كثيرًا ما نسمع عن حالات التضخم الاقتصادي في الكثير من البلدان، دون أن نفهم بالتحديد ماهية هذا التضخمـ وما الذي يقود إليه!
يمكن تعريف التضخم ظاهريًا بأنه عبارة عن فقدان العملة لقوتها الشرائية، إلا أن الأمر يشمل الكثير من الجوانب والتأثيرات الاقتصادية، وهو ما يستعرضه تقرير موقع بيزنس إنسايدر عن التحول الكارثي لحالات التضخم في بعض البلدان إلى كوارث اقتصادية كبرى وانهيار كامل للأسواق، حيث وصل عدد تلك الحالات إلى 55 خلال القرن الماضي.
يمكن تعريف التضخم أيضًا بكونه ارتفاعا تصاعديا ومستمرا لمستوى الأسعار في الاقتصاد؛ نتيجة لانخفاض قيمة النقود، ولا يوجد سبب واحد فقط للتضخم، ومن ذلك زيادة الطلب على العرض، وزيادة النفقات الصناعية وعوامل خارجية أخرى كأسعار المواد الخام، ما يقود في النهاية إلى تأثر ميزان المدفوعاتـ وبالتالي على العملة المحلية بشكل مباشر.
التأثير الاجتماعي للتضخم أيضًا لا يمكن إغفاله، حيث أدت تلك الحالات في نهاية المطاف إلى إفلاس أصحاب تلك العملات المنهارة في كل البلدان التي عانت من حالات تضخم كبرى، وهو ما تكرر في الكثير من البلدان، مثل دول أمريكا اللاتينية في الثمانينات أثناء أزمة الديون.
يمكن القول بأن التضخم هو أمر قد يحدث حتى لدول قوية اقتصاديًا، فقد عانت منه دول كبرى كالصين وألمانيا وفرنسا سابقًا، إلا إن حالات التضخم الكبرى في بعض الدول قادت إلى تدمير اقتصادي هائل وخسارة ضخمة للكثير من الدول، والملحوظ والمتكرر في كل حالات التضخم الكبرى تلك هو السياسات المالية والنقدية الخاطئة للدول.
قام بيزنس إنسايدر بعرض أهم 9 حالات تضخم كبرى من خلال السجل الذي أعده عالِما الاقتصاد ستيف هانك ونيكولاس كروس عام 2012م.
المجر: أغسطس 1945 – يوليو 1946
معدل التضخم اليومي207 %
معدل تضاعف الأسعار: كل 15 ساعة.
القصة: عانت المجر من دمار اقتصادي بسبب الحرب العالمية الثانية، حيث كانت أحد أهم مناطق الصراع أثناء الحرب، ما أدى إلى ضياع حوالي 40% من رأس المال نتيجة الحرب. قبل ذلك، كانت الدولة قد زادت من إنتاجها بشكل هائل بهدف دعم المجهود الحربي الألماني، أمل في أن تسدد ألمانيا قيمة تلك المنتجات، وهو ما لم تفعله.
مع توقيع المجر لمعاهدة السلام مع الحلفاء عام 1945، كانت الدولة مطالبة بسداد الكثير من الديون للاتحاد السوفيتي، والتي استهلكت 25-50% من ميزانية الدولة خلال فترة التضخم الكبرى التي مرت بها. وفي الوقت نفسه، تم تحييد السياسة النقدية للبلاد ليشرف على وضعها لجنة الرقابة على الدول الحلفاء.
كانت البنوك المركزية في البلاد في تلك الفترة قد حذرت من طباعة المزيد من العملة المحلية لدفع الديون لما له من عواقب وخيمة، إلا أن الاتحاد السوفيتي، والذي كان مسيطرًا في تلك الفترة على لجنة الرقابة، لم ينظر لتلك التحذيرات، ما أدى إلى استنتاجات لاحقة بأن الهدف كان إحداث تدمير سياسي بالأساس، وانهيار الطبقة الوسطى من سكان البلاد.
زيمبابوي: مارس 2007- نوفمبر 2008
معدل التضخم اليومي : 98%
معدل تضاعف الأسعار: كل 25 ساعة.
القصة: كانت حالة التضخم الكبرى في زيمبابوي نتيجة واضحة لفترة طويلة من التراجع الاقتصادي للبلاد؛ بعد برنامج الإصلاح الزراعي الموسع الذي قام به الرئيس روبرت موجابي حتى 2002، والتي تم خلالها مصادرة الأرض من الملاك ذوي البشرة البيضاء، وإعادة توزيعها على السود الذين مثلوا أغلبية السكان، وهو ما قاد الدولة في النهاية إلى انخفاض الناتج القومي بنسبة 50% على مدار تسع سنوات.
لم تكن تلك هي مشكلة زيمبابوي الوحيدة: فقد أدت الإصلاحات الإشتراكية في البلاد، وتورط البلاد في التدخل في الحرب الأهلية بالكونغو إلى عجز شامل في ميزانية الحكومة. بدأت الدولة تخسر مواردها البشرية أيضًا، حيث هاجر الكثير من السكان؛ هربًا من الأحوال السيئة، وهو ما نتج عنه زيادة الإنفاق من قِبل الحكومة وانخفاض القاعدة الضريبية، ليترك الحكومة في النهاية بلا أي حلول.
يوغوسلافيا: إبريل 1992- يناير 1994
معدل التضخم اليومي: 65%
معدل تضاعف الأسعار: كل 34 ساعة.
القصة: أدى سقوط الاتحاد السوفيتي إلى تقليص الدور الدولي الذي لعبته يوغوسلافيا قبل ذلك كوسيط سياسي وجغرافي يربط بين الشرق والغرب، حيث طال ذلك السقوط الحزب الشيوعي الحاكم أيضًا، وهو ما قسم يوغوسلافيا إلى دويلات أصغر، قامت على أساس عرقي، كما شملت نزاعات وحروب بين أطراف مختلفة في السنوات التالية.
في خضم تلك العملية، انهارت العمليات التجارية بين دويلات يوغوسلافيا، وبالتبعية أدى ذلك إلى تراجع صناعي مماثل. تزامنت كل تلك المشكلات مع فرض حظر عالمي على الصادرات اليوغوسلافية، ليصل حال الاقتصاد إلى ما يشبه الموت. يرى الكثير من المحللين الاقتصاديين أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى انهيار يوغوسلافيا بالكامل، ووقوعها فريسة لهذا التضخم القاتل، بعكس بعض الدول التي انقسمت عنها في البداية، مثل صربيا وكرواتيا، وهو احتفاظ يوغوسلافيا بالنظام البيروقراطي الكامل، والذي كان أحد أهم أسباب زيادة العجز والخسائر المتتالية.
جمهورية فايمار الألمانية: أغسطس 1922- ديسمبر 1923
معدل التضخم اليومي : 21%
معدل تضاعف الأسعار: كل 3 أيام و17 ساعة.
القصة: لم تكن الهزيمة في الحرب العالمية الأولى الكارثة الوحيدة لجمهورية فايمار الألمانية في عشرينيات القرن الماضي، فقد مرت بحالة تضخم كبرى، حيث كانت ألمانيا مطالبة بعد الحرب بسداد الكثير من التعويضات للجانب المنتصر، بالإضافة إلى أنه لم يسمح له بدفع تلك التعويضات بعملتها المحلية في ذلك الوقت، والتي كانت قيمتها قد انخفضت بصورة كبيرة أثناء الحرب بالفعل، مع كون ألمانيا كانت قد موّلت أغلب مجهودها الحربي، من خلال قروض من دول أخرى.
ولكي تتمكن من سداد التعويضات بعملة أخرى، كانت جمهورية فايمار مجبرة على بيع كمية كبيرة من عملتها المحلية لشراء العملات التي يسمح بالتعامل بها في دفع التعويضات. ومع كثرة القيام بتلك العملية، والاضطرار لشراء العملات الأجنبية بأي سعر، انخفض سعر العملة المحلية في نهاية المطاف ليقود إلى ذلك التضخم الهائل.
اليونان: مايو 1941- ديسمبر 1945
معدل التضخم اليومي: 18%
معدل تضاعف الأسعار: كل 4 أيام و6 ساعات.
القصة: اختل الميزان المالي اليوناني تمامًا بعد أن وصلت قيمة العجز عام 1940 إلى 790 مليون دراخما (العملة اليونانية قبل اليورو) بعد أن كانت الدولة قد حققت فائضًا في الميزانية قيمته 271 مليون دراخما في العام السابق، التراجع الكبير كان سببه بالأساس قيام الحرب العالمية الثانية، والتي أدت إلى انهيار التجارة الخارجية للبلاد. قاد التدهور الاقتصادي في نهاية المطاف إلى غزو اليونان من قبل دول المحور بنهاية عام 1940.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ساهمت الحكومة العميلة لدور المحور بعد ذلك في إحداث المزيد من الضربات للاقتصاد المترنح، حيث قامت الحكومة بدعم 400 ألف جندي متمركز في البلاد. تراجع الدخل القومي أيضًا في البلاد من 67.4 مليار دراخما في عام 138 إلى 20 مليار فقط في 1942. مع تراجع العائدات من الضرائب، قامت الدولة أيضًا بالتدخل في سياسة البنك المركزي لدفع النفقات ومحاولة سد العجز.
الصين: أكتوبر 1947 – مايو 1949
معدل التضخم اليومي : 14%
معدل تضاعف الأسعار: كل 5 أيام و8ساعات
القصة: بعد الحرب العالمية الثانية، انقسمت الصين بسبب الحرب الأهلية. تصارع القوميون والشيوعيون بهدف السيطرة على البلاد، وقدموا عملات متنافسة، مما جعل النظام النقدي الصيني مقسمًا بين عشر وسائل رئيسة للصرف عام 1948.
كانت العملة هي المحور الرئيس خلال هذا الصراع. يشير بعض خبراء الاقتصاد عام 1954 إلى أن الحكومات الثلاث أطراف (بما فيهم الاحتلال الياباني) شاركوا في حرب نقدية، وذلك من خلال محاولتهم لإضعاف العملات المنافسة بطرق مختلفة.
لجأ القوميون إلى إحداث عجز ضخم في الميزانية؛ لتمويل النزاع، وكمحاولة لتغطية العجز تمت طباعة النقود، مما أدى إلى تضخم اقتصادي قاتل (كان ذلك بعد تخلي الصين عن معيار الفضة عام 1935). حصلت الصين على مشاركة البنك المركزي التايواني بنظام تسييل، الأمر الذي أدى إلى تضخم هائل في تايوان كذلك.
بيرو: يوليو 1990 – أغسطس 1990
معدل التضخم اليومي: 5%
معدل تضاعف الأسعار: كل 13 يوم وساعتين
القصة: شهدت بيرو معركة طويلة مع التضخم في النصف الأخير من القرن العشرين. فخلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، عندما كان فرناندو بيلاوندى تيري رئيسًا لبيرو، عاشت بيرو في ظل سياسات التقشف التي فرضها المقرضون من صندوق النقد الدولي في أعقاب الأزمة المالية التي شهدتها أمريكا اللاتينية، والتي بدأت في بداية العقد نفسه.
يقول الخبير الاقتصادي ثاير واتكينز: إن حكومة بيلاوندى تيري بدت أنها تلتزم بالإصلاحات التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، إلا إنها في الواقع لم تلتزم بها. كان الاقتصاد يعاني من ركود تضخمي في ذلك الوقت، وكان الناخبون يلقون باللوم على السياسات التقشفية لصندوق النقد الدولي، بالرغم من أنها لم تكن تُتَّبع. أدى هذا إلى انتخاب آلان جارسيا رئيسًا عام 1985م.
قام جارسيا بسن إصلاحات اقتصادية شعبوية، والتي أدت إلى إضعاف الاقتصاد واستبعاد بيرو من أسواق الائتمان الدولية. أمام نقص فرص الحصول على ائتمان وتدهور الأوضاع الاقتصادية، أدى التضخم المرتفع المستمر إلى تضخم اقتصادي هائل في بيرو
فرنسا: مايو 1795- نوفمبر1796
معدل التضخم اليومي: 5%
معدل تضاعف الأسعار: كل 15 يوم وساعتين
القصة: جاءت الثورة الفرنسية (1789-1799) بعد فترة عانت فيها فرنسا ديونًا ضخمة؛ بسبب خوض الحروب، بما فيهم حرب استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا العظمى.
إحدى السياسات الاقتصادية الرئيسة للثورة الفرنسية كانت تأميم الأراضي التي كانت مملوكة للكنيسة الكاثوليكية. كان يُنظر إلى الكنيسة بأنها هدف سهل لمصادرة الأصول؛ لأنها كانت تمتلك الكثير من الأراضي إلا إن نفوذها السياسي كان ضئيلا نسبيًا في النظام الجديد.
قامت الحكومة وقتها بإصدار عملات جديدة عبارة عن أوراق مالية كان من المفترض أن تكون قابلة للاستبدال مقابل الأرض في وقت لاحق من قِبل حامليها. ومع ذلك، انتهى الحال بالحكومة بإصدار الكثير من العملات في محاولة لسد العجز، مما أدى لخفض قيمتها وحدوث تضخم هائل.
نيكاراجوا: يونيو 1986- مارس 1991
معدل التضخم اليومي: 4%
معدل تضاعف الأسعار: كل 16 يوم و10 ساعات.
القصة: عام 1979، أوصلت الثورة التي قامت في نيكاراجوا بثوار السانديستا الشيوعيين إلى الحكم، في الوقت الذي كانت فيه الثورة على خلفية الركود الاقتصادي العالمي والأزمة المالية في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية التي رفعت مستويات الديون إلى أرقام قياسية وعجزت أغلب الدول عن سداد تلك الديون.
كان تأثير الثورة مدمرًا على اقتصاد البلاد؛ حيث تقلص الناتج المحلي الاجمالي بنسبة وصلت إلى 34% بين عامي 1978 و1979، ومع وصول ثوار السانديستا للحكم، قاموا بتأميم أجزاء كبرى من الاقتصاد المحلي، وهو ما كان سببًا في زيادة الاضطراب وعرقلة أي تطور ممكن. في المقابل، اتخذت الحكومة مجموعة من السياسات التوسعية التي تقوم على الاقتراض من الخارج في محاولة لتحفيز الطلب المحلي، وهو ما أدى إلى صراع بين الحكومة وبين المعارضة لتضاف إلى المعاناة الاقتصادية معاناة أخرى سياسية.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».