قال فيليب جنكنز في مقال له على موقع «ذي أمريكان كونسرفيتيف» إنّ الدول عندما تدمر، فلا يمكن التنبؤ بما سيحل محلها.
وأشار فيليب إلى أنّ إرهابيي داعش هاجموا دير سانت كاترين في سيناء الشهر الماضي، على الرغم من أنّ هذا المكان يحوي بين جنباته وثيقة حماية للمسيحيين أصدرها النبي محمد بنفسه، ويُفترض أنّها سارية إلى قيام الساعة. وقد أتى هذا الهجوم في أعقاب الهجمات الدامية التي استهدفت الأقباط في أعيادهم وقُتل على إثرها نحو 40 مرتادًا للكنيسة. وهذا يؤشر إلى حجم المعاناة التي تواجهها الأقلية القبطية في مصر، حسب وصف فيليب.
اقرأ أيضًا: «ذي أتلانتك»: الحرب الحقيقية على المسيحيين الأقباط
وكان البابا فرانسيس قد زار مصر الأسبوع الماضي، وأكد على أنّ «العنف لا علاقة له بالرب، بل إنه يسيء إليه». ويؤكد المراقبون الغربيون أنّ الإرهاب هو أسلوب المتطرفين الرافضين لقبول الآخر، لكن فيليب يرى أنّ تلك الهجمات يقف وراءها منطق ما.
يؤكد فيليب أنّ هذه الأحداث تظهر ضعف الحكومة المصرية أمام الجهاديين، وتقضي على ما تبقى من صناعة السياحة، لكن هذه الهجمات لها هدف أكبر – يقول فيليب – فهي تحمل رسالة إلى أطراف معينة داخل نظام الحكم في مصر، وبالتحديد الجيش وأجهزة الاستخبارات. وعن طريق إصباغ النبرة الدينية على الصراع يهدف الجهاديون إلى تخيير النخب المصرية بين الإسلام الداعشي وأعدائه. ويعتقد فيليب أنّ الأمر يمثل مخاطرة؛ لأنه سيشق صف النخب المصرية. وهذا سيسرع من وتيرة انهيار العلمانية في الشرق الأوسط وصعود الإسلام المتطرف، بل قد تتدهور الأوضاع إلى الحد الذي يجعلنا نرى المشهد العراقي يتكرر في مصر.
تبنت الحركات العربية أيديولوجيات متشابهة في معركتها لتطوير بلدانها في القرن الماضي. وقد وجدت تلك الحركات القومية والشيوعية والعلمانية موطئ قدم لها في الجيوش وأجهزة الاستخبارات، ووقعت سلسلة من الانقلابات العسكرية في مصر (الناصريين) والعراق (البعثيين). وقد دخلت تلك الأنظمة في حرب مع حركات الإسلام السياسي، لا سيما عندما قاومت الأخيرة التحديث. ففي مصر، شن جمال عبد الناصر حملة شرسة ضد الإخوان المسلمين، بلغت ذروتها بإعدام سيد قطب عام 1966.
لقد كان الخطاب الديني جذابًا بالنسبة إلى كافة الأقليات، التي كانت تخشى من صعود الإسلام السياسي. تحالف الأقباط مع العلمانيين بعد انسحاب البريطانيين من مصر، وغالبًا ما كان للأمر علاقة بالتطلعات الدينية. ولم ترُق لهم نزعة القومية العربية التي مثّلها عبد الناصر؛ لأنهم كانوا لا يعتبرون أنفسهم عربًا، وإنما ينحدرون من أصول فرعونية. ومع ذلك، فإنّ نظامًا متشددًا مثل السعودية لم يكره عبد الناصر.
إنّ هذه الأحداث تظهر ضعف الحكومة المصرية أمام الجهاديين،
وتقضي على ما تبقى من صناعة السياحة، لكن هذه الهجمات لها هدف أكبر؛ فهي تحمل رسالة إلى أطراف معينة داخل نظام الحكم في مصر، وبالتحديد
الجيش وأجهزة الاستخبارات.
يشير فيليب إلى أنّ الأقليات في مصر والعراق وسوريا دعمت القوميين، وظلت العلاقة بينهما طيبة طوال فترة استقرار أنظمة الحكم القومية، ولكن عندما انهارت تلك الأنظمة، انحازت تلك الأقليات للأنظمة الدكتاتورية. وقد زاد خطر ذلك، عندما استهدفت الجماعات المتشددة تلك الأقليات.
وقد تعاملت أنظمة الحكم العلمانية والقومية مع مشاعر التدين لدى المحافظين بعنف شديد. أحب المسلمون العاديون شعارات عبد الناصر، ولكن عندما سقطت مصر في وحل الفساد والانهيار الاقتصادي، دبت الحياة في الولاءات القديمة. وقد فقد الناس الثقة في الأنظمة العلمانية والقومية عندما فشلت الأخيرة في التصدي لإسرائيل.
اقرأ أيضًا: لماذا لا يمكن أن نعتمد على «القومية العربية» لهزيمة «الدولة الإسلامية»؟
أعادت الحركات الإسلامية المتشددة تنظيم أنفسها – يقول فيليب – وشنت حرب عصابات ضد نظام السادات، واستطاعت اغتياله هو وبعض حلفائه، لكن نظام مبارك تمكن من القضاء على الجماعة الإسلامية. وبعد ثورة يناير، وفي انتخابات مجلس النواب، ظهرت شعبية حركات الإسلام السياسي، بعد أن حازت على ثلثي أصوات الناخبين، ثم ظفر الإخوان المسلمون بمنصب الرئاسة، لكن بقاء الجماعة في الحكم لم يدُم طويلًا بعد أن أطاح الجنرال السيسي بحكومة الإخوان المسلمين في انقلاب عسكري دموي في يوليو (تموز) من عام 2013.
يرى فيليب أن نظام السيسي يحاول استنساخ تجربة عبد الناصر، لكن السياق السياسي مختلف تمامًا الآن. بعد انسداد الأفق السياسي في البلاد، وتبدد الأمل في تدشين دولة ديمقراطية، اتجه الإسلاميون إلى العمل المسلح. فقد انتشرت العمليات المسلحة في كافة أنحاء البلاد، لا سيما في سيناء، وزادت حدة الكراهية تجاه المسيحيين. وقد تجلى ذلك في ارتفاع عدد الهجمات على الكنائس بشكل غير سبوق، وذلك بالرغم من محاولة جماعة الإخوان المسلمون إظهار الود نحو الأقباط.
ثمة سبب آخر لزيادة استهداف الأقباط – يقول فيليب – فالجماعات الإرهابية التي لا تقوى على التصدي للجيش المصري القوي تبحث عن الهجوم على أهداف ضعيفة التحصين لإيقاع أكبر عدد من القتلى بين المدنيين. كان السياح هم الهدف المفضل للجهاديين في السابق، ولكن بعد انهيار السياحة، وعزوف السائحين عن زيارة مصر، تحولت بوصلة الإرهابيين – بطبيعة الحال – صوب الأقباط.
لكن جنوح الجماعات المتشددة نحو استهداف الأقباط له أكثر من سبب. وفقًا لرؤية داعش، فإن مقاتلي التنظيم أبطال يقاتلون أعداء الإسلام الذين يوالون الطغاة. وهم يهدفون من وراء ذلك أيضًا إشعال صراع طائفي في مصر، وقد ينزلق صعيد مصر في أتون حرب طائفية طاحنة؛ إذا ما استمرت مثل تلك الهجمات.
وقد وضعت هذه الهجمات أجهزة الأمن المصرية في مأزق حقيقي؛ إذ كيف ستتصدى للإرهابيين بدون أن تظهر وكأنها منحازة إلى الأقباط؟ لم يتعرض عبد الناصر لهذه المشكلة، لأنه كان بطلًا أمام شعبه، وكان الإسلاميون فصيلًا هامشيًا. كان يُنظر إلى عبد الناصر على أنه زعيم مستقل لا ينحاز لا للغرب ولا للشرق، ولهذا لم ينتبه الكثيرون لأفكار الإسلاميين. أما اليوم فيصعب تخيل الشرق الأوسط من دون الإسلاميين. في الستينيت أدرك المثقفون العرب خطر مزيج القومية والاشتراكية والعلمانية، وينظر إليها الآن نظرة متشككة. وفي عالم السيسي، لا بديل عن الحكم العسكري.
إن نظام السيسي يحاول استنساخ تجربة عبد الناصر، لكن السياق
السياسي مختلف تمامًا الآن. بعد انسداد الأفق السياسي في البلاد، وتبدد
الأمل في تدشين دولة ديمقراطية، اتجه الإسلاميون إلى العمل المسلح.
إن وضعًا كهذا قد يستمر لعقود – يقول فيليب – ولكن الوضع في مصر تدهور سريعًا خلال الأعوام القليلة الماضية، وبات من الصعب التنبؤ بالمستقبل.
ويتساءل فيليب عن مدى قدرة قادة القوات المسلحة على الاحتفاظ بولاء صغار الضباط، إذا ما انخرط الجيش في حرب أهلية مثل التي شهدتها الجزائر. وبعبارة أخرى، إلى أي حد تعول الحكومة على قدرة الجيش على الدفاع عن المسيحيين المكروهين؟ لعل هذا قد يقود إلى انقسام في الجيش؛ مما سيفتح الطريق لاشتعال ثورة. أو يحدث انقلاب عسكري آخر، أو ينتصر الإسلاميون على الجيش مثلما حدث في إيران. وفي كل الأحوال، سينشأ نظام إسلامي متشدد، ومصير الأقباط حينها مظلم.
لطالما سيطر الجيش وأذرعه على مصر، وتمسكوا بالمبادئ العلمانية. ولكن في بعض البلدان، جرى إسقاط النظام الحاكم، والاتجاه نحو النظام الديني. ولا أدل على ذلك من العراق، فبعد سقوط صدام حسين، اعتلى الشيعة المتطرفون سدة الحكم، وظهرت في المقابل جماعات متطرفة لدى السنة، مثل الدولة الإسلامية.
اقرأ أيضًا: «ستراتفور»: كيف يؤثر حزب البعث العراقي على تنظيم «الدولة الإسلامية»؟
بعد سقوط حزب البعث في العراق، تحالف بعض قادته مع الجماعات المتطرفة، وأثبتت بعض الدراسات أن لداعش جذورًا بعثية. فقد انضم العشرات من ضباط الجيش والمخابرات العراقيين إلى صفوف التنظيم.
يقول فيليب: إنّ بعض المراقبين يرون أن داعش ما هو إلا غطاء ديني اتخذه بعض قادة حزب البعث للعودة إلى سدة الحكم. ولكن لا يتعين علينا إهدار الكثير من الوقت في تطبيق المسميات الغربية على المجتمعات العربية التي يتجذر فيها الدين بعمق. ويرى فيليب أنّ سبب انحسار العلمانية هو أنها تكن متجذرة في المجتمعات العربية.
ولكن هل يمكن أن تتحول المؤسسة العسكرية المصرية بين عشية وضحاها من اضطهاد الإسلاميين إلى الانضمام إليهم وقيادتهم؟
يرى فيليب أنّ هذه التجارب توفر دروسًا لصناع السياسة الأمريكيين، وتساعدهم على ترتيب أولوياتهم الأقليمية. إن لمصر أهمية كبرى في المنطقة. وإذا ما سقط النظام الحالي، فالعواقب ستكون كارثية. ولكن لا يُعرف ما نوع التدخل الأمثل الذي يحقق الأهداف الغربية، أو ما إذا كان التدخل الأمريكي سيعقّد الوضع أكثر من ذلك. ويشير فيليب إلى أنّ انسداد كل السبل نحو التغيير قد يؤدي إلى حدوث التحول من داخل المؤسسة العسكرية. لذا يتعين على الولايات المتحدة الاستعداد لأي تغيير مفاجئ.
لا يمكن تحديد دور الدين في الحياة السياسية في الشرق الأوسط. يعتقد الغرب أنّ الجماعات الدينية لا تعي مسائل السياسة الحقيقية، لكن هذا الافتراض خاطئ.
يختتم فيليب بالقول إنّ على الولايات المتحدة توخي الحذر عند اختيار الأنظمة التي تريد تغييرها. فكما رأينا في إيران وليبيا والعراق، فإن الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية قد يأتي ببدائل أسوأ غارقة في التطرف الديني.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».