استعرضت صحيفة الإندبندنت البريطانية في تقرير لمراسلتها في العاصمة البولندية وارسو، ريما مروش، مدى تأثر حظوظ اليمين الشعبوي في دول أوروبا الوسطى بهزيمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، وتخلُص الكاتبة إلى أن الأمل في إمكانية أن تَكْتُب هزيمة الرئيس الأمريكي فصل النهاية السياسية للشعبويين في دول أوروبا الوسطى لا يتطابق مع الواقع على الأرض.

وفي مطلع تقريرها أشارت الكاتبة إلى جوليا هوليوينسكا، البالغة من العمر 37 عامًا، كاتبة مسرحية بولندية وأم لابنة عمرها 13 عامًا، والتي لا تزال لا تحب الحديث عما حدث لها في 22 أكتوبر (تشرين الأول).

كانت عقارب الساعة تشير إلى اقتراب منتصف الليل، عندما كانت جوليا تقف مع مجموعة من النساء أمام منزل باروسلاف كاتشينسكي، زعيم حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا، ونائب رئيس الوزراء المسؤول عن قوات الشرطة والأمن، والرجل الذي يُعد على نطاق واسع السياسي الأكثر قوة في البلاد.

دولي

منذ 3 سنوات
من «أنتيفا» إلى «اليمين المتطرف».. خارطة الحركات السياسية الراديكالية في أمريكا

أفكار اليمين الشعبوي.. قمع المعارضة

ولفت التقرير إلى أن جوليا ومن معها كانوا يحتجون على القانون الذي أقرَّته الحكومة البولندية حديثًا، والذي يفرض حظرًا شبه كامل على الإجهاض، حتى في حالات الأجنة المتضررة، لكن رد فعل الشرطة جاء سريعًا ووحشيًّا عندما ألقت القبض عليها وعلى 16 آخرين.

تقول جوليا، وهي تأخذ نفسًا عميقًا عندما تتذكر ما حدث، إن: «أسوأ ما في الأمر ليس الاعتقال أو وَضْع اليدين في الأصفاد أو الطريقة التي يسحبونك بها إلى داخل سيارة الشرطة أو سَيْل السباب والشتائم العدوانية التي تتلفظ بها الشرطة، أو التفتيش الشخصي الذي ينطوي على التعري، أو الاحتجاز، أو الاستجواب، أو 19 ساعة تقضيها بمفردك في زنزانة»، لكن، بحسب جوليا: «يأتي الخوف عندما تعود إلى المنزل منكسرًا لأن مثل هذا الموقف يسلُبك الشعور بالكرامة والأمان، وبدلًا من ذلك يُشعِرك بالقذارة، ثم لا تفارقك تلك المشاعر لأنها تجربة مؤلمة للغاية».

وأوضحت الكاتبة أن صعود اليمين المتطرف الشعبوي في وسط أوروبا وشرقها يعني أن القمع الذي بدا غير مرجح قبل بضع سنوات فقط بدأ يطفو على السطح ببطء. وفي بلدان مثل بولندا والمجر، فرضت حكومات اليمين إجراءات قمعية على المعارضة وأطلقت موجة من الخوف داخل حدود الاتحاد الأوروبي الذي يتفاخر بالالتزام بالقيم الليبرالية والحريات المدنية. ويتولى حزب القانون والعدالة السلطة منذ عام 2015، بعدما فاز بأغلبية برلمانية صريحة، وهو أول حزب يحقق ذلك منذ انهيار الشيوعية وما تلا ذلك من انقسام سياسي.

Embed from Getty Images

أما في المجر، فقد ظل حزب فيدز بزعامة فيكتور أوربان في السلطة منذ عام 2010، ويزعم البعض أنها الحكومة الشعبوية الأكثر نجاحًا على الإطلاق وكان في طليعة الاتجاه اليميني المتطرف في أوروبا الوسطى، حيث تمكنت حركات شعبوية مماثلة من الاحتفاظ بزمام السلطة في سلوفينيا ورومانيا وبلغاريا، وكذلك كان تأثيرها محسوسًا في دول أوروبا الغربية، في أماكن مثل إيطاليا، مع رابطة الشمال التي يتزعمها ماتو سالفيني، وحتى حزب المحافظين تحت قيادة بوريس جونسون في بريطانيا رحب بالشعبوية رغم أنه ليس من اليمين المتطرف.

مَنْ يكافح القمع إذا لم نفعل؟

ثم تشير الصحيفة إلى ميكولاج أوزينسكي، وهو كاتب بولندي شهد تغيرًا ملحوظًا في المواقف في بلاده، فمنذ ثماني سنوات، بدأ أوزينسكي في الإعداد لما أصبحت روايته الأكثر مبيعًا «سترامر/Stramer»، والتي تؤرخ لقصة عائلة يهودية في بولندا قبل الهولوكوست.

في البداية، كان ينتابه القلق من أن بعض شخصياته، وخاصة الشخصيات السياسية الشعوبية والقومية، لن تكون مُقنِعة، وأنه لن يتمكن من تقديمها على نحو ينبض بالحياة، ويقول إنه كان يكتب في ما يبدو الآن وكأنها بولندا المختلفة تمام الاختلاف.

وتنقل الصحيفة عن أوزينسكي قوله: «في عام 2012 بدت بولندا منفتحة ومتسامحة وطموحة ومناصرة لأوروبا، وبدا أن القوميين صفحة من صفحات الماضي البعيد كما لو كانوا ديناصورات شبه منقرضة»، مستدركًا أنه: «من المؤسف أن الواقع الحالي ساعدني في الكتابة عنهم وإظهار كل التوترات في المجتمع البولندي قبل اندلاع الحرب».

وتابع: «واليوم، لم يعد أحد يندهش بمشهد القوميين الذين يسيرون بالمشاعل، ويؤججون لهيب الأحداث في الشوارع الرئيسة للمدن البولندية الكبرى».

سافر أوزينسكي كثيرًا عبر بولندا للترويج لكتابه، لكن في الآونة الأخيرة فقط، وأثناء لقاءاته مع قرائه، بدأ يسمع سؤالًا شخصيًّا مثيرًا للقلق يتجاوز ما هو أبعد من عالم الأدب، يطرحه الرجال والنساء على حد سواء بأشكال مختلفة: «هل يجب أن أهاجر؟ هل يجب أن أغادر بولندا؟ هل ينبغي أن تحزِم عائلتي أمتعتها قبل أن تبدأ الحكومة في الملاحقات القضائية»؟

في البداية لم يكن يعرف ما الذي ينبغي عليه قوله ردًا على تلك الأسئلة، إذ إنها: «قرارات شخصية بالغة الأهمية، ولكن بعد ذلك توصلتُ إلى إجابة، وهي أن التاريخ البولندي، وخاصة التاريخ الحديث الذي شهد ميلاد حركة «نقابة تضامن» ومفاوضات المائدة المستديرة في عام 1989، يبين لنا أن بولندا بلد كل شيء فيها ممكن، بما في ذلك الأمور الطيبة أيضًا، وهي تستحق السعي الدؤوب لتحقيق الغايات المنشودة لأنه لن يفعل أحد آخر ذلك من أجلنا، وخاصة إذا غادرنا جميعًا».

Embed from Getty Images

يتابع أوزينسكي الأخبار من بودابست والشعبوية هناك، ويقول: «المجر قطعت شوطًا أكبر في هذه العملية، ونحن نوعًا ما نحذو حذوهم، وعلى بعد خطوات قليلة منهم».

ومن المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة في المجر في أبريل (نيسان) 2022.

اليمين في أوروبا: فرصة للفوز

وألمحت الكاتبة إلى أن المعارضة المجرية قررت في وقت سابق من هذا الشهر أنها على الرغم من كل خلافاتِها الأيديولوجية، فإنها سوف تتوحد في قائمة واحدة حتى تزيد من فرص فوزها على حزب فيدز، وهي خطوة بلا شك يمكن أن تمنحهم فرصة أكبر للفوز بالانتخابات.

ومع ذلك، لا يزال فيدز يتقدم في استطلاعات الرأي على أي حزب معارض، حتى لو انخفض الدعم بسبب تأثير أزمة كوفيد-19، لكن قد يَضعف حزب فيدز خاصة بين قاعدة الناخبين في الريف، إذا تفاقمت هذه الأزمة أكثر، فقد أبلغت المجر هذا الأسبوع عن أكثر من 315 ألف حالة إصابة بمرض كوفيد-19 وحوالي 9 آلاف حالة وفاة في وقت يئن فيه نظام الرعاية الصحية تحت ضغط الجائحة الشديد.

يقول بوتوند فيليدي، الزميل البارز في مركز التكامل الأوروبي الأطلسي والديمقراطية في بروكسل، إن «هناك حاجة إلى حدث كارثي لأي تغيير منهجي، فكلما بقي فيدز في السلطة، سيكون هذا التغيير أكثر كارثية».

التكيف مع الظروف الدولية الجديدة

ونوَّهت الكاتبة إلى أنه وبعيدًا عن أوروبا الغربية، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حليفًا للزعماء الشعبويين في بولندا والمجر، ولكنه سوف يغادر منصبه في أواخر يناير (كانون الثاني)، الأمر الذي دفع البعض إلى التكهن بأن قوة الشعبويين الأوروبيين قد تتضاءل.

ولكن هؤلاء الذي يلمسون الحقيقة على الأرض يُبْدُون تشكُّكهم في أن مغادرة ترامب للبيت الأبيض تعني أن نجم الشعبوية أصبح في طريقه إلى الأفول في وسط أوروبا.

ويوضح فيليدي أن أوربان كان في السلطة قبل وصول ترامب، وفضلًا عن ذلك ظلت دورة الحكومة الحالية تحت ولايته قائمة منذ عام 2010، وكذلك كان رئيسًا لحزبه طيلة 30 عامًا، وهو الشخصية السياسية الوحيدة (في المنطقة) التي كانت نشطة في الممارسات السياسية الأولى منذ سقوط الستار الحديدي.

يقول فيليدي إن الأنظمة الشعبوية، بعناصرها القوية المناهضة للنخبوِية والتعددية، انطوائية بطبيعتها.

ويضيف فيليدي: «وجود حليف مثل ترامب لا يشكل أهمية كبرى للشعبويين في أوروبا مقارنةً بالأعداء والمعارضين، مثل ليبراليو بروكسل، أو جورج سوروس ذاته (الملياردير المجري المولد، الذي يرى كثيرون من اليمين أنه وراء «مؤامرات» عالمية).

Embed from Getty Images

وتزدهر هذه الأنظمة مع حكايات العداوة، وهي في واقع الأمر تشترك في عداوة أعداءٍ أقل مما قد يتصور المرء، فقد كانت الصين، وهي العدو الرئيس لترامب، حليفًا لرئيس الوزراء أوربان في البداية، وعلى هذا فإن الشعبوية سوف تنجو من تأثيرات نهاية ترامب وسوف تتكيف مع الظروف الدولية الجديدة».

بولندا: التجربة المريرة

وبالعودة إلى بولندا، لا تزال قضية المحكمة الخاصة بجوليا مُعلَّقة لكنها لا تريد أن تلعب دور «البطولة» فيما يتعلق باعتقالها والمعاناة التي أعقبت ذلك.

وتقول إنها كانت من بين المحظوظين، وكانت تعرف حقوقها وقد وصل زوجها، ومعه محامٍ، على الفور تقريبًا إلى مركز الشرطة. ومنذ ذلك اليوم اعتقلت السلطات البولندية أكثر من 80 شخصًا ، وتضيف: «نحن بكل تأكيد نسلك اتجاهًا بالغ الخطورة مع انتهاكات الدستور وحقوق الإنسان الأساسية»، وهي ليست وحدها التي تشعر بالقلق والخوف على مُستقبلها وعائلتها الصغيرة وبلدها.

وتختم المراسلة تقريرها قائلةً وعلى الرغم من التجربة المريرة وخروج عديد من أصدقائها من بولندا أو تفكير آخرين في الإقدام على تلك الخطوة، إلا أن جوليا لا تخطط للتوقف عن الاحتجاج أو الاستسلام. وفي الوقت الحالي، تحارب مرة أخرى بالأدوات التي لديها، فقد كتبت مسرحية من فصل واحد استنادًا إلى تجاربها الأخيرة، وسوف تكون البرتغال أول مَنْ يشهد العرض الأول لمَسرحيتها في مارس (آذار) المقبل.

دولي

منذ 3 سنوات
كيف يصطاد «اليمين الأوروبي» وعي الجماهير في أزمة كورونا؟

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد