مشهد نهاية الطغاة والمستبدين ربما ينتظره كثيرون خلال عصورهم المملوءة بالدماء والمعاناة، بينما يستبعده بعض أولئك الذين تمكن الخوف من أرواحهم، كما كتب فرانك ديكوتر، وهو أستاذ كرسي العلوم الإنسانية بجامعة هونج كونج والباحث بمعهد هوفر، في مقاله بمجلة «هستوري إكسترا»، التاريخية التي تصدرها هيئة الإذاعة البريطانية، واستعرض فيه نهايات الطغاة، التي غالبًا ما تكون نهاية مخزية، وحتى لو نجوا من الخزي والمهانة وهم على قيد الحياة، فإنهم يواجهون هذا المصير بعد مماتهم.

«بنظرة تأمل في فصول التاريخ نجد أن الحكم الديكتاتوري – في أحسن الأحوال – عادة ما ينتهي بطريقة مخزية. وعلى عكس أنجح القادة المنتخبين ديمقراطيًا، نادرًا ما يحزن على رحيل المستبدين سوى قلة من المتطرفين»؛ هكذا ينظر المؤرخ فرانك ديكوتر إلى وفاة القادة الذي كانوا يقبعون على قمة السلطة في تلك الأنظمة التي شكلت تاريخ القرن العشرين.

ستالين وماو.. نهايات سيئة لمسيرة غير طبيعية

بحسب ديكوتر نادرًا ما يقضي الرجال الأقوياء الذين يستولون على السلطة أيامهم مستلقين بسلام في فراشهم، ومحاطين بالعائلة والأصدقاء. حتى أمثال ستالين وماو اللذين ماتا لأسباب طبيعية، فإنهم يكونون شخصيات وحيدة، تعاني من جنون العظمة، وخاصة قرب نهاية حياتهم.

Embed from Getty Images

كما يُظهِر التاريخ أن الحكام الديكتاتوريين الذين يستولون على السلطة من خلال العنف يتعين عليهم دائمًا أن يحافظوا على السلطة من خلال ارتكابِ مزيدٍ من العنف، الأمر الذي يصنع أعداءً أكثر لهم يتوجب عليهم أن يعملوا على القضاء عليهم، وهكذا دواليك.

إذا تمكن الديكتاتور من تولي السلطة، فإنه يعطي نموذجًا للآخرين ليحذو حذوه؛ مما يزيد من احتمال تلقيه طعنة في الظهر.

وإذا تمكن الديكتاتور من تولي السلطة، فإنه يعطي نموذجًا للآخرين ليحذو حذوه؛ مما يزيد من احتمال تلقيه طعنة في الظهر. وهناك دائمًا منافسون، وغالبًا يتعاملون بالقسوة وانعدام الرحمة ذاتها في انتظار أية فرصة تسنح لهم بالتقدم والإمساك بزمام الأمور.

وبما أن المنافس يمكن أن يظهر من بين حاشية الديكتاتور، فيسكون على الديكتاتور أن يطهر صفوف حاشيته باستمرار. ومن المفيد للديكتاتور أن يتمكن – ومعظم الديكتاتوريين من الرجال – من القضاء على أصدقائه حتى قبل أن يتصدى لخصومه.

ثقافة الخوف

ويقول الكاتب إنه في كثير من الحالات يسيطر جنون العظمة على الطغاة؛ إذ يرون أن لهم أعداءً حقيقيين ووهميين أيضًا في كل مكان.

بوصفه أمينًا عامًا للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، حرص جوزيف ستالين على أن توقع الشرطة السربة بأكثر من 1.5 مليون شخص، وأن تستجوبهم وتعذبهم، وفي العديد من الحالات جرى إعدامهم بدون محاكمة في الفترة بين عامي 1934 و1939.

وظل ستالين الذي حكم لأكثر من عقدين من الزمان يرى أنه هناك مؤامرات تحاك حوله في كل مكان، فيما كان الملايين يطلق عليهم الرصاص، أو يُزّجّ بهم في معسكرات العمل خلال العقود التالية.

الخوف يودي بحياة الطاغية

غير أن ثقافة الخوف المحيطة بستالين كان لها أيضًا تأثير كبير على طريقة وفاته هو شخصيًا، بحسب ما يرى ديكوتر. ففي الأول من مارس (آذار) 1953، وجد الديكتاتور السوفيتي ملقيًا على الأرض، غارقًا في بوله، بعدما انفجر وعاء دموي في دماغه، لكن لم يجرؤ أحد على إزعاجه في غرفة نومه.

ونتيجة لذلك تأخرت المساعدة الطبية؛ لأن حاشية القائد كانت في حالة من الخوف الشديد من اتخاذ القرار الخاطئ. وعلى أثر ذلك توفي ستالين في الخامس من مارس.

الثورة الثقافية وتحريض الناس ضد بعضها

وبشكل مماثل سيطر جنون عظمة على ماو تسي تونج، زعيم الحزب الشيوعي الصيني. وخلال العقد الأخير من حياته استولت عليه الشكوك لدرجة أنه أطلق ما سمي بالثورة الثقافية، ليحرض الناس ضد بعضهم البعض، وإرغامهم على إثبات ولائهم المطلق له وحده من خلال شجب أفراد الأسرة، والأصدقاء، والزملاء.

هذه الحملة دمرت حياة عشرات الملايين من الناس. وعندما شخصت إصابة رفيقه المقرب تشو إن لاي بالسرطان رفض ماو الموافقة على علاجه إلى أن أصبح الوقت متأخرًا للغاية، وتوفي تشو في يناير (كانون الثاني) 1976. بعد ثمانية أشهر توفي ماو في التاسع من سبتمبر (أيلول) 1976.

موت مهين لموسوليني.. وهتلر ينجو من النهاية العنيفة

توفي ستالين وماو لأسباب طبيعية، لكن لم يكتب لكل الطغاة أن يموتوا بنفس الطريقة. يسرد المقال أنه بعد غزو الحلفاء لصقلية في عام 1943 انقلب المجلس الكبير للفاشية ضد ديكتاتور إيطاليا، بينيتو موسوليني. وفي يوليو (تموز) أمر الملك فيكتور عمانويل الثالث الجيش بوضع موسوليني قيد الاعتقال.

Embed from Getty Images

لم يتمرد عضو واحد في الحزب، على الرغم من أداء اليمين بحماية زعيمهم حتى الموت. وعلى إثر ذلك، سُجن موسوليني في جزيرة بونزا، قبالة الساحل الإيطالي.

نهاية الدوتشي مجللة بالخزي

يحكي المقال أن موسوليني لم يكن له سوى صديق واحد. وكان السقوط المهين لحليف وثيق بمثابة إشارة واضحة إلى إمكانية الإطاحة بالرجال الأقوياء من السلطة، لذلك نظم أدولف هتلر عملية إنقاذ جريئة لصديقه، وأرسل مجموعة من الكوماندوز لتحرير الدوتشي. وبالفعل كللت العملية بالنجاح؛ مما سمح لموسوليني بتشكيل إدارة فاشية جديدة في شمال إيطاليا.

لم تأت نهاية الدوتشي إلا بعد عامين من ذلك التاريخ، عندما قبض عليه مع عدد من أتباعه بأيدي بعض المناهضين للفاشية بالقرب من بحيرة كومو. وفي 28 أبريل (نيسان) 1945، أطلق عليه النار دون محاكمة، وألقى جثمانه في سيارة فان ونقل إلى ميلانو، حيث عُلِّق في العارضة رأسًا على عقب (مربوطًا من قدميه ليتدلى رأسه إلى الأسفل) في ذلك المشهد الشهير والمثير.

وفي ألمانيا قُدِّر لحليف موسوليني أن يواجه نهاية عنيفة، ولكن ليس على أيدي أعدائه هذه المرة. فخلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية انسحب هتلر إلى مخبأه في برلين، الذي بني تحت مقر المستشارية الجديدة. وكتب ألبرت سبير، المهندس المفضل للفوهرر: «كانت هذه هي المحطة الأخيرة في هروبه من الواقع».

ولأنه كان مصممًا على جلب الموت والدمار إلى ألمانيا التي اعتقد أنها لا تستحقه، أمر هتلر بمواصلة القتال. وفي 20 أبريل 1945، عيد ميلاد هتلر السادس والخمسين، انطلقت أول قذيفة معادية لتضرب برلين. وبعد أيام لم يتبق سوى أنقاض ينبعث منها الدخان حول المخبأ.

هتلر يهرب من مصير موسوليني

وبعد ما سمع عن المعاملة المشينة لجثمان موسوليني أمر هتلر بحرق رفاته لمنع أي محاولة لتدنيسه. وفي 30 أبريل 1945 انتحر هتلر بإطلاق النار على نفسه. وأخرجت جثة هتلر وجثة إيفا براون – عشيقته منذ أمد بعيد وكان تزوجها في اليوم السابق فقط، والتي انتحرت هي الأخرى عن طريق تناول سم السيانيد – من المخبأ وصُبَّ عليهما البنزين وأضرمت فيهما النيران.

انهيار جدار الخوف يكتب نهاية تشاوشيسكو

في عام 1961، بُني حاجز خرساني، لا يبعد سوى مئة متر فقط عن موقع  مخبأ هتلر. كان جدار برلين هو الحل الذي قدمته ألمانيا الشرقية لمنع النزوح الجماعي لمواطنيها إلى الغرب عبر الحدود المفتوحة لبرلين الغربية في ذروة الحرب الباردة. وبعد سقوط الجدار في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 سقطت تماثيل لا تحصى للحكام المستبدين.

في جميع أنحاء أوروبا الشرقية فكك الناس تماثيل الثوري الروسي فلاديمير لينين؛ إذ هجموا عليها بالمطارق وهدموها، أو قطعوا رؤوسها. كذلك لم يعد أتباع لينين أصحاب حظوة.

لم يكن هناك سحر، بل كان هناك الخوف، وعندما تبخر الخوف انهار الصرح بأكمله.

حدثت تغييرات هائلة مثلت مفاجأة لكثير من المراقبين الذين ظنوا يومًا أن الطغاة لا يمكن أن لحكمهم أن يتزعزع أو أن يموتوا، حسبما يذهب تفكير البعض تحت حكم الطغاة الذين استولوا على أرواح رعاياهم وغيروا طريقة تفكيرهم. كما لو كانوا قد سحروهم، لكن لم يكن هناك سحر، بل كان هناك الخوف، وعندما تبخر الخوف انهار الصرح بأكمله.

في حالة نيكولاي تشاوشيسكو الديكتاتور الشيوعي في رومانيا بين عامي 1965 و1989، يمكن تحديد اللحظة التي تعثر فيها بالدقيقة تقريبًا. ففي 21 ديسمبر (كانون الأول) 1989، ظهر الطاغية على شرفة مقر الحزب في وسط بوخارست للتحدث إلى مظاهرة حاشدة نظمت لدعم النظام.

قبل أربعة أيام فقط، في 17 ديسمبر، كان تشاوشيسكو قد أصدر أمرًا لقوات الأمن التابعة له بإطلاق النار على متظاهرين مناهضين للحكومة في مدينة تيميشوارا. وفي حين كانت الشرطة السرية للديكتاتور تسيطر سيطرة صارمة على حرية التعبير والإعلام على مدى عقود، كان السخط على نظامه يتصاعد.

بعد دقائق من بدء تشاوشيسكو في الحديث، بدأ الناس في الجزء الخلفي من الحشد في الصفير والهتاف الساخر. رفع القائد يده مطالبًا بالصمت وهو يضرب مرارًا وتكرارًا على الميكروفون، لكن الاضطرابات استمرت.

Embed from Getty Images

بدا تشاوشيسكو مذهولًا. انحنت زوجته إيلينا إلى الأمام تعنف الحشد: «الزموا الهدوء! ما الذي دهاكم؟». قرر تشاوشيسكو أن يمضي في خطابه. ويصوتٍ أجش ونبرةٍ هزيلة حاول تهدئة المتظاهرين بعرض زيادة الحد الأدنى للأجور، لكنه كان مهزوزا اهتزازًا واضحًا. ومع ذهاب الخوف تحولت المظاهرة إلى أعمال شغب؛ مما أجبر الزعيم وزوجته على الفرار بطائرة هليكوبتر. ثم قبض عليهما بعد بضعة أيام، وخضعا لمحاكمةٍ سريعة.

نهاية ثورية يشوبها الغضب

بعد صدور حكم الإعدام اقتيد الزوجان إلى فناء بالغ البرودة بجوار مبنى مراحيض. راح تشاوشيسكو يغني أغنية «إنترناشيونال (Internationale)» (وهي أغنية يسارية اعتمدها البلاشفة بعد الثورة الروسية عام 1917 نشيد الدولة الجديد). وكانت إيلينا أقل تحفظًا؛ إذ يقال إنها صرخت «تبًا لكم» عند إطلاق النار عليهما.

فرانكو وستالين.. حساب بعد الممات

في بعض الأحيان يتمكن الطغاة من تأجيل يوم الحساب إلى ما بعد الموت. ديكتاتور إسبانيا، الجنرال فرانكو، على سبيل المثال: دفن ابتداءً في فالي دي لوس كايدوس​​، وهو نصب تذكاري ضخم بُني بطلب من فرانكو لتكريم قتلى الحرب الأهلية الإسبانية.

في سبتمبر 2019، استخرجت جثة فرانكو ووضعت في قطعة أرض أكثر تواضعًا مملوكة لعائلته.

لم يكن فرانكو مهتما على ما يبدو باستخدام السجناء السياسيين عمال سخرة في ذلك المشروع، ولكن في سبتمبر 2019 استخرجت جثة فرانكو ووضعت في قطعة أرض أكثر تواضعًا مملوكة لعائلته.

وبالمثل جرى تحنيط ستالين ووضع بجانب لينين، ولكن بعد أن شجب نيكيتا خروتشوف سيده السابق، وعهد الإرهاب الذي كان يشرف عليه، سُحبت جثة ستالين من الضريح الموجود في الميدان الأحمر في عام 1962.

وكان انهيار الاتحاد السوفيتي إيذانًا بموجة من الثورة ضد الطغاة في جميع أنحاء العالم. وجاءت موجة أخرى مع الربيع العربي عام 2011، وسقطت فيها عدة أنظمة، أو تضعضعت بشدة.

القذافي في ماسورة مجاري

بكل المقاييس كان الزعيم الليبي معمر القذافي واحدًا من أسوأ الطغاة، وبعد أكثر من 40 عامًا في السلطة، واجه موتًا مهينًا في عام 2011.

في آخر أيامه، بات القذافي محاصرًا بعد ما زحف إلى ماسورة صرف صحي في محاولة للهرب من الثوار. توسل إليهم مطالبًا بالإبقاء على حياته. ولكنهم ضربوه وجردوه من ملابسه وعاملوه معاملة مهينة قبل أن يطلقوا النار عليه عدة مرات.

أجيال متوارثة من الطغاة

في حالات قليلة نجح الطغاة في تثبيت ذريتهم مكانهم؛ مما أدى إلى إطالة عهدهم بشكل غير مباشر. كان فرانسوا دوفالييه، المعروف باسم بابا دوك، رئيسًا لهايتي لمدة 14 عامًا، ثم أعلن نفسه أيضًا «رئيسا مدى الحياة».

لكنه توفي في أبريل 1971 ، ودُفن ابتداءً في المقابر الوطنية في هايتي، وبعد ذلك نُقل إلى ضريح فخم أقامه ابنه جان كلود دوفالييه، الذي خلفه رئيسًا للبلاد. ولكن عندما سقط «دوك الصغير» من السلطة في عام 1986، اتجه حشد غاضب لهدم ضريح والده.

ولا شك أن كوريا الشمالية هي أنجح مثال على الأسرة الحاكمة، إذ يبقي كيم جونج أون عينيه مفتوحتين على الضريح العملاق الذي يستقر فيه جده «القائد العظيم» ووالده «القائد العزيز» داخل توابيت زجاجية.

في جميع أنحاء البلاد، تذكّر المعالم المعروفة باسم «أبراج الحياة الأبدية» السكان بأن كيم إيل سونج وكيم جونج إيل «معنا إلى الأبد». صحيحٌ أن هذه مِيتة مريحة نوعًا ما، لكن تراث طغاة كوريا الشمالية سيلقى أيضًا نهاية مشينة، بحسب ما يتوقع الكاتب.

دولي

منذ 3 سنوات
«فورين أفيرز»: على طريقة هتلر وماو.. كيف ما زال الطغاة يشكلون تاريخ بلادهم؟

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد