نشر موقع «سيكولوجي توداي» مقالًا لبادريك جيبسون، استشاري في العلاج النفسي السريري، سلَّط فيه الضوء على المخاطر الناجمة عن تربية الأبوين للأطفال وهما يحيطانهم بخوف شديد أو ما يعرف باسم الحماية المفرطة.
استهل الكاتب مقاله بالقول إن درجات النرجسية تزايدت في حياتنا اليومية حاليًا، وغذَّت شبكات ووسائل التواصل الاجتماعي جنون الارتياب والشك، مما أدَّى إلى تسميم صحتنا الذهنية والعقلية. ولا ريب أن ذلك يُعزى جزئيًّا إلى أن كثيرًا من الشباب يخشون من أن اعترافهم بجوانب ضعفهم سيؤثر في فرص عملهم أو علاقاتهم، في وقت أصبح فيه مستقبلهم أقل أمانًا أو يمكن التنبؤ به من خلال مستقبل آبائهم.
وأسفرت الاستقلالية وانخفاض التوجيهات الأسرية والسعي نحو تحقيق الذات إلى نمو معدل الشقاء والتعاسة. وهناك تغيرات أخرى مثل:
1- أدَّى تغيير هيكل الأسرة إلى تقليل أهمية الأسرة الممتدة (العائلة الموسَّعة)، وزيادة معدل حالات الانفصال والطلاق وزيادة ساعات عمل الوالدين وانخفاض معدل الوقت الذي يقضيه الآباء مع أطفالهم.
2- شهِد أسلوب الحياة الأسرية تغيرات مثل زيادة التنقلات من مكان لآخر وانخفاض معدل المجتمعات ذات «الجذور العميقة»، والسعي المتزايد لإشباع رغبات الأفراد.
3- شهدت أنماط حياة البشر انخفاضًا في معدلات ممارسة الرياضة، مما أدَّى إلى مزيد من ممارسة النشاطات داخل الأماكن المغلقة مثل استخدام أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون والاتصال الإلكتروني عبر شبكات وسائل التواصل الاجتماعي.
4- تسويق الحياة اليومية: زيادة الحملات التسويقية الموجهة للسلع الاستهلاكية وإنشاء فرص تجارية جديدة، بما فيها تسويق مرحلة الطفولة.
5- التغييرات التي شهدها نظام التعليم: تتجذر أيديولوجية التدريس الحديثة في أساليب مثل التقييم المستمر وورقات العمل الموجَّهة اجتماعيًّا، التي يرى بعض الناس أنها توائِم أسلوب تعليم الفتيات أكثر من الأولاد (على سبيل المثال، دراسة بورمان 2005، والتميمي 2010).
6- إمكانية أكبر للوصول إلى حلول جديدة ومتعددة للمشكلات النفسية والسلوكية ولكنها متعارضة للأسف.
7- زيادة التركيز على الذات والفردية.
8- زيادة مفرطة في وصف الأدوية النفسية.
9- استخدام مناهج عقلانية لحل مشكلات الإنسان، بما في ذلك استخدام العلاج السلوكي المعرفي.
10- تغير الأدوار، مثل التفاوض من جديد بشأن أدوار كلٍّ من الجنسين والأدوار الأسرية.
11- الطموحات الذاتية، مثل أن نطمح في تحقيق المزيد لأنفسنا بينما حياتنا لم تعد كما كانت من قبل.
12- البيئات المفرطة في الحماية، إذ كان لأنماط تربية الأبناء، كما سنرى لاحقًا، أثر سلبي في الشباب.
13- وسائل التواصل الاجتماعي: استخدام هذه المنصات والشبكات وإساءة استخدامها من أجل التواصل مع العالم.
الحماية المفرطة: أنا والعالم من حولي
يوضح الكاتب أن جميع البشر يكتسبون إحساسًا بذواتهم من خلال قيم مجتمعهم ومعتقداته وممارساته، ومن خلال ثقافتهم. ونحن نتعرف إلى «ذواتنا» من خلال هذه السياقات، تمامًا مثل اللغة التي يستخدمها المتخصصون فيما يتعلق بالصحة الذهنية والعقلية والأمراض وكيفية ظهورها وكيفية وصفها. وفي كثير من الأحيان، تنتشر هذه التصورات واللغة التي نستخدمها في وسائل الإعلام أو الشركات الطبية على نطاق واسع.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أننا لسنا مجرد ضحايا لمجتمعنا أو عائلتنا؛ إذ نمتلك، على المستوى الشخصي، القدرة على التفكير والتصرف والشعور. كما أن لدينا مسؤولية شخصية وأهدافًا خاصة لاتخاذ قراراتنا الخاصة وبمقدورنا تكوين مستقبل أفضل والعمل على نمذجة وسائل فعَّالة تتوافق مع حياتنا. إن الجمع بين زيادة ساعات العمل، وزيادة التفاوت في الدخل، وزيادة انعدام الأمن الوظيفي، وانهيار الوشائج الاجتماعية مع الأسرة الممتدة في مجتمع يقدر الدافع الثقافي نحو التطلعات الفردية والنزعة الاستهلاكية، كان له تأثير مباشر في الصحة الذهنية للمواطنين كافة.
التأثير الحقيقي للمجتمع الأناني
يلفت الكاتب إلى أن المجتمع النرجسي أو المتمحور حول الذات يُقصد به أن كثيرًا من الناس يشعرون بضرورة الاستمرار في التطلع للوصول إلى مركز الصدارة، وأن احتياجاتهم ورغباتهم وأمانيهم الشخصية لا بد وأن تتحقق، مهما كان الثمين في بعض الأحيان. وعلى المستوى النفسي الفردي، يضعنا هذا المجتمع الأناني بصورة متزايدة في حالة خواء نفسية. وأصبحنا حاليًا منشغلين جدًّا ببقاء الذات، ومجردين من الشعور بالأمان العاطفي الذي يتأتى من شعور المرء بالتقدير بصفته شخصًا وليس مستهلكًا، ونؤمن بأن لدينا انطباعًا قويًّا بالانتماء إلى الآخرين في عالمنا ومعهم.
ويضيف الكاتب أنه عندما نفشل في معرفة كيفية إضفاء السرور والمتعة على حياتنا الشخصية، يمكن أن يكون لهذا آثار مؤلمة وضارة عليها. إن الشعور المتنامي بالنرجسية في المجتمع أسهم بصورة كبيرة في نمو المشكلات السلوكية والعاطفية لدى الشباب، إلا أن هذه ليست القصة بأكملها.
«القفص الذهبي للأبوة والأمومة»
ينوه الكاتب إلى أن التغيرات الاجتماعية تسارعت في الآونة الأخيرة، لا سيما في التغييرات التي شهدتها تكوينات الأسرة. وفي الوقت الراهن، يُولد الأطفال في العالم الغربي داخل عائلات أسر أصغر تمتلك موارد أكبر وتركز أكثر على احتياجات أطفالهم. وفي هذه البيئات الشديدة الحماية، تقل المنافسة على اهتمام الوالدين ومقدمي الرعاية في مجموعات أصغر ومن المرجح أن تُلبى احتياجاتنا الشخصية بالكامل. وفي هذه البيئات أيضًا، يحاول الأبوان أو مقدمو الرعاية باستمرار تجنب مضايقة أطفالهم، وغالبًا ما يضعون أنفسهم محل أطفالهم في حالة التعرض لموقف صعب أو مثير للتوتر على الأرجح. وقد يؤدي ذلك إلى الإضرار دون قصد بإحساس أطفالهم بأنفسهم وقدراتهم.
إن أفضل ما توصف به الأبوة والأمومة في هذه المواقف هو التواصل اللطيف والحاني، مع توفير الحماية والحب لكونهما أساسيين في هذه التفاعلات. ويجد هؤلاء الآباء أنفسهم باستمرار يتحدثون إلى أطفالهم ويتواصلون معهم من أجل منع أي صعوبات محتملة. وفي أغلب الأحيان، إذا رفض الطفل قبول الحماية والحب المعروضَيْن، فإن الآباء يشعرون بالذنب والخزي.
الطريق إلى الجحيم
يؤكد الكاتب أن آثار هذا النمط في تربية الأبناء يكون خطيرًا ويلقي بالأطفال في فخ التناقضات المعقدة. إن الأطفال يتغذون بالقوة على تصورات لأنفسهم أنهم يتمتعون بتقدير كبير للذات، في حين أن كثيرًا منهم لم يُواجه بعد أي مشكلات فعلية في العالم الحقيقي ولم يتغلبوا عليها بأنفسهم على اعتبار أن ذلك وسيلة لكسب هذا التقدير الذاتي. ويخفي هؤلاء الشباب، الذين يتلقون تربية الحماية المفرطة، غالبًا عدم ثقة كبيرة فيمن حولهم وفي قدراتهم الخاصة.
ويضيف الكاتب: تصور كم يبلغ عدد الأطفال الذين قيل لهم إنهم يمكن أن يكونوا ما يريدون، بل أن يكونوا رؤساء لبلادهم، في حين أن آباءهم يقومون، في الوقت نفسه، بكل شيء نيابةً عنهم ويحلون لهم كل المشكلات؟ وفي إطار هذا التفاعل، تصاغ رسالة مزدوجة خطيرة، لأنه في كل مرة يحل الوالد محل أطفاله ويعالج لهم المشكلات بدلًا عنهم، فكأنهم يقولون لأطفالهم في الحقيقة، «أفعل هذا لأنني أحبك.. إلا أنني أفعل ذلك حقًّا لأنك غير قادر على فعل ذلك بنفسك ولأجلك».
إن هذا القيد المزدوج يقوض دون قصد وبطريقة متقنة جدًّا إحساس الطفل بكفاءته وقدراته. وفي السطور التالية نرصد عددًا من الأنماط الارتباطية التي تعزز هذه الديناميكية بصورة أكبر. ويمكننا أن نرى فيها ما يلي:
- الرسالة التي يتلقاها الأطفال أيضًا من آبائهم هي أنه ليس من الضروري عليهم أن يفعلوا كثيرًا، وأنه لا ينبغي لهم مواجهة عواقب الفشل المخيفة.
- يمكن أن يتدخل الآباء أو الأجداد وحل كل مشكلة تواجههم بصفتهم أطفالًا.
- أن المكافآت لا تعتمد على ما يفعله الأطفال أو على النتائج التي يحققونها. ولكن يمكنهم الحصول عليها لأنهم مميزون، ولذلك فمن حقهم الحصول على كل شيء.
- بذل المجهود ليس مطلوبًا للحصول على كثير من الأشياء، مما يؤدي إلى أن تكون رؤية الطفل إلى العالم غير واقعية، وفق ما يختم الكاتب مقاله.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».