تجري بعض الكليات الحربية دراسات استراتيجية محاولة لدراسة البدائل المتاحة أمام القادة قديمًا، أو ما يعرف بـ«التاريخ البديل»، ولعل دراسة ملابسات إطلاق أول قنبلة نووية، ومآلات الحرب العالمية الثانية، والخيارات البديلة التي كان من الممكن اتباعها أحد مواضيع الدراسة التي قد تخلص إلى دروس تتعلم منها الأجيال القادمة. يتساءل «جيمس هولمز»، الرئيس الافتتاحي لكرسي جوزيف كولدويل ويلي للاستراتيجية البحرية، في الكلية الحربية البحرية، في تقرير له نشر على موقع «ناشيونال إنترست» عن فرص اليابان في الانتصار في الحرب العالمية الثانية، لولا هجومها على بيرل هاربر وما تبعه من تصعيدات.

يقول «جيمس»: ربما كان بإمكان البحرية اليابانية دفع القوات الأمريكية إلى مغادرة جزر الفلبين، وبسط سيطرتها على جزر المحيط الهادي، وبناء مطارات لها هناك، واستغلت المقاتلات والغواصات في الهجوم على أسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادي خلال رحلته غربًا لإغاثة الفلبين. ولكانت العمليات الاعتراضية قد بلغت ذروتها في معركة بحرية تدور رحاها في مكان ما غرب المحيط الهادي، وكانت اليابان لتحظى بفرصة نجاح أكبر لو قامت بذلك. إذ كان لا يزال بإمكان قواتها البحرية أن تغير على الأراضي الأمريكية للدخول في الحرب، ولكنها كانت ستفعل ذلك بشكل أقل استفزازية. وفي جميع الاحتمالات، كان الرد الأمريكي سيكون أقل صخبًا، وأكثر قدرة على تعامل اليابانيين معه.

التاريخ البديل.. محاذير وفوائد

إذا أراد الناقد إبداء الثناء أو اللوم، فعليه أن يتأكد من وضع نفسه مكان القائد بالضبط، وعليه أن يُلم بكل ما علمه القائد، والدوافع التي أثرت في قراره، ناهيك عن تجاهل كل ما لم يتح له معرفته، خاصةً في ما يتعلق بالنتائج.

يشير الكاتب إلى أن المؤرخين يبدون امتعاضًا شديدًا تجاه التاريخ البديل، وحسب رأيه يكون لأسباب وجيهة في كثير من الأحيان؛ لما في ذلك من تغيير لكثير من المتغيرات، وتحرك سريع في الصورة المُتخيلة، ونتيجةً لذلك، يُصبح التسلسل الذي يربط السبب بالتأثير أكثر تشتتًا ويصعب تتبعه، وبالتالي يفقد التاريخ قدرته على التثقيف. ويردف قائلًا إن «تغيير عوامل رئيسية، لا سيما بأسلوب خيالي-كاستخدام قوات الكونفيدرالية للبنادق الآلية في ميدان القتال ضد جيش يوليسيس غرانت في معركة البراري-، بحيث تؤدي النتائج إلى المصير نفسه بشكل أو بآخر؛ فرواية القصص الجيدة لا تعلم كثيرًا».

الهجوم على ميناء بيرل هاربر

يتساءل الكاتب ماذا لو لم تهاجم اليابان ميناء بيرل هاربر خلال الحرب العالمية الثانية؟ وهل من الممكن التعرض لهذا السؤال دون الوقوع في أخطاء تاريخية، فيقول: طالما أننا ابتعدنا عن إقحام مقاتلات توم كات الاعتراضية السريعة التي تعمل على حماية حاملات الطائرات العاملة بالطاقة النووية في سرديتنا بأي حال من الأحوال، يمكننا حينها الوصول إلى الاحتمالات الأخرى بعيدًا عن التخيلات غير الواقعية، وكذلك عدم الوقوع في الخطأ.

يوضح الكاتب أن عند دراسة إحدى الاستراتيجيات، فإن الدارسين عادة ما يتخذون موقفًا ذاتيًّا من التاريخ البديل، وبطبيعة الحال، تدور الدورات التعليمية في معاهد نيوبورت وكيندريد التعليمية حول ذلك. وهكذا، يصبح بإمكانهم التعلم من الشخصيات والأحداث التاريخية. يوصي كارل فون كلاوزفيتز -الخبير العسكري والمؤرخ الحربي-، بل ويطالب باتباع دارسي الاستراتيجيات هذا النهج، ويضيف أن الدقة والنظام، هما المعيار الذي يوجه عناصر «التحليل النقدي» لكلاوزفيتز، إذ ينصب نقد الاستراتيجيين على المسار الذي انتهجه أحد القادة، بينما يطرحون بدائل قد يكون لها أهداف عملياتية واستراتيجية أفضل.

عادة ما تتشكل طريقة تفكيرنا النقدي حيال المؤسسات الحالية من خلال استراتيجيات النقاش والعمليات في الإدراك المتأخر. إن مفهوم التحليل النقدي الذي يتبناه كلاوزفيتز «ليس مجرد تقييم الوسائل المستخدمة بالفعل، لكنه ينطلي على كافة الوسائل الممكنة التي يجب صياغتها أولًا، ومن ثم ابتكارها، إذ لا يجب على الشخص بشكل عام أن ينتقد وسيلة ما دون أن يكون قادرًا على اقتراح بديل أفضل»، فمن خلال ذلك، يتضح مدى ازدراء المؤرخ الحربي البروسي للمتفيهقين الذين يدعون امتلاكهم كافة الحلول، بعد اتضاح كافة التفاصيل وفوات الأوان.

يؤكد الكاتب أن الأمر يتطلب انضباطًا فكريًّا ذاتيًّا، ويعرض رأي كلاوزفيتز في هذا الصدد «إذا أراد الناقد إبداء الثناء أو اللوم، فعليه أن يتأكد من وضع نفسه مكان القائد بالضبط، بعبارة أخرى، عليه أن يُلم بكل ما قد علمه القائد، ويعرف كافة الدوافع التي أثرت في قراره، ناهيك عن تجاهل كل ما لم يتح له معرفته، أو لم يعرفه بالفعل، خاصةً ما يتعلق بالنتائج»؛ فالمنتقدون لتلك الأحداث يعلمون يقينًا كيف سارت الأحداث في الماضي، لذا، يجب أن يتقيدوا بما قد علمه القائد من معلومات بالفعل من أجل تكوين بعض البدائل الواقعية.

مانيلا، الفلبين عقب سقوطها في يد الحلفاء مرة أخرى 1945

لا يحتاج الأمر لخيال خصب لطرح استراتيجيات بديلة خاصة بالإمبراطورية اليابانية في الحرب العالمية الثانية، فبالفعل قد افترضت شخصيات يابانية بارزة بعض البدائل. يعتقد الكاتب أن أفضل هذه البدائل يتمثل في أنه «كان لا بد أن تتمسك القيادة البحرية العليا بالخطة المتبعة قبل عام 1941»، إذ كان الهجوم على حاملة طائرات بيرل هاربر متأخرًا في مسار الاستراتيجية البحرية اليابانية، وكان –حسب رأيه- عملًا من بنيات أفكار الأدميرال إيسوروكو ياماموتو، فإذا لم يُصر ياماموتو على مواصلة الضغط لشن الغارات على هاواي، أو أن القيادة العليا قد رفضت مناشداته، لكانت البحرية الإمبراطورية اليابانية قد واصلت تنفيذ استراتيجيتها المعهودة بشن «العمليات الاعتراضية».

ويوضح الأمر بطريقة أخرى قائلًا: «لكانت البحرية اليابانية قد دفعت القوات الأمريكية إلى مغادرة جزر الفلبين، وبسطت سيطرتها على جزر المحيط الهادي، وبنت مطارات لها هناك، واستغلت المقاتلات والغواصات في الهجوم على أسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادي خلال رحلته غربًا لإغاثة الفلبين. ولكانت العمليات الاعتراضية قد بلغت ذروتها في معركة بحرية تدور رحاها في مكان ما غرب المحيط الهادي. كانت اليابان لتحظى بفرصة نجاح أكبر لو قامت بذلك»، إذ كان لا يزال بإمكان قواتها البحرية أن تغير على الأراضي الأمريكية للدخول في الحرب، ولكنها كانت ستفعل ذلك بشكل أقل استفزازية، وفي جميع الاحتمالات، كان الرد الأمريكي سيكون أقل صخبًا، وأكثر قدرة على تعامل اليابانيين معه.

انتقام العملاق النائم!

يُعرف كلاوزفيتز عزيمة المقاتل على أنها نتاج القدرة وقوة الإرادة.

يقول الكاتب إن النسخة الهوليوودية لتوقع ياماموتو لنتائج أحداث بيرل هاربر كانت موفقة إلى حد كبير في فيلم «تورا! تورا! تورا!» -الفيلم الحربي الأمريكي الياباني إنتاج عام 1970-، ويضيف: «لقد أيقظنا عملاقًا نائمًا، وملأناه برغبة انتقام مرعبة»، ويصف الكاتب أسلوب صياغة العبارة أو بالأحرى أسلوب كلاوزفيتز في توقع الأحداث بـ«الغني»، إذ يُعرف كلاوزفيتز عزيمة المقاتل على أنها نتاج القدرة وقوة الإرادة. ويلمح ياماموتو إلى موارد الولايات المتحدة الطبيعية والصناعية الهائلة، والتي تصور أمريكا عملاقًا ساكنًا، فضلًا عن أنه يتنبأ بأن الإغارة على سفينة حربية سوف يثير غضب ذلك العملاق؛ ما يدفعه إلى تعبئة تلك الموارد جميعها لضرب اليابان.

يرى الكاتب أن الهجوم على الفلبين ربما أيقظ العملاق النائم، لكن يشكك في كونه سببًا في سيطرة ذلك المزاج القاسي عليه، فكان من الطبيعي أن يهدأ بعض الشيء، ولكن كلاوزفيتز يقول في هذا الصدد إن «قيمة الهدف السياسي» تتحكم في «مقدار» و«مدة» الجهد الحربي المبذول لتحقيقه، فعلى قدر رغبة الطرف المحارب في تحقيق أهدافه السياسية، يتحدد حجم الموارد -من أرواح، وكنوز وطنية، وعتاد عسكري- التي يبذلها للوصول إلى هذا الهدف، والمدى الزمني للصمود على هذا المسعى؛ فهو يدفع ثمنًا باهظًا في سبيل الأهداف التي يتطلع إليها بشدة، وكذلك الأهداف الأقل أهميةً تستدعي إنفاقًا أقل.

لم تشكل جزر الفلبين هدفًا ذا أهمية كبرى، فكان هذا الأرخبيل أرضًا أمريكية، ضُمت في أعقاب الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898، لكن تلك الجزر تقع في الجانب النائي من المحيط الهادي، على بعد آلاف الأميال من الساحل الأمريكي، ولم يُتعرض لتلك الجزر بالذكر في العناوين اليومية للصحف منذ فترة الجدال العلني بين الإمبرياليين، مثل ثيودور روزفلت، ومناهضي الإمبريالية، مثل مارك توين، حول أهمية ضم تلك الجزر. ومن ناحية ورد أن الأمريكيين كانوا يستعينون بأطلس الخرائط في السابع من ديسمبر (كانون الأول) لمعرفة مكان بيرل هاربر، وعليه فقد مثلت الفلبين مساحةً هزيلةً في الوعي العام للشعب الأمريكي حتى الحرب العالمية الثانية.

هيروشيما في أعقاب القنبلة النووية عام 1945

يوضح الكاتب أن استرداد الفلبين آنذاك لم يعدُ كونه هدفًا سياسيًّا ذا قيمة متوسطة في أحسن الأحوال -لا سيما في وقت اندلاع حرب شاملة في أوروبا، والمياه المجاورة- وتجدر الإشارة هنا إلى الارتباط الأمريكي بأوروبا منذ نشأتها. وعليه كان لا بد للجهود الأمريكية في المحيط الهادي أن تظل دفاعية بشكل كامل، وينصب تركيز القيادة الأمريكية للموارد والمجهود الحربي على ساحة الأطلسي، وذلك وفاءً بوعدها الذي قطعته على نفسها لقادة الحلفاء قبل الحرب لفظًا ومضمونًا.

القيام بجهد أقل أو حتى ترك عمل ما بالكامل، يعتبر دائمًا خيارًا استراتيجيًّا قابلًا للتطبيق.

ويقول الكاتب باختصار إن عدم التعرض لجزر هاواي كان من شأنه أن يُجنب اليابان أذىً كبيرًا مثلما توقع الأدميرال ياماموتو، وكان من شأن التريث أن يمنح طوكيو الوقت لتعزيز مكاسبها غرب المحيط الهادي، وربما تمكنت البحرية والجيش الياباني من الاحتفاظ بتلك المكاسب في مواجهة الهجوم الأمريكي المعاكس الفاتر المتأخر، الذي كان مُتوقعًا.

أما الآن وبعد مرور سنوات على الحرب العالمية الثانية، يقترح الكاتب أن نوفي ياماموتو حقه بوصفه مخططًا استراتيجيًّا بحريًّا، فلم تكن استراتيجيته متهورة أو حمقاء، إذ كان البحارة اليابانيون قراء نهمين لأعمال ألفريد ثاير ماهان، وكانت مطاردتهم لأساطيل الأعداء تُطبق وفق التعاليم الماهانية، من قبيل: «اسحق أسطول العدو، وفز بقيادة البحر»، و«فز بالسيطرة البحرية، وسيصبح النزاع على الأراضي بعد ذلك كالكرمة المتدلية يسهل قطافها».

وبالفعل، نجح المنهج الماهاني في الارتقاء بالبحرية الإمبراطورية اليابانية لبعض الوقت، إلا أن شهية المحاربين اليابانيين اتسعت خلال الأشهر الستة التالية لهجوم بيرل هاربر، وتطلعت أنظارهم لغزو تلو آخر، إلا أن العملاق التواق للانتقام قد حصل على الوقت الكافي لشحذ قواه. وكما تنبأ ياماموتو نفسه، بأن اليابان بإمكانها أن تتسلى بـ«انعدام توقعات النجاح» إذا طال أمد الحرب أكثر من ستة أشهر أو سنة.

ويختتم الكاتب تقريره مؤكدًا أن القيام بجهد أقل أو حتى ترك عمل ما بالكامل، يعتبر دائمًا خيارًا استراتيجيًّا قابلًا للتطبيق، وبالتالي كان عدم القيام بأي شيء هو الخيار الذي وجب على اليابانيين اتخاذه بدلًا من الهجوم على بيرل هاربر، ولعل هذا هو الدرس المُستفاد من التاريخ البديل الذي يتناول الحرب العالمية الثانية.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد