بدلًا من تَقلُّصها أو تهميشها، تبدو مكانة تركيا الجيوسياسية أفضل كثيرًا مما كانت عليه قبل بضعة أشهر، وذلك حسب ما جاء في تحليل للكاتب كونور إيكولز نشرته مجلة «ريسبونسبل ستيتكرافت» التابعة لمعهد كوينسي الأمريكي لفن الإدارة الرشيدة.
يلفت الكاتب في مستهل تحليله إلى أن تركيا كانت في موقفٍ صعبٍ قبل بضعة أشهر فقط، مشيرًا إلى أن ابتعاد الرئيس رجب طيب أردوغان عن الليبرالية الغربية لسنوات جعل من أنقرة عضوًا غير مرغوب فيه في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وركَّز الرئيس جو بايدن على هذا الأمر، عندما وصف أردوغان بأنه «مستبد» خلال الحملة الانتخابية ولم يَدْعُه لحضور قمة الديمقراطية التي أجراها بايدن عبر الإنترنت، والتي حظيت بترويجٍ كبير العام الماضي.
صعود مكانة أنقرة
وأشار الكاتب إلى أنه مع تصاعد التوترات بين روسيا وأوكرانيا، توقع كثيرون في واشنطن أن تكون تركيا هي الخاسر الأكبر، وكما قال أحد الباحثين إن الأزمة «يمكن أن تؤدي إلى نهاية عملية التوازن الطويلة الأمد التي انتهجتها تركيا بين الناتو وروسيا».
لكن للأحداث الدولية طريقتها في إرباك التوقَّعات، فمع اقتراب الحرب في أوكرانيا من شهرها الرابع، ارتفعت مكانة تركيا الدولية بفضل إستراتيجية حذِرة سلَّحت أنقرة بموجبها أوكرانيا بطائرات مسيَّرة رخيصة الثمن، وشاركت في فرض بعض العقوبات الغربية (وليس كلها) على روسيا، وجلست مع القادة الروس كلما أمكن ذلك، ويقول الخبراء إن هذا النهج سمح لتركيا بالقيام بما لا يمكن تصوره، وهو الحفاظ على علاقات قوية مع الناتو وروسيا على حدٍّ سواء مع اقتراب خطر اندلاع حرب باردة جديدة.
ونقل الكاتب عن سيبل أوكتاي، الأستاذة في جامعة إلينوي والزميلة البارزة غير المقيمة في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، قولها: «تركيا بلد مهم من الناحية الجيوستراتيجية، وقد رَفَعت هذه الأحداث تحديدًا من مكانتها فعليًّا».
كما تشير سيبل إلى أن جهود تركيا لتحقيق التوازن بين الشرق والغرب ليست بالأمر الجديد، ذلك أن إسطنبول تقع على مضيق البوسفور، الممر المائي الإستراتيجي الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط؛ ونظرًا لأن روسيا هي القوة البحرية الرئيسة على البحر الأسود، لم يكن أمام تركيا من خيار سوى التعامل معها على مر السنين، وأصبح البلَدَان الآن شريكين تجاريين رئيسين، ويتدفق السياح الروس إلى ساحل بحر إيجة التركي كل صيف.
ولدى تركيا بطبيعة الحال حدود أيضًا مع أوروبا وتاريخ طويل من العلاقات مع القارة العجوز، وكانت أنقرة جزءًا من حلف الناتو منذ عام 1952، وقربها من روسيا، بالإضافة إلى حجم الجيش التركي الكبير يجعلها ثاني أهم عضو في الحلف.
الابتعاد عن الغرب
واستدرك الكاتب قائلًا: لكن الموقع الجغرافي ليس كل شيء، إذ لم يبدُ سير تركيا على الحبل الرفيع سيرًا رشيقًا خلال السنوات الأخيرة؛ وآية ذلك أن أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، الذي كان في يوم من الأيام محبوبًا لأوروبا ويُعد نموذجًا للإسلام السياسي المعتدل، ابتعد عن الشركاء الغربيين في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى جهود حزب العدالة والتنمية لتقويض المؤسسات الليبرالية التركية (نسبيًّا) وقمع المعارضين، بحسب الكاتب.
لقد ساءت الأمور في عام 2016 بعد أن حاولت عناصر من الجيش التركي إطاحة حكومة أردوغان، ووفقًا لجورجيو كافيرو، الرئيس التنفيذي لمؤسسة جالف ستيت أناليتكس، الذي يوضح أن «أردوغان ومستشاريه يعتقدون أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية كانت تتحوط بالأساس في رهاناتها خلال تلك الساعات من حالة عدم اليقين أثناء حدوث مؤامرة الانقلاب»، مما دفع المفكرين الأتراك إلى الدعوة إلى التقارب مع روسيا وتنفيذ ذلك في النهاية.
ووصلت التوترات إلى نقطة الغليان في عام 2018 عندما اشترت أنقرة دفاعات صاروخية روسية لا تتوافق مع أنظمة الناتو، وهي خطوة أدَّت لحرمان تركيا من المشاركة في برنامج إف-35 المرموق، ولم يساعد الرئيس دونالد ترامب في حل الأمر عندما هدد بـ«تدمير ومحو» الاقتصاد التركي تمامًا في العام التالي.
ووصل التوتر إلى ذروته في منتصف عام 2021 عندما اعترف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن، وهي خطوة عَدَّتها تركيا هجومًا غير مبرر على تاريخها الوطني، وطوال كل هذه الفترة، لم تخدم تركيا نفسها في العواصم الغربية من خلال الاستمرار في قمع المعارضة في الداخل والتقرب لروسيا على المسرح العالمي، بحسب الكاتب.
تغير الأمور
وقالت سيبل للمجلة: «كان العامان الماضيان صعبين للغاية». لكن أداء أنقرة في أزمة أوكرانيا غَيَّر لهجة العواصم الغربية دون الإضرار بعلاقاتها مع روسيا؛ وهو إنجاز رائع بالنظر إلى أن تركيا أمضت الأشهر القليلة الماضية في تسليح كييف.
ونوَّه الكاتب إلى أن تركيا زوَّدت أوكرانيا بطائرات مسيَّرة رخيصة الثمن، ولكنها فعَّالة، مما سمح لأوكرانيا بتحقيق انتصارات مبكرة «عززت معنويات الجميع في التحالف الغربي»، وفقًا لسيبل، التي أضافت أن «تركيا رَفَعت من مكانتها الجيواستراتيجية بمجرد القيام بهذا الفعل وحده». وقالت: «كانت لفتة كبيرة بما يكفي لإظهار أن تركيا تعمل جنبًا إلى جنب مع الناتو، وللتأكد من أن أوكرانيا يمكنها الرد على العدوان الروسي».
ولم يُضيِّع أردوغان، الذي لا يُعرف بكياسته، أي وقتٍ في وضع هذا الموقف الجديد على المحك عندما أعلنت فنلندا والسويد أنهما تريدان الانضمام إلى حلف الناتو؛ واعترضت تركيا على الفور على عرضهما، مشيرةً إلى أن البلدين قد منحتا ملاذًا آمنًا لأعضاء حزب العمال الكردستاني، وهو جماعة كردية متشددة صنفتها تركيا ومعظم الدول الغربية بأنها منظمة إرهابية.
ماذا يريد أردوغان؟
وأضاف الكاتب أن اعتراض تركيا على طلب السويد وفنلندا أثار الذعر بين بعض الدول، التي ترى أن هذه الخطوة مثيرة للانقسام ومحفوفة بالمخاطر في وقتٍ يتعين على الناتو أن يبدو كجبهة موحَّدة، وكما قال مصطفى جوربوز، الأستاذ في الجامعة الأمريكية، في رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى المجلة، قد يبدأ بعض المراقبين في رؤية تركيا على أنها «حصان طروادة روسي داخل الناتو، وليس العكس».
وأوضح جوربوز: «تهديدات أردوغان بعرقلة عضوية السويد وفنلندا في الناتو توضح أن روسيا هي المستفيد الرئيس من التوترات بين تركيا وحلفائها الغربيين».
وعلى أي حال، أردوغان مصمم على استخدام نفوذه لتحقيق نصرٍ ما، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات العام المقبل، بحسب الكاتب، ويشعر الرئيس التركي بالقلق من أنه وحلفاءه من حزب العدالة والتنمية قد يخسرون كثيرًا، إذ تعاني بلاده من أزمة اقتصادية خانقة، ويمكن أن تساعده الانتصارات الدولية في عرض قضيته على الناخبين، وفقًا لباريس كيسجين الأستاذ في جامعة إيلون.
وقال كيسجين: «انتخابات 2023 تلوح في الأفق، لذلك أعتقد أن أردوغان يضع ذلك في الاعتبار»، مضيفًا أن أردوغان يأمل في «استدعاء الانتصارات ثم تشكيل المشهد المحلي على هذا المنوال».
وكما تشير سيبل، تعتقد تركيا أن قرار فنلندا والسويد باستضافة أعضاء حزب العمال الكردستاني سمح للمنظمة بالصمود على الرغم من عقود من الصراع مع أنقرة، ويبقى أن نرى هل تحصل تركيا على كل ما تريده من الطامحين في عضوية الناتو أم لا، لكن سيبل تتوقع أن تركيا «ستحصل على بعض التنازلات بطريقة ما من خلال هذا التكتيك».
وفي نهاية المطاف، تعرف تركيا أن الناتو لا يريد التعامل مع عواقب ترك أنقرة غاضبة، «وفي حال طرد تركيا، فماذا سيحدث؟ ستقترب تركيا حينئذ أكثر من مجال النفوذ الروسي»، وفقًا لسيبل التي ضحكت مضيفة أن تعليقها جعلها تشعر وكأننا «نعيد عقارب الساعة 60 عامًا إلى الوراء».
ويبدو أن بيانًا صدر مؤخرًا عن رئيس حلف الناتو ينس ستولتنبرج يدعم وجهة نظر سيبل، وقال ستولتنبرج في مؤتمر صحفي إن تركيا لديها «مخاوف مشروعة» تتعلق بالإرهاب، في إشارة إلى أن الحلف يأخذ حزب العمال الكردستاني على محمل الجد بوصفه تهديدًا للأمن التركي.
الإسهام في حل أزمة عالمية
وأضاف الكاتب أن هناك قضية أساسية أخرى في الصراع وهي حقيقة أن ملايين الأطنان من الحبوب الغذائية تقبع الآن في صوامع أوكرانيا، وليس من الممكن وصولها إلى الأسواق الدولية، لافتًا إلى أن الحكومات الغربية في حاجة ماسَّة إلى تدفق تلك الحبوب للتخفيف من أزمة الغذاء التي تهدد الآن بعض أفقر دول العالم بالمجاعة.
لكن قلة هم مَنْ على استعداد للتحدث مع روسيا لتحقيق ذلك، وهنا يبرز دور أردوغان، الذي كان فريقه يتفاوض بالفعل مع الكرملين من أجل استئناف الشحن في البحر الأسود؛ ومع ذلك، فقد واجهت جهود أردوغان حاجزًا خطيرًا مؤخرًا؛ فقد رفضت أوكرانيا (التي لم تكن في الواقع طرفًا على طاولة المفاوضات) شروط موسكو لاستئناف الشحن؛ ولكن تركيا لديها حافز كبير لمواصلة الضغط لاستئناف صادرات الحبوب وكذلك الجهود الأكبر للتوسط بين الأطراف المتحاربة، وفقًا لسيبل.
وقالت: «إذا تصرفت تركيا بذكاء، فمن المحتمل أن تنقذ العالم على الأقل من أزمة غذائية وشيكة، أو ربما تجلب هذه الأطراف إلى طاولة المفاوضات»؛ أما فيما يخص كيسجين، فهو غير مقتنع بأن زيادة نفوذ أردوغان على المدى القصير ستُترجم إلى صعود جيوسياسي طويل الأجل؛ لكنه على يقين من شيءٍ واحدٍ: «أردوغان يريد الاعتراف بأن تركيا مهمة، وهذا يمنحه تلك الفرصة، وما زلنا ننتظر رؤية إلى أي مدى سيتجسد هذا على أرض الواقع»، مضيفًا: «لم نرَ ذلك بعد».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».