نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا حول تزايد حالات الوفاة في فرنسا؛ نتيجة تفشي فيروس كورونا المُستجد، الأمر الذي عانى منه مسلمو فرنسا، على وجه التحديد، بسبب التزامهم بمراسم معينة في عملية الدفن وفق المعتقدات الإسلامية.
صدَّرت الصحيفة التقرير بصورة لعدد من المشيعين الذين يهيلون التراب على قبر رجل عمره 87 سنة، من أصول جزائرية، توفي نتيجة إصابته بفيروس كورونا المُستجد، ولا يوجد أقارب له في فرنسا. أما إتمام العملية فكان وفق تعاليم الدفن الإسلامية التقليدية في مقبرة في ثيايس، إحدى ضواحي باريس.
يصف مراسل الصحيفة مشهد دفن آخر قائلًا: انحنى رجال في منتصف العمر، بعضهم يرتدون أقنعة وقفازات، على قبر محفور حديثًا، وأدخلوا فيه التابوت بمنتهى الحذر. تقوست ظهور المشيعين وثنوا ركبهم أثناء دفنهم امرأة فرنسية من أصل مغربي، تبلغ من العمر 60 عامًا، في القسم الإسلامي من إحدى المقابر الواقعة في بلدة شمال باريس.
لكن المكان الذي كانت تريد هذه المرأة أن تُدفن فيه، كان على بعد أكثر من 1800 ميل من هذه البقعة، وهي قريتها الأصلية في المغرب، المُسماة إفران الأطلس الصغير.
قال ابن السيدة المتوفاة، حكيم، الذي أصر على أن يُشار إليه باسمه الأول فقط؛ احترامًا لخصوصية عائلته: «لقد دفناها هناك (في فرنسا)، لكننا لا نعرف ما إذا كنا سنعيدها مرة أخرى إلى الوطن أم لا».
مسلمو فرنسا ومعاناتهم بسبب جائحة كورونا
يوضح الكاتب أن الجائحة التي قلبت معظم العالم أوقفت تقاليد العديد من العائلات المهاجرة المسلمة الفرنسية التي كانت تعيد الجثامين إلى بلادها الأصلية. وفي ظل إغلاق معظم الدول لحدودها، سُلِّطَت الأضواء أيضًا على المهمة الصعبة المتمثلة في العثور على بقاع مناسبة للدفن الإسلامي، تكون صوب القبلة في مكة.
ومثل هذه البقاع المخصصة للدفن الإسلامي قليلة إلى حد كبير في المقابر الفرنسية، وهو شاغل مثير للقلق، سبق وأثارته العديد من العائلات من شمال غرب الصحراء الأفريقية وجنوبها على مدى عقود. لكن الجائحة ساعدت في الكشف عن مدى النقص، وأكدت في الوقت نفسه الصراع الأوسع الدائر حول اندماج المسلمين في فرنسا.
«كوفيد-19، للأسف، ضرب الجالية الإسلامية بكامل قوته». *إمام المسجد الكبير في باريس
قال شمس الدين حافظ، إمام المسجد الكبير في باريس، إن مرض «كوفيد-19، للأسف، ضرب الجالية الإسلامية بكامل قوته». وأضاف «هذا الوضع مستمر منذ سنوات، ونحن ندفع الآن ثمنًا باهظًا له».
بحسب التقرير، تُعاد آلاف الجثث في كل عام إلى مناطق المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي عملية كانت تُجرى من خلال دور جنائز متخصصة، ورحلات طيران مستأجرة، وخدمات قنصلية، لكن فيروس كورونا المُستجد أوقف هذا النظام الذي يعمل بكفاءة.
علَّق المغرب وتونس جميع عمليات إعادة الجثامين إلى أرض الوطن، بينما سمحت الجزائر ومالي بالعودة فقط للأشخاص الذين لم يموتوا بسبب فيروس كورونا. ودفع الحظر المفروض على عودة الجثامين إلى الوطن المزيد من العائلات المسلمة إلى اللجوء إلى المقابر الفرنسية لدفن أقاربها.
كثافة سكانية مسلمة ومقابر محدودة
يشير المراسل إلى أنه في عام 2016، كان يعيش في فرنسا حوالي 6 ملايين مسلم، أي ما يقرب من 9% من إجمالي السكان، وهو ما يمثل أعلى تركز سكاني في أوروبا، وفقًا لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث. وقال السيد حافظ إن 2% بالكاد من إجمالي المقابر في فرنسا التي بها أقسام لدفن المسلمين.
دعت الجاليات المسلمة الفرنسية على مدى سنوات إلى توفير مساحة أكبر في المقابر، ولكن بسبب قوانين فرنسا العلمانية الصارمة، فإن المجالس البلدية – التي تدير مقابر البلاد – ليست ملزمة بإنشاء بقاع (الدفن) الدينية أو توسيعها.
تصنف فرنسا ضمن الدول الخمس الأكثر تضررًا في العالم.
وفي ظل حدوث حوالي 25 ألف حالة وفاة مرتبطة بفيروس كورونا المُستجد، تصنف فرنسا ضمن الدول الخمس الأكثر تضررًا في العالم. وعلى الرغم من أنه من غير المعروف كم عدد المسلمين بين هؤلاء الموتى، أفاد متعهدو دفن (حانوتية) مسلمون بأنهم تلقوا طلبات بأعداد هائلة لترتيب عمليات دفن طارئة، أو التعامل مع عملية إعادة جثامين إلى أرض الوطن.
قال جمال جمعي، البالغ من العمر 42 عامًا، وصاحب دار جنائز المسلمين المسماة بـ«الجنازة» في منطقة سين سان دوني، «هناك أزمة خطيرة جارية». وأضاف أن المنطقة موطن لكثير من أسر المهاجرين، وارتفع معدل الوفيات هناك في الأسابيع الأخيرة. وقال السيد جمعي إن النشاط في شركته (الخاصة بالدفن) زاد بأكثر من الضعف، منذ بداية الأزمة؛ لأن «الجثث في الظروف العادية كان ينبغي إعادتها إلى وطن المتوفى».
وبالنسبة للعائلات التي هاجر آباؤهم من المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا إلى فرنسا، في النصف الثاني من القرن العشرين، تعد إعادة جثث أحبائهم إلى الوطن تقليدًا يستند إلى الرغبة في الحفاظ على علاقات قوية مع الوطن.
الحنين إلى الوطن مستمر حتى بعد الموت
«للأمر بُعد رمزي يتعلق بالعودة إلى الجذور»، بحسب ما قالت فاليري كوزول، الباحثة في مركز ماكس فيبر في ليون، والتي تقدر أن حوالي 80% من المسلمين الذين يموتون في فرنسا تُعاد جثامينهم إلى بلدانهم الأصلية. وأضافت السيدة فاليري كوزول أن بعض العائلات المهاجرة في فرنسا «أُجبرت» على إعادة جثامين ذويها إلى موطنها الأصلي؛ بسبب عدم وجود قسم للمسلمين في المقبرة.
ويسوق الكاتب مثالًا آخر بمامادو دياجوراجا، البالغ من العمر 32 عامًا، الذي فقد والده في أواخر شهر مارس (آذار). توفي والد السيد دياجوراجا، الذي هاجر من مالي إلى فرنسا في السبعينيات، عن عمر يناهز السبعين عامًا في أحد المستشفيات بعد إصابته بعدة جلطات.
وأدى الخوف من العدوى إلى استحالة ترحيله إلى وطنه ودفنه بالقرب من جثث إخوته وأخواته في قريته. وقال دياجوراجا: «لم أحترم آخر أمنياته، هذا صحيح، إنه أمر مفجع».
أظهرت عشرات شواهد القبور الخشبية المثبتة في أكوام جديدة من الأرض حدوث زيادة مؤخرًا في نشاط الدفن في القسم الإسلامي.
وينتقل التقرير إلى يمينة، والدة حكيم، التي توفيت بسبب السرطان، وكان من المقرر أن تُدفن في قرية إفران الأطلس الصغير في جنوب المغرب، التي غادرتها في سن العشرين لتلحق بزوجها المغربي الذي كان يعمل بالفعل خبير معادن في فرنسا.
ولكن في ظل الحظر المفروض، قررت عائلتها دفنها في القسم الإسلامي من المقبرة في بلدة جارج لي جونيس. وبالقرب من قبرها، أظهرت عشرات شواهد القبور الخشبية المثبتة في أكوام جديدة من الأرض حدوث زيادة مؤخرًا في نشاط الدفن في القسم الإسلامي.
لكن حكيمًا كان ممتنًّا، وقال: «قلة من الناس حالفهم الحظ نفسه»، في إشارة إلى العائلات التي كانت ما تزال تبحث عن مقبرة بها قبور إسلامية متاحة.
تحركات فرنسية لإرضاء المسلمين وتحقيق الاندماج
دعا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في شهر أبريل (نيسان) رؤساء البلديات والمسؤولين الحكوميين إلى توفير قطع أرض جديدة على وجه السرعة للدفن. وقال بيان المجلس: «دعونا لا نضيف إلى حزن العائلات ألم العجز عن تكريم موتاهم».
ويشير التقرير إلى موافقة العديد من البلدات، خاصة في ضواحي باريس، على توسيع مقابرها، لكن العديد من المناطق ما تزال تواجه نقصًا في بقاع الدفن الإسلامية.
وقال كامل قبطان، إمام الجامع الكبير في ليون، إن هناك 100 مقبرة ما زالت متاحة لحوالي 100 ألف مسلم في المنطقة المحيطة بمدينة ليون، إذ أصدر مجلس الأئمة فتوى دينية تسمح مؤقتًا بالدفن خارج أقسام المسلمين. ويمكن للأسر في وقت لاحق استخراج الجثث وإعادة دفنها – أو حتى إعادتها إلى الوطن – وفقًا للتقاليد الدينية.
قال صمد أكراش، البالغ من العمر 32 سنة، رئيس منظمة «طهارة»، التي تساعد العائلات المسلمة في مراسم الجنازة: «كنا بحاجة إلى فيروس كورونا المُستجد لزيادة الوعي». وقدم السيد أكراش مؤخرًا استئنافًا يطالب فيه بتوسيع القسم الإسلامي في مقبرة مونتروييل شرق باريس.
وأضاف السيد أكراش، الذي تنحدر عائلته من المغرب، أنه لا يكافح من أجل الجيل الأكبر سنًّا الذي هاجر إلى فرنسا فحسب، بل أيضًا من أجل أفراد من جيله الذين ولدوا في فرنسا، ولا ينوون دفنهم في مكان آخر. ويشدد السيد أكراش على هذه الفكرة قائلًا: «المغرب بلد والديَّ وأجدادي، لكنها ليست بلدي».
وقال السيد حافظ، إمام الجامع الكبير في باريس، إنه بالنسبة للأجيال الشابة، فإن الموروث التقليدي الخاص بـ«مسقط الرأس» يحظى بأهمية أقل بكثير. ويضيف: «الأجيال الشابة تريد أن تكون فرنسية بالكامل، ومن الواضح أن الرغبة في الدفن في فرنسا يعد نوعًا من الاندماج».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».