثيرًا جدًا من الأشخاص يرون الفيديوهات على «يوتيوب» ويقولون: «يمكنني أن أصنع مثله»، وبالتالي يتحول المشاهدون إلى منشئي محتوى بأعداد كبيرة. مقابل كل يوتيوبر مشهور يوجد آلاف يوتيوبرز الآخرين في نفس السياق، مقدمو دروس تعليم ماكياج، مُراجعو أجهزة، مقدمو بث مباشر للألعاب، مذيعو أخبار بأنواعهم، أشخاص يعزفون بالقيثارة، كوميديون (كثير جدًا من الكوميديين)، أشخاص يقومون بمغامرات مرحة. بالنسبة لشخص يتطلع إلى تحسين ترتيبه يعتبر هذا أمرًا مثيرًا للغضب؛ لماذا هذا الرجل؟ لماذا هذه السيدة؟ كيف صار الأمر إلى هذا الواقع؟ لماذا يتم قمع المحتوى الخاص بي؟
يشير الكاتب إلى أن نظام إنتاج المحتوى قد أنشأ نوعًا من سياسات المؤمنين بنظرية المؤامرة الخاصة بموقع يوتيوب. لقد حدد ريتشارد هوفستاتر منذ عقود «أسلوب جنون العظمة» في السياسات الأمريكية. «المتحدث المصاب بجنون العظمة» كان «محمومًا ومفرط الشك ومفرط العداء ومتكلفًا ومروعًا في تعبيراته» ناظرًا لنفسه على أنه حارس «الأمة والثقافة وأسلوب الحياة» ضد «العالم المعادي المتآمر».
قمع لحرية التعبير أم حملة ضد انتشار الغباء؟
يظهر هذا الأسلوب الآن بشكل مختلف على موقع «يوتيوب» متضمنًا نظرية المؤامرة المتعلقة بـ«يوتيوب» ذاته. إنها دائرة مريبة. أية مؤامرة يتم قمعها خارج «يوتيوب» فإنها بالطبع سيتم قمعها بواسطة الخوارزمية الخاصة بيوتيوب. وبالمثل إذا قامت الخوارزمية بقمع المحتوى الخاص بك فإن العالم الخارجي قد يقوم بالشيء ذاته كذلك! ونظرًا لأن الغالبية العظمى من يوتيوبرز يفشلون على موقع «يوتيوب» فإن هناك خط إنتاج ثابت للأشخاص الذين يشعرون بالظلم.
هذا الجمهور من المتضررين تصادف أن يكون مجموعة مثالية لليوتيوبرز الناجحين للعثور على مشاهدين مؤمنين بنظرية المؤامرة سواء كانوا يؤمنون بما يقولونه أم لا. هذه الطريقة التي انتهى من خلالها حال نجم «يوتيوب» لوجان بول -الذي لم يكن معروفًا باهتمامه بنظرية المؤامرات- بإلقاء الخطاب الافتتاحي في مؤتمر حول الأرض المسطحة. بمجرد معرفة أن شيء ما ينجح في عالم «يوتيوب» -أي عندما يتضح أن هناك طلب عليه- فإن جانب العرض من صانعي الفيديو يبدأون عملهم، وكل منهم يحاول العثور على المؤامرة الصحيحة أو الدوران حول مؤامرة ما لرفع مستوى شعبيته في خوارزمية يوتيوب.
والآن ومع محاولة شركة «يوتيوب» استخدام أذرعها لقمع التفكير التآمري السيء، أليس هذا تحديدًا ما قد يتنبأ المؤمنون بنظرية المؤامرة بحدوثه للحقيقة؟ لقد نشرت قناة تُسمى مركز الحقيقة (Truth Center) تساؤلًا بخصوص ذلك قائلة: «يشن موقع «يوتيوب» الآن حملة غير مسبوقة على فيديوهات نظرية المؤامرة، وعليكم أن تتساءلوا عن السبب. إذا كانت المؤامرات تافهة للغاية ومن السهل فضح زيفها، فلماذا إذن تُبذل جهود حثيثة لفرض الرقابة على المؤامرات؟ لماذا لا يتم فضح زيفها فقط؟ لماذا لا يتم السماح للناس بالحرية في التحدث مثلما يُروج موقع «يوتيوب» عن نفسه ولماذا يتم إغلاق أفواههم؟».
الأفكار ذاتها التي بُنيت عليها المنصة يمكن الآن تسليحها من قبل صانعي المحتوى والمستخدمين. إذن لا يقتصر الأمر على أن المحتوى المتعلق بنظرية المؤامرة قد جعل مشاهدي موقع «يوتيوب» أكثر عرضة لتصديق المؤامرات. بل لقد جعل الاقتصاد وأوهام إنتاج المحتوى على «يوتيوب» المحتوى المتعلق بنظرية المؤامرة أكثر احتمالًا للإنشاء والمشاهدة على حد سواء. وقد عززت هذه القوى بعضها البعض لسنوات مما أدى إلى تقويتها مقابل أشكال الرقابة التي يمكن أن يفرضها يوتيوب.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».