نشر البروفيسور ناثان براون مقالا على الواشنطن بوست يتناول فيه الانتخابات البرلمانية المصرية، وما سينتج عنها من برلمان معطوب. الجدير بالذكر أن براون هو أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية ومدير معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة جورج واشنطن. يقول براون في مقاله:
في غضون الأسابيع القليلة القادمة، سيدلي المصريون بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي لا يعرف أحد بعد من سيفوز فيها، ومع ذلك يعرف الجميع ما هي النتيجة النهائية. وسيدَّعي النظام حينها -على نحو غير دقيق- أن “خارطة الطريق” التي أُعلن عنها عندما أُطيح بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو\تموز، قد اكتملت الآن. عدد قليل من المراقبين تحدوهم آمال كبيرة بشأن البرلمان القادم، إلا أن مستقبله الباهت جذوره ممتدة في الماضي المعقد للدولة المصرية.
مخيب للآمال
بغض النظر عن نتائج الانتخابات الفردية، سيؤدي البرلمان نفس دوره السابق: برلمان ضعيف، لكنه ليس بلا أنياب. في الواقع، سيكون أشبه بمطب لتخفيف سرعة النظام عوضا عن آداء دوره الرئيسي الحقيقي، وعلى الأرجح ستأتي نتائج الانتخابات البرلمانية مخيبة لآمال أطرافٍ كثيرة: فقادة مصر الذين يُبدون لا مبالاة بالوضع السياسي في البلاد سيجدون أنفسهم بصدد برلمان يجب تهدئته وترويضه. أما المعارضة فستجد بعض النقاط التي من خلالها ستنخرط فيه؛ وسيستمتع النواب بقليل من السلطة؛ بينما لن يكون أمام الناخبين العديد من الخيارات. يبدو أن بناء النظام البرلماني المصري لا يخدم غرضا محددا، بل ويبدو أنه بني عبثًا. فما هو السر وراء هلاك البرلمان المخطط له كما يبدو؟
هذه ليست انتخابات ستالينية، حيث يتنافس في الانتخابات مرشحين مستقلين وقوائم للأحزاب. ومع وضع مجموعة جديدة من القواعد، وإعادة رسم بعض الحدود، حيث يتنافس لاعبون لم يختبروا من قبل، ويتناور كبار الشخصيات المحلية الفاعلة في سعيهم وراء تحالفات جديدة. ومن ثم صار من الصعب التنبؤ بنتائج الانتخابات الفردية. لكن المنتج النهائي المتوقع يتمثل في مجموعات متنافرة من السياسيين و المثقفين والمؤيدين (دون وجود تمثيل لأحزاب قوية) يسعون للوصول للموارد، وللمنصات للتموضع ونيل الهيبة والوجاهة.
لا تستطيع المعارضة الفوز في الانتخابات، حيث لا توجد معارضة حقيقية ترشحت. إضافة إلى أنه تم هيكلة نظام الانتخابات بدقة بحيث يهمش الإسلاميين الأكثر تأثيرًا، ويعزز في نفس الوقت فرص الشخصيات المحلية البارزة التي تفتقر لأي أيديولوجية أو انتماءٍ واضح . فقد تم قمع الحزب الأكبر في مصر في الانتخابات البرلمانية السابقة بقسوة، وهو حزب جماعة الإخوان المسلمين حزب الحرية والعدالة. وأعضاء الجماعة الذين ما يزالون أحرارا يتكلمون عن الثورة أكثر من حديثهم عن الانتخابات. بينما الحزب الذي يليهم -ثاني أكبر حزب- وهو حزب النور السلفي، تمسك بالوجود القانوني. لكن تظل مصداقيته بين مؤيديه السابقين غير مجربة أو موثوق منها.
من المؤكد، أن كثير من المستقلين فكريًا سيتنافسون على مقاعد البرلمان، ففي ظل الأوضاع في مصر، حيث البيئة السياسية مقيدة، جنبًا إلى جنب مع المجتمع الذي أُجبِر على الإذعان للنظام، والحظر العنيف للتظاهرات، ومراقبة العديد من المنظمات المدنية، تشتكي الأحزاب الموجودة من عدم استطاعتها التعبئة أو الحشد بشكل يتناسب مع حجم المنافسة الانتخابية. ومع ذلك، حتى لو تم رفع كل تلك القيود فجأة، يظل عدد قليل جدًا من المنظمات لديها مهارة حقيقية في تحريك وتعبئة الناخبين. إضافة إلى تصارع لجنة الانتخابات و المحاكم علنًا حول هوية من بإمكانه الترشح في الانتخابات. بينما اشتكت بعض الشخصيات السياسية بصورة أكثر تكتما من أن الأجهزة الأمنية تشدد على بعض المقاييس في سبيل محاباة بعض المرشحين بعينهم، بينما تتم مضايقة البعض الآخر.
ومع وجود أحزاب ضعيفة في البرلمان -الذي يزيد عدد أعضائه بخُمس العدد الذي كان عليه البرلمان السابق، المنحل في 2012- اعتمدت معظم حملاتهم الانتخابية على الشبكات المحلية والسمعة، فإن البرلمان الجديد سيمتلئ بالنواب المفتقدين للخبرات السابقة والمفتقرين للأيديولوجيات القوية. لذا، على الأرجح سيسترشد هؤلاء النواب بمجموعة من البرامج المبتذلة، والوعود الطنانة المبالغ فيها. وربما يحدد بعض النواب المستقلون تسعيرة لولائهم، وسيرغب النواب المنتمون للدوائر الانتخابية المحلية في إظهار قدرتهم على توفير البضائع للناخبين، وأما الذين ينتمون للمصالح التجارية سيُقَدِّرون العلاقات التي سيكونها بعد دخولهم البرلمان، بينما المستقلون والمثقفون ربما يتوقعون أن تُؤخَذ أفكارهم على محمل الجد. وربما سيكون برلمان 2015 فرصة لإدخال استعارات جديدة شديدة التعصب للهجة المصرية.
هل يهم كل هذا؟ نعم، لأن هناك إجراءات يمكن للبرلمان أخذها من شأنها أن تؤثر على طريقة حكم البلاد. وعلى نفس القدر من الأهمية، هناك بعض التدابير التي إذا اتخذها البرلمان ربما تزيد من المشكلات.
الفراغ البرلماني وعواقبه
على مدي السنوات الأربع والنصف الماضية، استغل الحكام في مصر الفراغ البرلماني في إصدار مئات التغييرات القانونية بقرار من الحاكم -مراسيم-. فالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نفسه أصدر أكثر من 200 قانون تشريعي بقرارات منه فقط، بعضها يغطي بعض القضايا شديدة الحساسة في الدولة. المادة 156 من الدستور المصري الجديد تتطلب أن يوافق البرلمان على تلك القرارات، وإذا فشل البرلمان في إصدار قرار بشأنها، يتم إلغاء القرارات بأثر رجعي. كتب الدستور المصري بلغة قوية وصارمة،وربما إذا وجدوا ثغرة يمكنهم إلغاء القرارات، لكن يبدو أن الثغرات كثيرة، من الصعب حينها أن تتخيل اتباع النواب أي طريقٍ عدا الإذعان الصريح للواقع السياسي الذي تمت الموافقة عليه من قبل. لكنها بالفعل ستكون عملية قبيحة للغاية.
و لأن البرلمان الجديد سيستغرق أسابيع طويلة في في تنظيم أموره الداخلية مثل الموافقة على اللوائح الداخلية والقوانين المحلية، وانتخاب القيادة و إنشاء الجمعيات. ومن المستبعد أن يتمكن النواب حتى من قراءة بعض مما يتوجب عليهم، والذي سيتعرضون للضغط بشأنه حتى تتم الموافقة عليه.
على الأرجح، أهم ما يميز هذا البرلمان هو فشله في ممارسة الصلاحيات التي منحت له شكليا. حقيقة، فالمجلس التشريعي المصري سيواجه الكثير من المتاعب في التشريع. فيما مضى، صيغت التشريعات المصرية في مختلف مؤسسات السلطة التنفيذية، وراجعه مستشارين قضائيين قبل عرضه في البرلمان. ويبدو على الأرجح أن هذا المسار في التشريع لن يتغير مع البرلمان الجديد. إلا أنه من المتوقع أن يقدم النواب في صخب مشروعات قوانين هم على يقين من انتهائها بالفشل،أو استغلال نواب آخرين للنقاشات التشريعية لجذب الانتباه، وهكذا من المستبعد أن يمرر النظام أي تشريع يريده إلا إذا بذل الجهد الكافي للتعامل بجدية مع الأمر، لكنه أيضا قد يجد نفسه مضطرًا للعمل من أجل حشد أغلبيات في التصويت حول بعض القضايا.
من الصعب للغاية تغيير بعض التشريعات -ربما لأسباب وجيهة- ولن ينل ذلك سوى رضا القليلين. القانون المصري يقر تشريعًا خاصًا من نوعه بين القانون العادي والنص الدستوري: “قوانين مكملة للدستور”، وتم تصميمها لتُعرِّف حقا بعينه أو إجراءً بعينه. وبموجب المادة 121 لدستور سنة 2014، تتطلب تلك القوانين موافقة الأغلبية العظمى؛ أي ثلثي المجلس، والهدف من ذلك ضمان أن هذا الجزء التأسيسي للإطار القانوني في مصر هو نتاج مداولاتٍ وتفكير عقلاني متأنٍّ و إجماع. إلا أنه حقيقةً السياق الحالي لهذا القانون يعني أن أي قانون من هذا القبيل سيتوجب أن يكون له حاجز أمان عالٍ -وحتى حدوث ذلك- أي تغييره، ستظل بعض الأجزاء المستبدة في تاريخ وسلطة التشريع كما هي دون المساس بها.
ولتوضيح الوضع أكثر، سيعمل البرلمان المصري يده مغلولة، ورقبته تحت سيف الأحكام القضائية؛ فالمحكمة الدستورية العليا التي لم تقبل أبدًا أي قانون تشريعي للانتخابات من أول مرة، بإمكانها ضرب القانون الجديد عرض الحائط، فتقضي ببطلان قانون الانتخابات و تحل المجلس، ومنذ 2011 حاول العديد من اللغويون الذين صاغوا الدستور جاهدين لتجنب حل البرلمان، لكن لم تفلح أي من تلك المحاولات.
النواب الذين تم انتخابهم على أساس فردي مستقل، ومن المفترض تحملهم القليل من المسؤولية، على الأرجح ستجدهم يتصرفون بطريقة غبر مسؤولة لدرجة تثير الدهشة. فمن السهل تصويرهم على أنهم مجموعة من النواب المتبجحين، المزايدين وموزعي المحسوبيات والساسة المرتشين.
لكن يظل الرئيس بحاجة إلى التعامل معهم، وبالفعل يُظهر علامات إدراكه ذلك، فهو بصدد تصميم أدوات تساعده على إخضاعهم لإرادته. ففي العام الماضي، نال جنرال عسكري منصب أمين عام البرلمان، وفي خطوة استباقية تم أخذها قبل حدوث أي شيء، وقبل حصول أي نائب على كرسي بالبرلمان. ومؤخرًا أمر الرئيس السيسي بتشكيل مجلس وزاري جديد، وأعرب عن مدى أمله في أن يوافق عليه البرلمان الجديد، فعلى ما يبدو أن الهدف من ذلك التمهيد هو إجراء تصويت ثقة تلقائي في وزارته الجديدة .
أنماط تتبعها الحكومات الاستبدادية
لاحظ خبراء السياسة الذين درسوا الأنظمة الحاكمة المستبدة أن العديد من الأنظمة المستبدة تدمج بعض عناصر الإجراءات الديموقراطية داخل أنظمتها. حيث الأنظمة التي تقوم بإجراء بعض الانتخابات، ولديها تعددية محدودة المدى في الحياة السياسية تستمر لفترات أطول من تلك التي لا تفعل ذلك. وهناك العديد من الأسباب التي تشير إلى أن هذه هي الحال في مصر: إذ يسمح النظام بجمع بعض المعلومات، بعض التوجيهات الارشادية القانونية للسماح بالقنوات المعارضة. وربما تقدم بعض الفرص المحدودة للمنتقدين؛ وربما بعض الاحتمالات للتطور عوضًا عن الجمود والتزمت. فيكون برلماننا، مكتظ ومُطوع قابل للتكيف، ولكن لا يخضع تماما لكيانات لها أيديولوجيتها، برلمان كهذا يخدم الحكومات المستبدة فتستمر أطول.
ومع ذلك، غالبًا ما يخطيء العلماء في افتراضهم أن وظيفة المؤسسة البرلمانية الظاهرية، وُضعت عن عمد لهذا الغرض. النظام البرلماني المصري يظهر وجها آخر للسلطوية والاستبداد. فهو نظام لا يعمل على أساس تصميم طويل الأمد مع هياكل صممت بعناية لخدمة استمرار حيويته على المدى الطويل. لكن بدلاً من ذلك، يصدر قرارات لأغراض بعينها اعتمادا على الحاجات قصيرة المدى، ولا يبدي الحكام المصريون أي مؤشرات على قيامهم بمداولات حول ما إذا كانوا يريدون برلمانا قبل هندسة وتخطيط واحدٍ. التخطيط الدستوري في أفضل حالاته يظهر منطقا تكتيكيا بشأن تلك القضايا، وبالكاد يظهر منطقا استراتيجيا.
في عام 2013، أعاد قادة النظام تشكيل أنفسهم سريعًا، فوجدوا أن البرلمان جزء راسخ من السياسة المصرية منذ فترة طويلة وجزء من النظام السياسي في مصر، لذلك أخذوا وجوده كشيء مسلم به. ومهندسو الدستور أدركوا أنهم لا يريدون برلمانا فاعلا كأن ينبش في ملفات الميزانية العسكرية أو شئون الشرطة غير الخاضعة للرقابة. وأدركوا أيضا أنهم أرادوا أن يراقبوا عن كثب القواعد الانتخابية لمنع تكون برلمان تسيطر عليه أيديولوجية ما، ولاسيما برلمانا يسيطر عليه الإسلاميين، فهم نجحوا في جميع المعارك السابقة. وفي خضم ذلك، تركوا قطاعات أخرى في البرلمان دون المساس بها، والبعض الآخر لم يختبروه بعد.
البرلمان المصري ربما يولد معاق! فهو بني بتلك الطريقة من الأساس؛ لم يبن على أساس تصميم ذكي، وإنما مزيج من القرارات اللحظية وقصور تاريخي وغفلة.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».