يطرح كلٌّ من رئيس منظمة «أطلس نِتورك» مات وارنر، ونائب رئيس البرامج الدولية في المنظمة نفسها توم جي بالمر، وجهة نظرِهما حيال أثر جائحة فيروس كورونا في الأزمة التي تواجهها الليبرالية الآن، ويسجِّلان في تقرير حديث منشور لهما في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية كيف يمكن التعامل مع محاولات نشر المبادئ الليبرالية في الدول المختلفة والحفاظ على ديمقراطية السوق الحرة.

Embed from Getty Images

بصيص أمل

يتحدث مات وارنر وتوم بالمر عن احتماليَّة وصول العالم إلى نقطة تحوُّل خطيرة بالنسبة لليبرالية، ويستشهدان بأحدث التقارير الصادرة عن منظمة «فريدوم هاوس»، والذي يفيد بارتفاع حصة الدول غير الحرة في العالم خلال الخمسة عشر عامًا الماضية مقابل انخفاض حصص الدول الحرة. يتزايد العجز الحكومي اليومي استجابةً لطلب الجمهور بالتدخل للتخفيف من الأثر الاقتصادي الذي خلَّفته جائحة فيروس كورونا، ويحذِّر البعض من أن ينتهز القادة الاستبداديون الفرصة لتوسيع نطاق سيطرتهم باستغلال ظروف الجائحة.

ومع ذلك، قد يكون هذا أوان بدء تقدُّم الليبرالية وإحرازها مكتسبات جديدة، وليس العكس. توصلت دراسة جديدة أجراها اقتصاديون في البنك الدولي – وذلك بالاعتماد على بياناتٍ مجموعة من 190 اقتصادًا على مدى السنوات الخمسة عشرة الماضية- إلى أن ترجيح احتمالية تحفيز الإصلاحات الليبرالية عند المرور بالأزمات المالية – من قبيل ما فعلته الجائحة في البلدان المختلفة في أنحاء العالم – وخاصةً في مجالات السياسة الاقتصادية فيما يتعلق بمسائل الملكيَّة والاستثمار والتجارة.

يرى المقال أن النقطة الحاسمة تتمثل في كيفية تصرُّف المدافعين الليبراليين حيال «بصيص الأمل» ذلك. لم تحقق جهود ما بعد الحرب الباردة لنشر الديمقراطيات الليبرالية نجاحًا حتى الآن. وبدلًا من الوصول إلى نهاية التاريخ التي كان يؤذن بها فرانسيس فوكوياما عام 1989، أدَّى النهج الغربي «المتباهي بالمعرفة» والمبشِّر بالمؤسسات الليبرالية للدول الأخرى إلى إحداث استياءٍ واسع مضادٍّ للتأثيرات الغربية. ورغم ذلك، يحاجج عالما السياسة إيفان كراستيف وستيفن هولمز بأنه يجب علينا اعتبار هذا الاستياء بأنه رد فعل ساخط على طريقة فرض الليبرالية كما يُرى، وليس رفضًا لليبرالية في حدِّ ذاتها.

يحاول المقال أن يستخلص نتيجةً محددة هنا: يتوجب على الليبراليين التوقف عن التفكير في الليبرالية وكأنها شيء يمكن لهم وحدهم أن يمنحوه، بل عليهم أن يعترفوا بها مثالًا عالميًّا له جذوره ومتعلقاته في العديد من التقاليد والثقافات المختلفة. وعلى هذه الأسس يمكن لبناء المؤسسات الليبرالية الدائمة أن يتحقق في أماكن متنوعة.

فلسفة

منذ 5 سنوات
فوكوياما: لقد فهموا نظريتي خطأً! متى تموت «نهاية التاريخ»؟

ليبراليَّة بأيدٍ محلية

يثبت البحث المكثف حول التغيير المؤسسي ما سبق، وما أدلَّ على ذلك من القول المأثور: «يدعم الناس ما يساعدون في إيجاده». إذا ما أرادت المؤسسات الليبرالية أن تدوم وترسخ في الأماكن الجديدة، عليها ألا تكون مجرد نسخ مقلدة من مؤسساتٍ نمت في أماكن أخرى.

ويضيف الكاتبان أن ما تملكه المؤسسات الديمقراطية الليبرالية في الغرب من اتجاهات تقسيم السلطات وحقوق الملكية وحرية التبادل، وحرية التعبير والتداول العام وغير ذلك، هي كلها نسخ لها خصوصيتها الفريدة من مثل الليبرالية العليا، ولكنها ليست المثل بحد ذاتها. تُبرز تلك النسخ نجاحها، ولكنها كلها قيد التطور والعمل. بصياغةٍ أخرى: تستحق هذه النسخ الدراسة المعمَّقة، ولكنها ليست أمورًا معلَّبة للنقل والتفعيل الفوريِّ في مكانٍ آخر.

قد يدفع هذا النوع من التفكير إلى تحوُّل جذري في نهج المساعدة الخارجية للتنمية. يشير المقال إلى وجود عددٍ من الأصوات داخل دوائر التنمية ممن يدفعون نحو إحداث هذا التغيير، وهم يدعون إلى ما يُسمى بأجندة «التوطين» – أو «إضفاء الطابع المحلي» – ويتمثل بتقليص دور وتأثير الحكومات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية وتضييق تركيزها على عددٍ قليل من المجالات التي يكون من الأنسب بقاؤها وإسهامها بها، بما في ذلك مجالات تبادل المعلومات وتوفير الدعم التشغيلي للمنظمات الحكومية المحلية بهدفِ زيادة قدراتهم على إحداث التغيير وتوجيهه بأنفسهم.

ينوِّه المقال إلى الأثر الذي أحدثته جائحة فيروس كورونا في هذا المجال الآن، فمع سياسات التقشف المنتشرة واسعًا عبر قطاعات التنمية – بما في ذلك المؤسسات الكبرى مثل أوكسفام ووزارة التنمية الدولية البريطانية – يصبح التوجه لهذا التغيير أمرًا قابلًا للتحقيق، وربما وشيكًا حتى على مستوى لم نكن لنتخيَّله حتى قبل عام. وقد يفتح هذا نافذةً صغيرة للحدِّ بشكلٍ دائم من تأثير الجهات الخارجية غير المبرر في مسائل التنمية المحلية.

Embed from Getty Images

لا يعني المقال بهذا وجود حالةٍ من الالتباس تجاه ما يجب دعمه في الدول، فوفقًا لما يقترحه الكاتبان يجب أن تظل الأولوية للإصلاحات والمؤسسات الليبرالية. ويتأتَّى هذا عبر المنطق نفسه الذي يوصي بالفيدرالية ومبادئها المتمحورة حول تفريع السلطة بصورةٍ متساوية لتطوير الأعمال في الدول الأخرى، فاللامركزية هي السبيل. لكن، إذا ما استمرَّ الأجانب بالإمساك بمقاليد الأمور – حتى ولو عن غير قصد – ستستمرُّ جهودهم في التسبب بإثارة الاستياء، ومن ثم يتبع ذلك ما هو أخطر وأشد سوءًا: الفشل في خدمة الاحتياجات المحليَّة.

منهج اللامركزية

ينصح المقال بالنظر إلى العمل الخيري الخاص بالنسبة لمعظم المنح المقدمة للمنظمات غير الحكومية الأجنبية، وذلك بهدفِ بلوغ الحدِّ الأقصى من التأثير. وفقًا للمقال، يكون العمل الخيري الطوعي غير الحكومي عادةً أقل عرضةً لتشوهات المصالح الخاصة والتلاعبات السياسية. كما يدخل عاملٌ آخر في الثناء على العمل الخيري الخاص، وهو مرونته الأكبر بشأن المعايير المطلوبة المحددة مسبقًا للقبول.

ويستشهد الكاتبان بعمل منظمتهما لإبراز أهمية هذه المرونة، فمن خلال تقديم المنح استطاعت منظمة «أطلس نتورك» إدارة مجامع بحثية وفكرية ومنظمات غير حكومية مختلفة في السنوات الأخيرة، وعبرها تعلموا الصمتَ والإصغاء. دعت المنظمة المستفيدين من المنح ليخبروهم بالإمكانيات والأولويات واحتمالات طرق تنفيذ ما يمكن فعله، والأهم من ذلك كيف سيقيسون نجاحهم بالنسبة للمشروعات التي يقترحونها.

يمكن للأشخاص المقربين من المشكلات إيجاد حلول ذات جدوى وفعالية أكثر، وبوقتٍ أسرع كثيرًا مما يمكن أن تقدمه البيروقراطية.

يتناسب هذا النموذج بصورةٍ ملائمة مع ما يعرفه الكاتبان عن طرق نشر الأفكار والأفعال الجيدة. أجرى سيميون دانكوف واقتصاديون آخرون في البنك الدولي دراسة حول الإصلاحات التنظيمة بعد جائحة كوفيد-19، وفيها وجدوا أن الدول التي تشترك فيما بينها بحدود، أو تتاجر بمستوياتٍ كبيرة معًا، يُرجَّح أن تتبنى من إصلاحات جيرانها وشركائها التجاريين. يكمن السبب في التالي: ترى الدول بأم عينها النجاحات والإخفاقات وسيرورة الإصلاحات في البلدان المجاورة، ومن ثم يمكن لهذه الدول بمبادرةٍ ذاتية منها أن تقرر أيًّا من التغييرات التي يجب تبنِّيها وأفضل السبل لتحقيقها.

يرى الكاتبان أن الليبرالية اللامركزية استراتيجية رشيدة للاهتداء إلى الطريق في هذه الأوقات الحرجة من التاريخ. جاء عام 2020 ليُرينا حدود النماذج المركزية للعمل. فشل النماذج المركزية على نطاقٍ واسع، بدءًا من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، إلى دائرة ضريبة الدخل، إلى إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى المستوى العالمي يسري الأمر كذلك على منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة. تأتي هذه الأحداث تذكيرًا مهمًّا بأن هناك حدودًا حقيقية جدًّا لأنواع المشكلات التي تستطيع السلطات البعيدة حلها، بغض النظر عن مدى التمويل المتوفر أو التدريب الجيد المعمول به.

في فترةٍ مبكرة من الجائحة، استثمر الملياردير بيل جيتس المليارات من الدولارات في سبعة لقاحات يجري تطويرها لمكافحة فيروس كورونا. أقدم جيتس على تخصيص هذه الأموال كلها لهذه الخيارات السبعة في آن واحد، مع علمه بأنه – وفي أحسن الأحوال – قد ينجح واحدٌ منها أو اثنان. يعرف جيتس أنه من الخطأ الكبير وضع كل الرهانات على حلٍّ أو خيارٍ وحيد غير مثبت الفعالية. لا يقتصر الأمر على المخاطر التي ستزداد إلى حدٍّ كبير في حالِ اعتمادِ خيار واحد، بل أيضًا حدِّه من أيِّ فرصة للتعلم؛ إذ لا تعود تتولَّد نتائج بديلة للمقارنة.

Embed from Getty Images

تتيح الاقتصادات الليبرالية –بافتراضها اتخاذ نهج اللامركزية في صناعة القرار- حالةً من التعلم والتجريب السريع المفعول وواسع النطاق وغير المنسَّق. من المؤكد استفادة هذا النموذج من المعرفة والخبرة التي قدَّمها النهج المركزي، ولكنه يدمج أيضًا المعرفة المتفرقة التي نمتلكها عن ظروفنا الفردية. يمكن للأشخاص المقربين من المشكلات إيجاد حلول ذات جدوى وفعالية أكثر، وبوقتٍ أسرع كثيرًا مما يمكن أن تقدمه البيروقراطية الكبيرة والبعيدة.

عند مواجهة الخوف وعدم اليقين، تتوجه غريزتنا فورًا إلى تحويل القرارات الصعبة إلى الخبراء، والإصرار على تنفيذ حل موحَّد لمشكلاتنا المتنوعة – وهو ما قد نظن أنه الحل الأفضل أيضًا – لا ينفي المقال أن للخبراء دورهم المهم في تجميع المعرفة ونشرها، لكنهم غير قادرين على معرفة ما يكفي لاستحضار حلٍّ واحد فعَّال وموحَّد لجميعنا باختلاف ظروفنا وأماكننا. يرى الكاتبان أن هذا هو الدرس الذي تعلمناه في محاولتنا الفاشلة لتثبيت الديمقراطيات الليبرالية في جميع أنحاء العالم، ومع بروز هذه الأزمة يمكن أن تُفتح أمامنا فرصة ثانية لتصحيح الأمر. وينهي الكاتبان مقالتهما بجملة: دعونا نستمر في صنع التاريخ!

اقتصاد الناس

منذ سنتين
«فورين بوليسي»: كيف تحول الإغلاق الكامل بسبب كورونا إلى ثورة اقتصادية؟

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد