نشر موقع «لايف ساينس» مقالًا لنيكوليتا لانيس، وهي كاتبة في الموقع تغطي الصحة والطب إلى جانب موضوعات البيولوجي والحيوانات والبيئة والمناخ، تحدثت فيه عن حاسة التذوق، وكيف تتطور مع السن من قبل الولادة وحتى الشيخوخة.
قد يشمئز الطفل الصغير عند تذوق السبانخ لأول مرة، ولكن في النهاية، يمكن لهذا الطفل نفسه أن يكبر ويتناول الخضروات بسهولة أو ربما تصبح من أطعمته المفضلة، وحتى بعد مرحلة الطفولة، يمكن أن تستمر تفضيلات النكهات لدى الشخص في التطور، والسؤال هو: كيف يحدث ذلك؟
قالت جولي مينيلا، مختصة علم النفس البيولوجي، وعضو في مركز مونيل كيميكال سينسز في فيلادلفيا، إن تفضيلات النكهات لدينا تتشكل من خلال العديد من العوامل، بما في ذلك العوامل الوراثية لدينا، والوجبات الغذائية لأمهاتنا أثناء الحمل واحتياجاتنا الغذائية في مرحلة الطفولة، ولكن صفاتنا البيولوجية لا تحدد الأطعمة التي نحبها أو نكرهها بمرور الوقت، ولكن تفضيلاتنا مرنة جدًّا، وتتغير اعتمادًا على النكهات التي نتعرض لها، ووقت ذلك وعدد مرات التعرض والسياق الذي تُعرض فيه هذه الأطعمة علينا.
وتشير الدراسات إلى أن تعلم قبول النكهات الجديدة قد يكون أسهل في الطفولة المبكرة، قبل سن 3 سنوات، بينما بالمقارنة، قد يحتاج الأطفال الأكبر سنًّا إلى تذوق طعام جديد مرات أكثر قبل أن يتعلموا كيف يحبونه، وفقًا لمراجعة في 2014 كتبتها مينيلا، ونشرت في المجلة الأمريكية للتغذية السريرية، وقالت مينيلا لموقع «لايف ساينس» إنه في حين أن مرحلة المشي (من عمر 12 إلى 36 شهرًا) قد تمثل فرصة فريدة لتوسيع تذوق الشخص، «ولا أعتقد أن هذه النافذة تغلق تمامًا بعد هذه المرحلة».
وتلفت الكاتبة إلى أنها لاحظت أننا جميعًا يمكننا أن نتعلم كيف نحب النكهات الجديدة، بغض النظر عن أعمارنا، على الرغم من صعوبة التغلب على الذكريات السيئة لأطعمة معينة، (على سبيل المثال، بعد نوبة شديدة من التسمم الغذائي، قد تشعر بالغثيان من مجرد التفكير في الطعام الذي جعلك مريضًا، كما قال عالم النفس وعالم الأعصاب هادلي بيرجستروم لموقع «هافينجنتون بوست»)
علاوةً على عملية التعلم المستمرة هذه، قد تتغير تفضيلات النكهة لدينا في مرحلة البلوغ إلى حدًّ ما حيث تصبح حواس التذوق والشم لدينا أقل حساسية مع تقدم العمر، مع أن حساسية النكهة هي مجرد واحدة من عدة عوامل تشكل تفضيلات الطعام لدى كبار السن، وفقًا لتقرير نُشر في عام 2017 في مجلة «مراجعات نقدية في علوم الغذاء والتغذية».
حاسة التذوق: كيف نشعر بالنكهات
تقول الكاتبة إن شعورنا بالنكهة لا ينبع من التذوق فحسب، بل أيضًا من حاسة الشم، وفقًا لموقع «BrainFacts.org»، وهي مبادرة إعلامية تديرها جمعية علم الأعصاب؛ ومع ذلك، هناك العديد من العوامل الأخرى التي تؤثر فيما إذا كنا نحب بالفعل النكهة التي نتصورها، كما قالت مينيلا، وتشمل هذه العوامل تفضيلات الذوق الفطرية المدفوعة تطوريًّا، والخصائص الفيزيائية للطعام، مثل قوامه أو درجة حرارته وخبراتنا السابقة مع نكهة معينة أو نكهات مماثلة.
عندما نقضم الطعام، مثل قطعة من جبن الشيدر، تتسرب المواد الكيميائية الموجودة في الوجبة الخفيفة إلى تجويف الفم، وتلتحم بعض هذه الجزيئات بخلايا حسية تسمى مستقبلات التذوق، وتقع على اللسان وعلى طول سقف الفم ومؤخرته، تكتشف هذه الخلايا خمسة مذاقات أساسية على الأقل: الحلو والمالح والمر والحامض و اللذيذ.
ويتخصص كل مستقبل طعمًا في إحدى فئات التذوق الواسعة هذه، لذلك هناك مستقبلات حلوة ومستقبلات ملحية، على سبيل المثال؛ لكن هذا لا يعني أن جميع المستقبلات ضمن فئةٍ ما تتفاعل مع جزيئات التذوق نفسها؛ فمثلًا، يحمل البشر 25 نوعًا من مستقبلات التذوق للمرارة؛ وأشارت مينيلا إلى أن بعض المستقبلات المرة لا تكتشف سوى عددًا قليلًا من المركبات، في حين أن البعض الآخر حساس للكثير، واعتمادًا على الجينات، يحمل الأشخاص المختلفون نسخًا مختلفة قليلًا من كل مستقبل، وبكميات مختلفة، والتي بدورها تؤثر في حساسيتهم للأذواق المختلفة.
وإلى حدٍّ ما، قد يؤثر مجتمع الميكروبات التي تعيش في أفواهنا – المسمى بالميكروبيوم الفموي – أيضًا في الجزيئات التي تطلق من طعامنا أثناء مضغنا، وبالتالي، أي نوعٍ من المستقبلات تعمل استجابةً للطعام المذكور.
قضمة واحدة من الجبن ترسل مستقبلات التذوق إلى نوبة من النشاط لأنها تطلق الرسائل إلى الدماغ، في الوقت نفسه، تندفع بعض الجزيئات الصغيرة المحمولة جوًّا المنبعثة من الوجبة الخفيفة من تجويف الفم، عبر الحلق إلى تجويف الأنف، حيث تلامس مستقبلات الرائحة، بعض المركبات ذات الرائحة الكريهة من الجبن تدخل أيضًا من خلال الفتحات الأمامية للأنف، وعند التنشيط، ترسل مستقبلات الرائحة موجةً من الرسائل إلى الدماغ، والتي تدمج هذه المعلومات مع تلك الواردة من مستقبلات التذوق لتجلب لنا النكهة المميزة لجبن الشيدر الأبيض القديم.
وفي حين أن حساسية مستقبلات التذوق والشم لدى الفرد تشكل إحساسه بالنكهة، فإنه «لقياس مدى حساسية شخصٍ ما؛ فإن هذا لا يوضح أي شيء عن مدى حبه لشيءٍ ما»، وفقًا لمينيلا.
لماذا نحب ما نحب من الأطعمة؟
تجيب الكاتبة على هذا التساؤل بالقول: يكمن التطور البشري وراء حبنا لأذواق معينة إلى حدٍّ ما، ومنذ الولادة، يُظهر الأطفال تفضيلًا متزايدًا للمذاقات الحلوة، مقارنةً بالبالغين، ويستمر هذا الولع بالحلوى حتى منتصف سن المراهقة، حوالي سن 14 إلى 16 عامًا، عندما يبدأ نمو الطفل في التباطؤ، وفي هذه المرحلة، عادةً ما ينخفض شغف الأطفال بالحلوى، ويصبح ذوقهم أكثر شبهًا بالبالغين، وفقًا لمراجعة المجلة الأمريكية للتغذية السريرية لعام 2014.
قالت مينيلا إن هذا الحب المبكر للحلوى أمر شائع بين الثدييات العليا، إذ تعمل الحلوى بوصفها إشارةً عامةّ للأطعمة عالية السعرات الحرارية التي ستكون مفتاحًا للنمو والتطور والبقاء على قيد الحياة؛ وبشكل عام، يُظهر الأطفال أيضًا ميلًا متزايدًا للملح، مقارنة بالبالغين، وهو معدن أساسي لوظيفة الدماغ والعضلات.
وفي حين أن المذاق الحلو والمالح يشير إلى سمات مفيدة في الأطعمة، فإن المر قد يشير إلى شيء سام أو فاسد، على سبيل المثال، على حد قول مينيلا، وقالت إن الأطفال يظهرون حساسية متزايدة تجاه الأذواق المرة، مقارنة بالبالغين، وبهذه الطريقة، يعمل نظام التذوق بمثابة «حارس البوابة» من نوعٍ ما، مما يضمن أن الأطفال في مرحلة النمو يتناولون الكثير من السعرات الحرارية وفي الوقت نفسه يتجنبون السموم.
وبالطبع، تؤثر هذه التفضيلات الفطرية أيضًا في كيفية تفاعل الأطفال مع الأطعمة المغذية التي تتميز بالطعم المر، مثل الخضروات ذات اللون الأخضر الداكن؛ لذلك، بينما ينجذب الأطفال إلى حلاوة لبن الأم، فإنهم عادةً ما يمقتون المذاق الأول للسبانخ المهروسة الذي يقدم لهم بعد الفطام.
التفضيلات تبدأ في رحم الأم
تستدرك الكاتبة قائلة: لكن التطور ليس هو المؤثر الوحيد في تفضيلاتنا الغذائية في مرحلة الطفولة؛ تقول مينيلا إنه من اللحظة التي تتطور فيها حواس التذوق والشم في الرحم، تبدأ الأجنة في تعلم حب الأطعمة المختلفة، والأطعمة والمشروبات التي تتناولها الأم أثناء الحمل، تضيف «نكهة» للسائل الذي يحيط بالجنين، وبالتالي يعرض الجنين لنكهات جديدة وينقل المعلومات حول النكهات الآمنة للاستهلاك، وفقًا لمراجعة أجريت عام 2019 في المجلة الأمريكية للتغذية السريرية.
وبعد الولادة، يمكن أيضًا لجزيئات النكهة أن تمر عبر حليب الثدي وتلون انطباع الطفل عن تلك النكهات؛ فعلى سبيل المثال، في دراسة قادتها مينيلا في عام 2001، ونُشرت في مجلة «بدياتريكس»، أن الأطفال كانوا يأكلون الأطعمة بنكهة الجزر بسهولة أكبر عندما تشرب أمهاتهم عصير الجزر أثناء الحمل أو أثناء الرضاعة الطبيعية؛ وبشكلٍ عامٍّ، بدا أنهم يحبون النكهة أكثر من الأطفال الذين لم يتعرضوا لها من قبل في الرحم أو من خلال الرضاعة.
وتضع هذه التجارب المبكرة الأساس لتفضيلات النكهات لدينا، فمن خلال التعرض المتكرر لأطعمة جديدة، تتوسع أذواقنا، وتشير الدراسات إلى أنه بالنسبة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم من أربعة أشهر إلى سنتين، فإن تذوق طعم الخضار كل يوم على مدى ثمانية إلى 10 أيام يمكن أن يزيد من تقبلهم لهذا الطعام بعد ذلك؛ هذه الذكريات المتعلقة بالنكهة التي نشكلها في الطفولة تترك انطباعًا دائمًا في تفضيلاتنا؛ ومع ذلك، يمكن أن تستمر عملية تعلم الإعجاب بالأطعمة الجديدة حتى مرحلة البلوغ.
وقالت مينيلا في عام 2010 في المؤتمر السنوي الثاني والعشرين لجمعية العلوم النفسية: «يمكننا جميعًا أن نتعلم كيف نحب الأطعمة الجديدة، لكن هذه الأطعمة التي نتناولها في طفولتنا هي التي تنقلنا إلى ماضينا، وذلك بسبب هذه الذكريات القوية عاطفيًّا، والتي تثير النكهة»، وذكرت «لايف ساينس» سابقًا أن الذكريات المتعلقة بالنكهة تحمل الكثير من الوزن العاطفي، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى خط الاتصال المباشر بين مستقبلات الشم، ومراكز العاطفة والذاكرة في الدماغ.
التذوق في مرحلة الشباب والشيخوخة
وتلفت الكاتبة إلى أنه إلى جانب عملية التعلم المستمر هذه، قد تتغير أذواقنا مع تقدمنا في السن بسبب التغيرات في قدرتنا على التذوق والشم؛ ففي الشباب، تتجدد خلايا براعم التذوق كل أسبوع أو نحو ذلك، ولكن مع تقدم العمر، تتباطأ عملية التجديد هذه بشكلٍ كبيرٍ، وفقًا للإذاعة الوطنية العامة، وفي منتصف العمر تقريبًا، في الأربعينيات والخمسينيات من العمر، يبدأ العدد الإجمالي لبراعم التذوق في أفواهنا في الانخفاض وتصبح مستقبلات التذوق المتبقية أقل حساسيةً، وفقًا لمستشفى كليفلاند.
وتتراجع حاسة الشم لدينا أيضًا مع تقدم العمر، سواءً من تلقاء نفسها أم بالاقتران مع الأمراض المرتبطة بالعمر مثل مرض باركنسون والزهايمر، وفقًا للمعهد الوطني للشيخوخة التابع للمعاهد الوطنية للصحة، وعلى غرار التذوق، يرجع التغير في تقبلنا للأطعمة إلى انخفاض مستقبلات الشم وتباطؤ معدل التجدد؛ كما أن الأدوية، مثل المضادات الحيوية وحبوب ضغط الدم، يمكن أن تفسد الإحساس بالتذوق، ويمكن أن تقوض العلاجات الإشعاعية والعلاج الكيميائي حاستي التذوق والشم، ويؤدي دخان السجائر والملوثات الكيميائية إلى الإضرار بأنظمة التذوق والشم أيضًا.
تختم الكاتبة بالقول: في بعض الحالات، يمكن أن يؤدي هذا الانخفاض في حاسة التذوق والشم إلى إحجام الناس عن تناول الطعام تمامًا، لأن كل شيء يكون بلا طعم؛ ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنه في بعض الحالات، يبحث الأفراد عن الأطعمة ذات النكهة الشديدة وتشير بعض الدراسات، على وجه الخصوص، إلى أن استهلاك الأطعمة فائقة الحلاوة والملوحة يميل إلى الزيادة مع تقدم العمر، لكن هذا الاتجاه لا يظهر دائمًا، وفقًا لتقرير 2017 في مجلة مراجعات نقدية في علوم الغذاء والتغذية، وقد تؤثر السمات الأخرى للأطعمة، مثل شكلها وقوامها ومدى سهولتها في التحضير والأكل، بشكل كبير في التفضيلات الغذائية لكبار السن.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».