يسلط «بيتر فليجل» في تقرير نشره موقع «فيلوسوفي ناو» الضوء على الصلات المحتملة بين الفلسفة اليونانية الأولى، وأفكار المملكة الحديثة في مصر القديمة، ويطرح مجموعة تساؤلات حول تشابه بعض مفاهيم الوحدانية والتعددية بين الحضارتين، وما مدى تأثر أفلاطون وبعض الفلاسفة اليونانيين بالحضارة المصرية القديمة لا سيما مع دلالات قضاء أفلاطون بعض الوقت في هليوبوليس المصرية؟

قبل أكثر من عام مضى، عكف فريق أثري يحدوه الحماس على استكشاف الطمي والمياه الجوفية في أحد أحياء القاهرة الفقيرة والذي بُني على أنقاض مدينة هليوبوليس الفرعونية القديمة. اكتشف الفريق آنذاك تمثالًا ضخمًا اعتقدوا أنه للفرعون رمسيس الأكبر. سرعان ما تبددت النشوة المصاحبة للاكتشاف وحل مكانها قليل من خيبة الأمل عندما اكتشفوا أن التمثال ليس للملك رمسيس، بل يعود لحاكم أقل منه شهرة من القرن السابع قبل الميلاد، بسماتيك الأول.

على الرغم من عدم الاهتمام به في العالم المعاصر، حظي بسماتيك في وقت من الأوقات بالاحترام الشديد، باعتباره حاكمًا قويًا عزز العلاقات التجارية والدبلوماسية مع بلاد الإغريق. سمحت سياسته للهيلينيين بإنشاء مستعمرات على الأراضي المصرية للمرة الأولى في التاريخ، فاتحًا بذلك الباب أمام علاقة تجارية وثقافية امتدت لأكثر من 300 عام.

يقول الكاتب إن المؤرخين الهيلينيين المتأخرين من الإغريق وغير الإغريق، مثل هيرودوت، كانوا على قناعة تامة بأن تلك كانت الشرارة التي أحدثت تحولًا محوريًا في الفلسفة اليونانية، تدفق على إثرها نوابغ الفلسفة تباعًا من الأراضي اليونانية. كانت هيليوبلس بالنسبة لكثير من المفكرين الإغريق الأكثر شهرةً، مثل فيثاغورس وأفلاطون، منهلًا تعلموا منها أسس علوم ما وراء الطبيعة، والفلك، والهندسة.

على الرغم من اختلاف اليونان ومصر القديمتين في طريقة التعبير عن المفاهيم، إلا أن بعض أبرز أفكارهما كانت متشابهة خلال الألفي عامًا التالية، تأرجح بندول جغرافيا التاريخ بين علماء احترموا مصر القديمة باعتبارها مصدر الحكمة الغربية، وآخرين يرفضون هذه الفكرة من الأساس ويعتبرونها وهمًا. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، رفض معظم المؤرخين الغربيين «الفرضية المصرية» بشدة. في عشرينيات القرن التاسع عشر، فك جان فرانسوا شامبليون طلاسم الهيروغليفية المصرية بدراسة حجر رشيد متعدد اللغات والذي بدوره فتح أمام علماء القرن التاسع عشر بابًا واسعًا على الحجم الهائل من النصوص المصرية القديمة، الذين سرعان ما أدركوا أن أسلوب المصريين القدماء في التعبير مختلف إلى حد كبير عن أسلوب مؤلفات أرسطو في علوم ما وراء الطبيعة، أو أسلوب أفلوطين في كتاب التاسوعات. كان هذا الاكتشاف بمثابة دق ناقوس الخطر بالنسبة لنظرية منشأ الحكمة في مصر القديمة، وكثير من الأفكار الأخرى. لقد كانوا ينظرون إلى الفلسفة اليونانية كأنها «معجزة إغريقية» انبثقت متفردةً من الحضارة اليونانية، التي أضاءت منارة العقلانية في عصور جهالة ما قبل التفكير الفلسفي في الشرق الأوسط وأفريقيا.

حجر رشيد

ويضيف الكاتب أن على الرغم من ذلك، أثارت الفرضية المصرية ضجة من جديد بعد قرن من الزمان، عندما لفت عدد من الكتاب الأمريكيين من أصل أفريقي، ومن منطقة البحر الكاريبي، والأفارقة انتباه وسائل الإعلام بادعاء أن الفلسفة اليونانية سُرقت من أفريقيا، ومن مصر على وجه التحديد. استشهد في هذا الصدد عدد من الأكاديميين، منهم الدكتور «موليفي كاتي أسانتي»، من جامعة تمبل، بمجموعة متنوعة من المصادر الإغريقية والرومانية والمصرية الأولية والثانوية، لدعم الادعاء القائل بأن الحضارة الأفريقية هي أصل الفكر والعلوم والطب الغربي. كذلك كتب «مارتن برنال»، الذي لم يكن ينتمي إلى «معسكر الأصل الأفريقي»، أيضًا عن قناعاته بالأصول المصرية للفلسفة الإغريقية في المجلد الأول من كتابه المثير للجدل «أثينا السوداء» (Black Athena) المنشور عام 1987.

بمجرد أن ألقى خبراء آخرون في الحضارات القديمة نظرة فاحصة على تلك الجدليات، اكتشفوا تفسيرات متضاربة للنصوص، فضلًا عن التوكيدات الكاذبة، مثل مزاعم سرقة أرسطو للفلسفة المصرية من مكتبة الإسكندرية. كان لعلماء المصريات والحضارات القديمة الحظ الأوفر من دحض المزاعم الأكثر شذوذًا في فرضية أن مصر القديمة كان لها تأثير حقيقي على الفكر الإغريقي. عزا عدد من العلماء مستندين إلى الثقل الأكاديمي للمؤسسات التي ينتمون إليها، مثل البروفيسورة ماري ليفكوفيتز، الأستاذة بكلية ويلسلي الأمر إلى مسلمة بسيطة: روج المصريون للخرافة، بينما قدم الإغريق العقل والمنطق. وفيما يتعلق بالفلسفة، لم تُعلم أفريقيا شيئًا للإغريق، والزعم بما يخالف ذلك ما هو إلا وهم أو تفكير بدوافع سياسية (كتاب Not Out of Africa: How Afrocentrism Became an Excuse to Teach Myth as History ، المنشور عام 1997).

فلسفة

منذ 4 سنوات
مترجم: الديانة الفاضلة.. كيف استعان الفارابي بأفلاطون لتأسيس الرقابة في الإسلام؟

الغريب في الأمر، أن معظم الذين جادلوا خلال هذه الفترة، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين لفكرة التأثير المصري، أهملوا بعض المعارف القيمة التي أزاحت الستار عن جواهر مفاهيمية نادرة، في خضم ثروة آلاف السنين من النصوص المصرية القديمة. وبمجرد أن نُفض الغبار عن هذه النصوص، كشفت عن تشابه مع بعض جوانب الفلسفة اليونانية القديمة، كنظرية المثل، ونظرية العناصر الأربعة، والتنظيم العقلاني للكون. عندما يأخذ المرء هذه التشابهات المفاهيمية في الاعتبار، على خلفية تعزيز العلاقات المصرية الهيلينية خلال حقبة ما قبل سقراط امتدادًا إلى القرن السابع قبل الميلاد، تبدو احتمالات تلقي الفلسفة الغربية لبعض بواعثها الأولى من حضارة شمال شرق أفريقيا ليست أمرًا مستبعدًا تماما كما اعتقد البعض. لذا، دعونا نلقي نظرة سريعة على بعض هذه الاحتمالات.

الواحد والمتعدد في مصر القديمة

يذكر الكاتب أنه على عكس الفلسفة اليونانية القديمة، لم تتبلور المفاهيم الكونية والميتافيزيقية والأخلاقية المصرية القديمة على مدى قرون عديدة، بل كانت حصيلة آلاف السنين من العمل الفكري، خلال هذه الفترة، تطور آلاف الكهنة، وتشبثوا بطرائق صعبة، كانت متناقضة في معظمها لفهم معنى الكون. كجزء من هذه العملية، برزت مدارس دينية مختلفة، تتنافس في بعض الأحيان لتأسيس آلهة خاصة بها، كخالق أعظم للكون. نتج عن هذا التدافع دون قصد اختراقات فكرية كثيرة بحلول نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، مما دفع المصريين لتطوير أفكار مشابهة لبعض الركائز الأساسية للفكر الهيليني المتأخر.

في عالم تطارده أشباح الشعبوية المتعصبة وكراهية الأجانب، يبرز هذا الإرث كتذكير بليغ للإمكانيات الهائلة الكامنة في العلاقات بين الحضارات.

أشار عالم المصريات الألماني البارز «جان أسمان» في كتابه «أصداء لاهوتية للعمارنة» (Theological Responses to Amarna) المنشور عام 2004، إلى كيف بدأت هذه العملية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عندما صعد إخناتون إلى العرش، إذ عمل جاهدًا على تفكيك المؤسسة الدينية القوية التي تعترض استيلاءه على السلطة المطلقة، مستعينًا بالنظرة العلمية العالمية الأصيلة لاستئصال الشرك بالآلهة في مصر. يعني ذلك أنه منع التعبد لجميع الآلهة المعبودة في مصر القديمة، واستبدلها بإله واحد: آتون، المتمثل في قرص الشمس، أو قوة الشمس. حسب آراء المفكرين الأوائل السابقين على السقراطية، والذين تتبعوا أصل الكون بطرق مختلفة، متنبئين بفكرة العنصر الواحد، لم يكن إعلان إخناتون بأن قوة الشمس هي الإله الأوحد فحسب، بل العنصر الوحيد الذي أنشأ الكون كله. وُصف كل عنصر من عناصر الواقع المرئي على أنه «نشوء»، أو نتيجة لهذه الطاقة. وفي المقابل، أُهمل عالم الآلهة غير المرئية، والعالم السفلي، والأرواح، واعتبر قصص خرافية تنتمي إلى حقبة سابقة. أُغلقت المعابد، ومُحيت النقوش التي تشير إلى الآلهة الأخرى، بل دُمرت التماثيل الخاصة بالآلهة الأخرى، كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي اُعتمد فيها التوحيد عقيدة رسمية لأحد الممالك.

صورة لعدد من الآلهة المصرية القديمة

يشير «بيتر» إلى أن هذا التجاهل السريع لكوكبة هائلة من الآلهة سبب صدمة كبيرة للنخبة الفكرية المصرية، فقد ألفوا رؤية معتقدات دينية متعددة تتعايش بعضها إلى جانب بعض في جميع أنحاء مصر. لذا، حدث تمزق حاد مفاجئ عندما مات الفرعون المهرطق، إذ أعاد الكهنوت المعزول تأسيس النظام الديني القديم بحماسة لا نظير لها. لكنه كان مدفوعًا في هذه المرحلة بحتمية جديدة: التوفيق بين التعددية المتشعبة للحقيقة الواقعية التي كانت موضع احتفاء في جموع الآلهة القدامى، وبين عقيدة التوحيد التي جلبها إخناتون.

واجه مجمع الكهنة المأزق الذي وضعهم فيه إخناتون بفكره التوحيدي على نحو استباقي محكم، ربما فاق الجهود اليونانية القديمة، مثل جهود بارمنيدس وأتباعه، للكشف عن الوحدانية التي أُخفيت وراء التعددية في العالم المرئي. أعاد الكهنوت المصري تنظيم الأفكار القديمة لإرساء كيان إلهي خفي، يُرمز له بالشمس، كمؤسس ومبدع للكون. وفي ظل معاناتهم من محدودية المفردات في هذه الفترة، حاولوا التلميح له بصفات غير مادية من خلال مفردات فضفاضة مثل «الواحد»، و«المستتر»، و«الروح»، ادعوا أنه يتعذر إدراكه لغويًا أو عقليًا، ويسكن في مكان وجودي منفصل. إلا أن المفارقة العجيبة أن نفس الكهنة كانوا يعتقدون أن ملايين الآلهة، وعناصر الكون الأخرى كانت تطور باستمرار أجزاء من هذا الكيان المقدس، والتي لا تزال حاضرة، لكنها غير مرئية في الكون. استخدم المصريون في بعض الأحيان كلمة «آمون» (وتعني المستتر) كاسم مستعار يشير إلى الكيان الخارق المجهول، والذي كان لا محدودًا وخفيًا وموحدًا في آن واحد، ومطلق بقدر الأكوان الكثيرة، ربما يكون هذا التأكيد على «وحدانية» ضمنية غير مرئية للكون المنظور سابقًا لفكرة الإليوية اليونانية التي تفترض أن عالم الإدراك المتشعب يخفي ويحرف حقيقة الكيان الأعلى العليم الفريد من نوعه والشامل.

العناصر الأربعة في مصر واليونان

روج المصريون للخرافة، بينما قدم الإغريق العقل والمنطق!

في كتابه (City of the Ram-Man: The Story of Ancient Mendes) «مدينة الرجل الكبش» المنشور عام 2010، بيَّن «دونالد ريدفورد» -عالم الآثار الكندي-  كيف طور الكهنة في مدينة منديس المصرية فكرة أنه يمكن التعرف على الكيان الأعلى من خلال إظهاره قدرته وتحريك الكون، وذلك من خلال أربعة عناصر.

صورة على أحد جدران المعابد تبين الكبش ذو الأربعة رؤوس

تركزت هذه الفكرة في معتقد أقدم يفترض بأن العدد أربعة يمثل الكون كاملًا ومكملًا، ولابد من الاعتراف بأنه كان هناك قليل من تلك الفرضيات القديمة لهذه النظرية، والتي تصور الذات العليا في بعض الأحيان بأنها تمتلك ما يصل إلى عشرة رؤوس. وعلى الرغم من ذلك، حدد مجمع الكهنة في مدينة منديس هذا الرقم بأربعة فقط، حسب المفاهيم الأساسية للكون الكلي.

استخدم حكماء منديس كبشًا غامضًا له أربعة رؤوس، أسموه «بانيبيدجيت» للتعبير عن هذه الفكرة، وكان كل رأس يعبر عن إله، يمثل عنصرًا من عناصر وهب الحياة. فقد مثل أوزوريس الماء، أما ري فقد مثل الشمس أو النار، بينما مثل شو الهواء، وغيب مثل الأرض. وعندما اتحدوا جميعًا شكلوا الكيان الأعلى، ممثلًا بشكل رمزي في الكبش ذي الأربعة رؤوس، الذي يحتوي على العناصر الأربعة المكونة والمحافظة على استمرار الكون.

بإمكان أي شخص لديه معرفة سطحية بفلسفة ما قبل سقراط أن يلاحظ أوجه شبه قوية بين ذلك والنظرية التي طرحها الفيلسوف اليوناني «إيمبيدوكليس» في القرن الخامس قبل الميلاد. متأثرًا بالمدرسة الفيثاغورية، يعود الفضل بشكل كبير إلى «إيمبيدوكليس» في تقديم نظرية العناصر الأربعة إلى الفكر الغربي، إذ ربط أيضًا بين كل عنصر (أو جذر كما أسموه) بإله مستقل: فكان زيوس ممثلًا للهواء، وهيرا للأرض، وهاديس ممثلًا للنار أو الشمس، بينما كانت نيستس ممثلة للماء. أكد «إيمبيدوكليس» أيضًا أنه عندما اتحدت العناصر الأربعة معًا، كونوا الكيان الأسمى، والذي أطلقوا عليه «سفيروس»، استخدم الفيلسوف عنصرين مجازيين -الحب والصراع- لبيان كيفية الجمع بين العناصر الأربعة، وكيف ينفصلون بعضهم عن بعض.

هل تأثر إيمبيدوكليس بمنديس؟

يقول الكاتب إن الأمر لم يتطلب الكثير من التعمق لتصوير كيفية وصول الإله الكبش ذي الأربعة رؤوس إلى السواحل اليونانية خلال حياة إيمبيدوكليس. فبطبيعة الحال، أقام الفرعون أحمس الثاني معبدًا لبانيبيدجيت في مدينة منديس قبل قرن من ولادة إيمبيدوكليس. وعلى خطى بسماتيك، مد أحمس الروابط والعلاقات التجارية والدبلوماسية مع العديد من المدن والولايات الهيلينية، بحيث كان التحالف مع الحكام اليونانيين ضروريًا للحفاظ على حكمة، إذ اعتمد الفرعون على المرتزقة الإغريق في كسر شوكة أعدائه. ويقال إنه ساعد في إعادة بناء المعابد في اليونان، وأرسل هدايا ثمينة لحكام إسبرطة، وليندوس، وساموس، حيث كان فيثاغورس مشغولًا ببناء علاقات وثيقة بحاكمها، بوليكراتس الطاغية.

سواء استمد إيمبيدوكليس أفكاره مباشرة من مصر، أو عبر وسطاء فيثاغورس، كما تشير بعض المصادر القديمة، فمن الواضح أن أوجه التشابه بين معتقداته ونظرائه المصريين لافتة للغاية.

العقل ونظرية المكونات الأربعة

إحدى ملامح الفكر المصري القديم التي تقترب من الفكر اليوناني المبكر، فكرة عقلانية الكون، وامتثاله للمبادئ الفكرية. بعد وفاة إخناتون، شرع مجمع الكهنة في التلاعب بفكرة العقل والمنطوق الإلهي؛ في البداية، صُور الآلهة أنهم ثمرة التفكير اليقظ فقط؛ لكن سرعان ما تبين أن الخلق جميعه ما هو إلا نتاج حكمة إلهية (أطلق عليه المصريون «القلب»)، وأمر إلهي (أسموها «اللسان»).

بلغ هذا المنظور الجديد ذروته تحت حكم فرعون سوداني المولد، يعرف باسم «شباكا»، والذي يُعد التعبير الأكثر تطورًا على الإطلاق عن الخلق في عالم ما قبل الهيلينية. تُرجم ما عرف باسم «لاهوت ممفيس» للمرة الأولى على يد «جيمس بريستد» عالم المصريات الأمريكي. كان بريستد رافضًا في البداية فكرة التأثير المصري على الفلسفة اليونانية، لكن نظرته اختلفت جذريًا عندما اكتشف اللاهوت المودع في مستودع مظلم بالمتحف البريطاني. وأتاح له التحليل الدقيق للنص اكتشاف أن مؤلفيه قد طرحوا مبدأ عقلانيًا كسبب أصيل للخلق. لم يقتصر مؤلفو النص على طرح الإله مبدع الخليقة «بتاح» -أو بعبارة الإله النحات-، كإله أسمى فحسب، بل أشاروا إليه باسم «القلب»، موضحين أنه جمع بين الحكمة والأمر الإلهي لدى كل الآلهة والبشر.

إيمبيدوكليس(من 490 ق.م إلى430 ق.م) أحد رواد الفلسفة اليونانية في فترة ما قبل سقراط

لم تتوقف براعة ممفيس عند هذا الحد، فقد بين عالم المصريات «جي بي ألان» إلى جانب «جان أسمان» في كتاب «الخلق من خلال الهيروغليفية» (Creation through Hieroglyphs: The Cosmic Grammatology of Ancient Egypt) المنشور عام 2007، وكتاب «حول الفلسفة المصرية القديمة فيما يتعلق بالخلق» (Genesis in Egypt: The Philosophy of Ancient Egyptian Creation Accounts) المنشور عام 1998، كيف ميز علماء اللاهوت بين الأشياء و«كلام الرب»، ليخلصوا إلى أنه عندما حول بتاح مادة أولية إلى الكون، التزم بشكل صريح بمجموعة محددة من المثل، لذا رأوا العناصر المتنوعة للكون نسخةً من المفاهيم الأصلية (المثل)، بنفس الطريقة التي اعتقد بها الكتاب المصريون بشكل عام أن الهيروغليفية البصرية تمثل مفاهيم.

ينعكس هذا التقييم في كتاب العالم «باتريك بويلان»، و«ويتني ديفيس» المتخصص في الفن المصري . فقد أظهر بويلان في عشرينيات القرن العشرين كيف استخدم المصريون تعبير «كلام الرب» للإشارة إلى مفاهيم الأشياء بدلًا من الأشياء نفسها (وفق كتابه Hermes of Egypt: Some Aspects of Theological Thought in Ancient Egypt، المنشور عام 1922). وفي سبعينيات القرن الماضي، دُهش ديفيس من الأفلاطونية الكامنة فيما اعتبره ميتافيزيقا مصرية. إذ  ناقش بعناية شديدة في كتابه (أفلاطون في الفن المصري) «Plato on Egyptian Art» كيف أن هذه الميتافيزيقية -في العالم المكون من نسخ من كلمات الرب- قد انعكست في فن الحضارة، إذ انتهج الفنانون أبعادًا رياضية وحصرًا لـ«لأنواع المعيارية» لوصف الواقع. خلص ديفيس إلى أن هناك ارتباط «ممتد» و«عميق» بين الفكر المصري ونظرية أفلاطون للمثل. ووفقًا لأسمان، تجلت «أفلاطونية ما قبل النظرية» في ميل الكتبة المصريين بشكل عام إلى رؤية الأسماء أو المفاهيم وفق ترتيب هرمي في تفصيل الكون. بالنسبة للمصريين، ارتبطت هذه المفاهيم بشكل وثيق بـ«تحوت»، إله الحكمة، والذي عُرف بـ«إله كلام الرب»، والذي قيل إنه اخترع الكتابة أيضًا. بمرور الوقت، ارتدى تحوت عباءة الإله الخالق، الذي وصف على نطاق واسع بابن وكلمة وعقل إله الشمس رع. لذا، لا يُستغرب أن يظهر تحوت في اللاهوت بإله الكلمة، قائدًا الكون إلى الوجود وفقًا لماهية الأشكال الموجودة مسبقًا.

إن القراءة حول التفاعل المعقد بين «العقل»، و«الخالق المبدع» -النحات-، و«المكونات الأربعة» في مصر يستدعي بالضرورة قلق كل من له معرفة مسبقة بأفلاطون، إذ تجدر الإشارة إلى أن الحوارات المتوسطة والمتأخرة لأفلاطون كانت مثقلة بآراء حول الكون فيما تبدو كنسخة منقوصة من سلاسل الأشكال الأصلية، ففي حوار «طيماوس» على سبيل المثال، أعاد أفلاطون سرد طيماوس على شكل أسطورة، كيف استخدم مبدع الكون -النحات- العناصر كنموذج لصياغة خلق الكون من الفوضى. في هذا الحوار وغيره من الحوارات السابقة، يصف «ديميورغ» أو خالق الكون المادي، بأنه «العقل» و«المنطق» الذي ينظم الكون حسب المبادئ والنسب الرياضية.

صورة أفلاطون (يسار) وأرسطو (يمين) -أشهر منظري الفلسفة اليونانية- يتوسطان لوحة مدرسة أثينا

أظهر أفلاطون فهمًا استثنائيًا لبعض الأفكار المرتبطة بتحوت بشكل لافت للنظر، وكذلك بينها وكشفها على نحو بارز. يعيدنا ذلك إلى ادعاءات الإغريق أنفسهم بأن فلسفة أفلاطون مصرية المصدر بالأساس، قال سترابو في موسوعته «جغرافيا» (Geography) إن الأثيني -مشيرًا إلى أفلاطون- ربما أمضى ثلاثة عشر عامًا في الدراسة مع حكماء هيليوبولس، بل يدعي أنه زار الأماكن المخصصة للنوم في المعبد الكبير لمدينة الشمس، حيث عاش أفلاطون، فضلا عن أن إكليمندس السكندري كان بإمكانه ذكر اسم الكاهن الذي يقال أن أفلاطون استشاره في بعض الأمور.

يقودنا هذا الطرح إلى تساؤل آخر بالغ الأهمية، هل أمضى أفلاطون وقتًا في هيليوبلس؟ هل كان يتدخل ويعدل في أفكار المصريين من خلال أعماله؟ يرفض البعض كلتا الفكرتين، بسبب أن أفلاطون كان يكتب في فترة تعاون عسكري ودبلوماسي قوي بين مصر وأثينا في مواجهة العدوان العسكري الفارسي. علاوة على ذلك، أُعجب أفلاطون إعجابًا عميقًا بمصر، حسب ما أشار في كتاب «القوانين»؛ إذ رأى في الحضارة القديمة ترياق استقرار وهيبة للنظام السياسي الفوضوي لأثينا الديمقراطية.

الخلاصة

ويختتم الكاتب تقريره مؤكدًا على عدة نقاط، أهمها أن ربما كان إيجاز «جان يويوت» عالم المصريات الفرنسي، في ستينيات القرن الماضي هو الأفضل عندما حاول تقديم حل أشمل لأهم المتناقضات الأساسية: فعلى الرغم من اختلاف اليونان ومصر القديمتين في طريقة التعبير عن المفاهيم، إلا أن بعض أبرز أفكارهما كانت متشابهة. تمسك يويوت بفكرة تمايز اليونان الفلسفية عن مصر ما قبل الفلسفة، لكنه وجد مخرجًا لهذه المعضلة باعترافه بأن هذا التمايز لم يكن له تأثير يُذكر على العلاقات بين الحضارتين. في النهاية، أكد حكماء مصر على مفهوم العناصر الأربعة، والوحدة الضمنية بين الواحد والمتعدد، بالإضافة إلى دور الذكاء الإلهي في الكون، قبل وقت طويل من ولادة أول فيلسوف يوناني. لذا، بوضع الاختلاف في أساليب التعبير جانبًا، يمكن وضع تصور مُتقن أن المفكرين الهيلينيين استوردوا أفكارًا مصرية، ثم طوعوها لخدمة أغراضهم الخاصة. ما تزال فرضية «يويوت» حية إلى يومنا هذا، خاصة مع ظهور فئة جديدة من المتخصصين، مثل الأمريكية «سوزان ستيفنز» المتخصصة في الدراسات الكلاسيكية، والفيلسوف «روبرت هان»، كاشفين الستار عن بخس قدر الروابط بين الفلسفة اليونانية الأولى ومصر القديمة.

صورة لتمثال سقراط أمام أكاديمية أثينا

وفي ظل احتدام هذا الجدل، سلط الاكتشاف الأخير في هليوبوليس الضوء مرة أخرى على بسماتيك الأول، متيحًا الفرصة من جديد أمام استكشاف دوره في الربط بين حضارة شمال شرق أفريقيا القديمة، والحضارة الأوروبية الجنوبية الوليدة. يميل مؤرخو العالم القديم إلى الاتفاق على وجود صلة واضحة للأفكار والتقنيات المصرية في الفن، والعمارة، بل وفي الطب اليوناني القديم. أما ما لم يستقر الرأي عليه بعد، ما إذا كانت سياسات الفراعنة الاقتصادية والدبلوماسية قد ساعدت في تحفيز الفكر الغربي أيضًا أم لا. إذا لم يكن ثمة ما يدعم تقييم يويوت، فإن ميزان الأدلة يشير إلى أن تراث بسماتيك الأول الأطول بقاءً كان عاملًا مساعدًا في تهيئة الظروف الملائمة لسطوع نجم الفلسفة اليونانية. في عالم تطارده أشباح الشعبوية المتعصبة وكراهية الأجانب، يبرز هذا الإرث كتذكير بليغ للإمكانيات الهائلة الكامنة في العلاقات بين الحضارات.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد