كتبت سارة سنتيلز من مجلة «نيويوركر» مقالًا عرضت فيه بعض النظريات حول الطريقة المثلى للتعامل مع صور الألم والمعاناة، لا سيما في عصر الصورة الحالي. قالت سنتيلز:
سألت نفسي، منذ عدة أعوام، بينما كنت أحملق في صورة تعذيب على الصفحة الرئيسية لإحدى الجرائد، سؤالًا مر بخاطر الكثيرين من قبلي: ما الذي ينبغي لي فعله حين أقابل صورًا تنقل العنف؟ بحثت 13 عامًا عن إجابة لهذا السؤال، الذي أصبح أكثر إلحاحًا في السنوات الأخيرة عندما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي ربط الناس حول العالم ببعضهم البعض. فصار يحدث شيء رهيب في مكان ما من العالم، أسبوعيًا، إن لم يكن يوميًا، وسيان إن كان الحادث بعيدًا أم قريبًا، إذ تغمرنا صور الحادث المرعب. هل تضر هذه الصور موضوعاتها؟ هل من قبيل الانتهاك الأخلاقي أن نلتقط صورًا جميلة للمعاناة؟ هل لدي الحق في رؤية آلام الآخرين؟
وتضيف سنتيلز قرأت لمنظّرين زعموا أنَّ الصور العنيفة إباحية الطابع، وآخرين أشاروا إلى النرجسية الكامنة في القلق من أثر الصور على المشاهدين، وغيرهم كانوا يخشون من أنَّ النظر إلى صور المعاناة يمدد هذه المعاناة. ثم قرأت كتاب أرييلا أزولاي المعنون «العقد المدني للفوتوغرافيا» الذي نشر أول ما نشر بالعبرية عام 2007، ثم ترجمه إلى الإنجليزية ريلا مازالي وروفيك دانيلي في العام التالي.
وتستطرد: فجأة تحولت كل الأسئلة التي كانت مهمة يومًا ما إلى أسئلة هامشية، إذ لا تهتم أزولاي، المخرجة والأستاذة بجامعة براون بالاستجابات العاطفية للمشاهدين لصور المعاناة؛ لا تسعى أزولاي إلى التعاطف بل إلى الفعل فتقول إنَّ بإمكان الصور أن تغير العالم، والسبب الوحيد الذي يحول دون ذلك هو أننا لا نعرف كيف ننظر إلى هذه الصور. فالمشكلة، إذ، ليست في الصور، وإنما المشكلة فينا.
بالنسبة لأزولاي، المولودة في تل أبيب والتي تلقت تعليمها في إسرائيل وفرنسا، فإنَّ اختراع الكاميرا لم يكن مجرد قفزة تكنولوجية، ولا كانت مجرد ماكينة جديدة، بل كانت «اختراع مقابلة جديدة». إذ تسمح الكاميرات للناس العاديين بالتقاط صور لأناس آخرين عاديين، وتسمح أيضًا للناس العاديين بالتقاط صور للدكتاتوريين والفاشيين وللدول حال ارتكابها للعنف. كتبت أزولاي قائلة: «لقد أعاد التصوير الفوتوغرافي تنظيم ما كان متاحًا للأنظار»؛ أعطى التصوير الفرصة للناس لمشاركة مجالهم البصري. وليروا أكثر مما كان باستطاعتهم رؤيته منفردين، وليكونوا في الأماكن والأزمنة التي ما كانت لتتاح لهم دون التصوير الفوتوغرافي.
تسمي أزولاي الصور الفوتوغرافية «تأشيرات عبور» وتصر على أنَّ الكاميرا تمنح نوعًا من المواطنة تتجاوز الحدود. فمن خلال التقاط الصور وعرضها، تُرسم خطوط جديدة للانتماء. فنحن مواطنون للصور لا البلدان. نحن مسؤولون أمام بعضنا بعضًا، ومسؤولون عما سمحت لنا الكاميرا برؤيته. هذه المسؤولية، بالنسبة لأزولاي، ليست مسؤولية مجردة. فالمصورون الفوتوغرافيون والناس الذين يسمحون بتصويرهم يفترضون أنَّ الناس سوف يرون صورهم يومًا ما وسوف يفعلون شيئًا ما استجابة لما رأوه. أولئك الناس قد تخيلوك أنت، مشاهدهم المستقبلي، وأنت تحوم حولهم لحظة التقاط الصورة، وينبغي لك أن تكون على قدر توقعاتهم.
إنَّ بإمكان الصور أن تغير العالم، والسبب الوحيد الذي يحول دون ذلك هو أننا لا نعرف كيف ننظر إلى هذه الصور. فالمشكلة، إذ، ليست في الصور، وإنما المشكلة فينا.
بدأت أزولاي العمل على كتابها في خريف عام 2000، في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكتبت في مقدمة كتابها إنَّ «رصد المشاهد غير المحتملة المعروضة في الصور القادمة من الأراضي المحتلة» شكلت الحافز الأساسي لها لتكتب. بشكل ما، يمكن اعتبار الدافع الأساسي لكتاب «العقد الاجتماعي» هو الالتزام الذي تشعر به أزولاي باستعادة المواطنة إلى «المواطنين المحرومين» وأملها أن يؤدي التصوير الفوتوغرافي دورًا حاسمًا في هذا العمل.
وعلى الرغم من أنه ليست كل الصور المضمّنة في الكتاب تصور العنف وتبعاته، فإنَّ الكتاب يركز بشكل أساسي على صور الألم والمعاناة، وعلى ما ينبغي فعله عند مواجهة مثل هذه الصور. فالمشاهدون، بحسب أزولاي، يصبحون شهودًا، من خلال المراقبة الدقيقة لصور الرعب، ويكون بإمكانهم «التنبؤ أحيانًا بالمستقبل أو توقعه» ونتيجة لذلك، يكون بإمكانهم تحذير الآخرين من «الأخطار التي تنتظرنا» واتخاذ إجراء لمنعها.
من أجل أن نفعل ذلك ينبغي لنا أن نتعلم كيفية النظر إلى الصور الفوتوغرافية ــ وهي قدرة تصفها أزولاي بأنها «مهارة مدنية». وتعرض أزولاي هذه المهارة في كتاب «العقد الاجتماعي» عبر تحليل سلسلة من الصور التقطها إدوارد مويبريدج لامرأة تلطم طفلًا، وصورة تعود إلى العام 1845، لليد الموسومة بالنار لجوناثان ووكر الذي كان ينادي بإلغاء تجارة الرقيق، وصورة رجل أُطلق عليه النار في إحدى شوارع الخليل، عام 2000، وصورة لابن نابليون الثالث في أستوديو تصوير؛ وطفل صغير تلتقط له صورة لبطاقة هوية في غزة عام 1971؛ ومهاجر ميت مجهول الهوية ينزف على الأرض في تل أبيب عام 1988.
وكتبت أزولاي أيضًا حول كيفية النظر إلى الصور النادرة في فصل مزعج بعنوان «هل رأى أحد قط صورة اغتصاب؟» حيث تعاملت مع آثار الاحتجاب شبه الكامل لصور الاغتصاب خارج الأفلام الإباحية وتساءلت إذا كان من الممكن المكافحة الفعالة للعنف الجنسي «إذا لم يكن متاحًا للأنظار» إذ يبدو أنَّ رؤية العنف ضرورية لمقاومته، وتجعل الفوتوغرافيا هذه الرؤية ممكنة.
وقالت سنتيلز: لما قرأت هذا الكتاب، تذكرت كتاب «التواريخ الأخرى للفوتوغرافيا» وهو مجموعة مقالات حررها كريستوفر بيني ونيكولاس بيترسون. يعيد بيني، في مقدمة الكتاب، التفكير في الاعتقاد الراسخ بقابلية الصور الفوتوغرافية للفهرسة: وهي الفكرة القائلة بأنَّ للصور الفوتوغرافية علاقة طبيعية، بل وحتى فيزيائية مع مدلولاتها، ومن ثم فهي أصدق بشكل ما أو أدق من الأنماط الأخرى للعرض.
يقول بيني: نعم، تظهر الصور ما كان هناك، لكنَّ ما كان هناك يمكن أن يكون أكثر بكثير مما أراد المصور للمشاهد أن يراه. فبعكس الرسام الذي تستطيع فرشاته استبعاد ما يريد استبعاده، فإنَّ عدسة المصور ينبغي لها أن تظل مفتوحة، ودائمًا سوف يدخل شيء عرضي إلى المشهد. هذا الشيء العرضي هو ما يسميه بيني «هامش الزيادة، أو الشفرة التخريبية» ونتيجة لذلك، فبدلًا من أن تكون الصور ضمانات لليقين أو الإثبات، فإنها تكون متقلبة، وخصبة، ومفتوحة ومتاحة لاستخدامات ربما لم تكن في نية المصور.
ولكي تظهر أزولاي كيف أنه حتى الصور التي اتخذت بصفتها وسيلة من وسائل الهيمنة، قد تخرب أهداف المصور، نقلت أزولاي سلسلة من الصور الداجيرية (نوع من أنواع التصوير القديم) لعبيد من كولومبيا بساوث كارولينا، في مزرعة تابعة لبنجامين فرانكلين تايلون، خريج معهد ماونت زيون وبرينستون، الذي عمل في المجلس التشريعي لساوث كارولينا لفترة واحدة.
كان البيولوجي لويس أجاسيز هو من أمر بالتقاط هذه الصور إذ أراد استخدام الفوتوغرافيا لإثبات زعمه عدم انتماء كل البشر إلى النوغ ذاته، ولإثبات أنَّ السود عرق أدنى من البيض، ولتبرير استرقاق بعض البشر للبعض الآخر. اختار أجاسيز، من بين العبيد الذين عرضهم عليه تايلور خمسة رجال من أصول أفريقية، وامرأتين أفريقيتين أمريكيتين، وهما ابنتا اثنين من أولئك الرجال.
كان تجار الرقيق يفصلون الآباء عن أبنائهم، والزوجات عن أزواجهن، والأخوات عن إخوتهن، لجعل البشر يبدون قابلين للتسويق والبيع وأنهم سلع يمكن التخلص منها ــ أي ليخلقوا وهم وجود بشر دون قرابة. وكانت سجلات الملاّك تستخدم بشكل كبير النسبة للأم، لا الأب، لأنَّ الآباء البيولوجيين عادة كانوا هم الملاك أنفسهم الذين اغتصبوا النساء المسترقات. لكنَّ هذه الصور التي التقطها أجايز قد أعادت، دون قصد، تسجيل هذه العلاقة بين الابن والبنت، تلك العلاقة التي حاولت العبودية محوها، مع أنَّ هذه لم تكن نيته.
تقول أزولاي إنَّ أجاسيز اختار تصوير الآباء لا الأمهات ليصبح حدث التقاط الصور هذا «حدثًا أدائيًّا» يمارس فيه الرجال البيض تفوقهم على أجسام الرجال السود. تخيل أولئك العبيد في تلك الغرفة حال كونهم خاضعين لنظرات الكاميرا ونظرات الرجال البيض المجتمعين فيها. تخيل أولئك الآباء وهم يشاهدون بناتهم خاضعات هنَّ أيضًا لتلك النظرات، بعد أمرهن بالتجرد من ملابسهن وكشف عوراتهن، في إعادة تمثيل لمشهد المزاد.
لكن وعلى الرغم من وقوفهم بين هذا العنف، كان بإمكان أولئك العبيد أن يروا فرجة صغيرة: هذه الصور من الممكن ألا تلتقط دونيتهم، وإنما مساواتهم وإنسانيتهم. لقد خربت الفوتوغرافيا افتراض أجايز، فبدلًا من توثيق دونية العبيد، وثقت هذه الصور لا إنسانية الملاّك. لقد عرف الرجال والنساء الذين التقطت صورهم ذلك اليوم أنَّ هذه النظرات العنيفة والمنتهكة لم تكن كل النظرات الممكنة. لقد خاطب أولئك العبيد، بتعبيرات وجوههم المزدرية واللامبالية والغاضبة، شخصًا لم يكن حاضرًا بعد. لقد خاطبونا نحن.
تطلب أزولاي من قرائها أن يعرضوا أنفسهم على مشاهد الصور الفوتوغرافية، وأن يلاحظوا ديناميكيات القوة فيها، وأن يتعرفوا على المشاركين، وأن يشاهدوا النتائج لا على أنها حتمية وإنما على أنها مجرد احتمالية بين احتماليات عدة. وترى أزولاي أنَّ النظر إلى الصور بهذه الطريقة من الممكن أن يخفف من الربط بين الأحداث وحتميتها البادية وأن يكشف أنَّ التاريخ لم يكن من المحتم عليه أن يستمر بالطريقة التي استمر بها. وأنَّ الأمور كان يمكن لها أن تختلف.
بهذا تصبح مشاهدة الصورة نوعًا من إعادة التحريك: تبدأ الصور الفوتوغرافية الثابتة في التحرك، ومع أنَّ هذه الحركة لا يتأتى لها محو الظلم، فإنَّ بإمكانها أن تزعج الطغيان، ولولا هذه الحركة لبدا عصيًا على الإزعاج. تفهم زولاي أنَّ أفعال الماضي لا يمكن عكسها، ومع ذلك فهي تصر على أنَّ الفوتوغرافيا تقدم لنا نوعًا من المرونة وإمكانية التغيير. تقول أزولاي: «الصورة موجودة هناك، كائنة في العالم، ويمكن لأي شخص دائمًا (من حيث المبدأ على الأقل)، أن يسحب أحد خيوطها ويتعقبها بطريقة تعيد فتح الصورة وتعيد التفاوض حول ما تظهره، وربما تقلب، بشكل كامل ما كان يُرى فيها أول الأمر».
وتقول سنتيلز: كلما عدت إلى كتاب أزولاي، زاد اقتناعي أنها تعتقد أنَّ الماضي يمكن فعلًا تغييره. إذ يكتسب التصوير الفوتوغرافي على يديها نوعًا من القوة الشامانية، تصبح بها رؤية الصورة نوعًا من الشفاء أو التعويض لمن ماتوا بالفعل. وتقول سنتيلز: لقد أخافني كتابها إذ شعرت أنَّ اقتراحها قد غمرني إلى الحد الذي أصبحت معه كلما رأيت صورة شخص يتألم شعرت أنني مرتبطة به، وملتزمة بمحاولة إنهاء معاناته. تذكرت صديقةً شُخّص ابنها بالإصابة بمرض قاتل. كان الناس يقولون لها عند احتضار ابنها: «لا يمكنني تخيل ما تمرين به» وكانت تجيب: «بلى. يمكنك التخيل. أنت فقط لا تريد ذلك».
لسنوات عديدة قلت إنني لا أعرف ما الذي أفعله عند رؤية صورة لشخص آخر يتألم أو يموت أو ميت بالفعل. لكنني بعد قراءة كتاب أزولاي لم يعد بمقدوري الزعم بأنني لا أعرف ماذا أفعل. لقد شرحت أزولاي ذلك في كتابها بالتفصيل، ويبقى السؤال إذا ما كنت على قدر المهمة أو لا.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».