يفترض قادة المعارضة الفنزويلية في كولومبيا، والمسؤولون الأمريكيون الذين يقدمون المساعدات، أنَّ خطة المساعدات الإنسانية يمكن أن تُحرّض الضباط العسكريين على الانقلاب ضد حكومتهم.
نشرت مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية تقريرًا للكاتب ديلان بادور من مدينة كوكوتا الكولومبية الواقعة على الحدود الفنزويلية، يرصد فيه تفاقم معاناة الشعب الفنزويلي من الفقر ونقص الغذاء، مشيرًا إلى أنَّ الولايات المتحدة تستغل هذا الوضع لكي تتدخُّل في فنزويلا بشكلٍ غير مباشر من خلال تقديم المساعدات الإنسانية، لتحريض الشعب والجيش لإطاحة الرئيس نيكولاس مادورو.
يوضح التقرير أنَّ مسؤولين أمريكيين تحدّثوا إلى الصحافة عدة مرات خلال الأيام الأخيرة على الحدود الفنزويلية الكولومبية من أجل الترويج لمشروعٍ يهدف إلى تحدي قيادة الحكم في فنزويلا، وهو المشروع الذي أقلق العاملين في مجال المساعدات والإغاثة والمنظمات الدولية.
أجندةٌ أمريكية
يسلط الكاتب الضوء على الاهتمام الأمريكي بخطة المساعدات الإنسانية في فنزويلا، مشيرًا إلى أنَّ كيفين ويتاكر، السفير الأمريكي لدى كولومبيا، تحدَّث إلى الصحافيين عند جسرٍ حدودي مُحصَّن بالقرب من المكان الذي وصلت إليه أولى شحنات المساعدات الأمريكية إلى فنزويلا. ثم خاطب مارك جرين، مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بعد أيامٍ لاحقة الصحافيين من منصة على مدرج المطار، حيث فرَّغت رافعات شوكية منصات نقّالة تحمل إمدادات إنسانية من طائرات شحن عسكرية.
وبعد ذلك جاء السيناتور ماركو روبيو، أحد أبرز منتقدي الحكومة في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، لمقابلة مديري خطة المساعدات الأمريكية في فنزويلا لحمل تلك الشحنة، التي تبلغ 200 طن من المساعدات، إلى البلاد صباح يوم السبت الماضي.
وأكَّد الكاتب أنَّ الولايات المتحدة تأمل أن تساعد تلك المساعدات الإنسانية، التي تشمل موادًا غذائية، وبسكويت غنيًا بالمغذيات، ومكملات فيتامينات، ومنتجات نظافة، ومساعدات طبية، في إجبار الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو على الرحيل عن السلطة.
وفقًا للتقرير قال روبيو باللغة الإسبانية لحشدٍ من مئات الصحافيين والمُتفرجين الذين تجمعوا يوم الأحد 17 فبراير (شباط) تحت أشعة الشمس الحارقة، على بعد مئات الأقدام من الحدود الفنزويلية: «الحرية والديمقراطية تستحقان التضحية. فالطغاة لا يرحلون بسهولة».
لكنَّ هذه المساعدات الإنسانية التي تقدّمها الولايات المتحدة، وتهدف ظاهريًا إلى التخفيف من حدة أزمات فنزويلا المُتنامية من الجوع والصحة والأمن، تخدم في واقع الأمر غرضًا آخر. إذ يفترض قادة المعارضة الفنزويلية في كولومبيا، والمسؤولون الأمريكيون الذين يقدمون المساعدات التي تشتد الحاجة إليها، أنَّ خطة المساعدات الإنسانية يمكن أن تُحرّض الضباط العسكريين على الانقلاب ضد حكومتهم.
ومع ذلك تشعر مجموعات الإغاثة العاملة على الأرض بالقلق من أنَّ تبني الولايات المتحدة لعملية سياسية مُبطنة بأهداف إنسانية قد يقود الوضع المُتداعي في البلاد إلى مزيد من التدهور، ولعل الجهود الأمريكية الكارثية للتدخل في أمريكا اللاتينية على مدار عقودٍ مضت بمثابة تذكير لكيف يمكن أن تأخذ الأمور منْحىً سيئًا.
أزمةٌ إنسانية وسياسية في فنزويلا
يرصد الكاتب في تقريره الوضع السياسي والإنساني المُتداعي في فنزويلا، موضحًا أنَّ الأحوال المعيشية لمعظم الفنزويليين قد تدهورت بشكلٍ كبير خلال العام الماضي بعد سنواتٍ من التدني والفساد. ويشهد آلاف الأشخاص، الذين يفرون من البلاد يوميًا ويهرب عددٌ كبير منهم سيرًا على الأقدام، على حالة الجوع والمرض البائسة في فنزويلا، حيث تتفاقم أزمة ندرة الغذاء.
ومع ذلك، بدأ مادورو رسميًا في الشهر الماضي يناير (كانون الثاني) فترة رئاسية جديدة بعد فوزه في انتخاباتٍ وصفها مراقبون دوليون بأنَّها صورية. وتفاقمت التوترات على نحوٍ ملحوظ؛ إذ رحَّب مشرّعون فنزويليون بإعلان زعيم المعارضة خوان جوايدو بتنصيب نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، واندلعت احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء فنزويلا، لكنَّ جهود جوايدو في الأسابيع التالية الرامية إلى الفوز بدعم القادة العسكريين الفنزويليين الأقوياء لم تسفر عن أي تقدم يذكر، ويقف الجانبان حاليًا في طريق مسدود.
نيكولاس مادورو
وحسبما أفاد التقرير فإنَّ منظمات الإغاثة الدولية، من بينها الأمم المتحدة، كانت طوال هذه الفترة تُقدّم المساعدات بهدوء في جميع أنحاء فنزويلا بموافقة ضمنية من نظام مادورو، الذي لطالما فرض قيودًا على المساعدات الإنسانية، ونفى كَذِبًا وجود أي مواطن فنزويلي يعاني من الجوع. وأقيم حفل ضخم في مدينة كوكوتا يوم الجمعة بهدف جمع أموال إضافية من أجل الغذاء والدواء. ويرى الكاتب أنَّه يمكن ببساطة تحويل المزيد من الأموال الحكومية الأمريكية إلى تلك البرامج، إذا كان الهدف الوحيد حقًا يتمثَّل في معالجة الأزمة الإنسانية.
لكن يقول زعماء المعارضة الفنزويلية إنَّهم يخططون بدلًا عن ذلك استخدام المساعدات الأمريكية لطي هذه الصفحة في تاريخ فنزويلا. وقال جوايدو إنَّه طلب من واشنطن إحضار المساعدات، وأنَّ ممثليه سيأخذونها عبر الحدود يوم السبت. في المقابل أمر مادورو الجيش بعدم السماح بدخول أي مساعداتٍ قادمة من الولايات المتحدة، العدو اللدود للثورة الاشتراكية التي ورثها من هوجو شافيز. لكنَّ المسؤولين الأمريكيين طالبوا القوات الفنزويلية بعدم تنفيذ تلك الأوامر.
وذكر الكاتب أنَّ أولئك الداعمين لخطة المساعدات الأمريكية يقولون: «إنَّ ما سَيُحفّز الجنود على تغيير اتجاه ولائهم وإحداث انتقالٍ سلمي للسلطة هو الأثر الذي تتركه أزمة فنزويلا على عائلاتهم». وقالت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في بيانٍ أرسلته عبر البريد الإلكتروني: إنَّ إدارة مادورو دمَّرت فنزويلا، وإنَّ الوكالة «ستواصل اتخاذ إجراءاتٍ ملموسة ضد أولئك الذين يعارضون استعادة الديمقراطية سلميًا في فنزويلا».
خوان جوايدو
وقال ليستر توليدو، أحد أبرز ممثلي جوايدو في كوكوتا، خلال مؤتمرٍ صحافي متلفز بُثَّ على نطاقٍ واسع مع مسؤولين أمريكيين وكولومبيين: إنَّ «تلك الطائرات لا تجلب الطعام والدواء فحسب، بل تجلب أيضًا الأمل».
من ناحية أخرى، تجنّبت جميع المنظمات الإنسانية الرئيسية الأخرى الانخراط في أمور السياسة والتزمت الحياد، إذ كان العديد من عُمّال الإغاثة حذرين من التحدّث علنًا خوفًا من تبعات ذلك على أنفسهم ومنظماتهم.
ونقل الكاتب عن أحد مديري فرق المساعدات الإنسانية قوله: «إنَّ استخدام ما يبدو ظاهريًا أنَّه مهمة مساعدة لتحدي سلطة الرئيس هو أمر يتعارض مع مبادئ الإنسانية»، بينما قال مدير آخر: «إنَّ جهد المساعدة الأمريكي لم يكن أكثر من مجرد محاولة لإطاحة الحكومة». ومن جانبه، لم يرغب كريستيان فينس، مدير المجلس النرويجي للاجئين في كولومبيا، في الحديث عن الوضع بالتفصيل، لكنَّه تحدَّث عن «مخاطر ربط الأهداف السياسية بالمعونات الإنسانية»، وحذَّر من أنَّ «الأزمات تتطور أحيانًا إلى أزمات أكبر».
سجلٌ أمريكي أسود
وفي إشارةٍ إلى مدى قدرة الاستراتيجيات الأمريكية على تحسين الأوضاع، يقول التقرير: «إنَّ كثيرين في أمريكا اللاتينية مُتشكّكون أيضًا حيال النتيجة النهائية لأي تدخل أمريكي في الشؤون الإقليمية؛ إذ تملك واشنطن تاريخًا حافلًا ومزعجًا من النتائج القاتلة الكارثية الناجمة عن تدخلاتها».
والأمثلة عديدة على ذلك: إذ سعت الولايات المتحدة لإطاحة الرئيس الاشتراكي التشيلي سلفادور أليندي في سبعينات القرن الماضي، وهي خطوة قادت في نهاية المطاف إلى حكم أوجوستو بينوشيه الوحشي الذي استمر 27 عامًا. كذلك استخدمت الولايات المتحدة برنامج المساعدات الإنسانية في نيكاراجوا في الثمانينات لإخفاء عمليات إرسال أسلحة بقيمة 27 مليون دولار للجماعات اليمينية التي تقاتل الحكومة اليسارية؛ الأمر الذي أدَّى إلى تأجيج حرب أهلية (وهي فضيحة تورَّط فيها إليوت أبرامز، الذي يشغل حاليًا منصب المبعوث الخاص للرئيس الامريكي دونالد ترامب إلى فنزويلا). وفي عام 1989، أسفر غزو القوات الأمريكية لبنما من أجل الإطاحة بالقائد الفعلي للبلاد مانويل نورييجا عن مقتل مئات المدنيين.
ولم تتدخل الولايات المتحدة – منذ تدخلها في بنما – بشكلٍ مباشر على الأرض ضد حكومة قائمة في أمريكا اللاتينية. ويعتقد الكاتب أنَّ ظهور أقوى دولة في العالم على حدود فنزويلا مع شاحنات مُحمَّلة بالأغذية والأدوية أفضل كثيرًا في بعض النواحي مما فعلته في الماضي. وفي هذا الصدد، نقل الكاتب عن آلان ماكفرسون، أستاذ التاريخ في جامعة تمبل في مدينة فيلادلفيا الأمريكية، قوله إنَّ «هذه الخطوة تبين لنا حقًا تطور التدخل الأمريكي في أمريكا اللاتينية».
وفي السياق ذاته، فإنّ آنا تيريزا كاستيلو، مديرة منظمة «Asociación Deredez» التي ساعدت على مدار سنواتٍ عديدة الأشخاص الذين يعانون الجوع على الحدود الفنزويلية الكولومبية، هترى هذا الجهد الأمريكي بمثابة مخاطرة كبيرة. وقالت للكاتب ديلان بادور إنَّها تشعر بالحزن لرؤية الكثير من المواد الغذائية محجوزة في مستودع، بينما لن يذهب سوى القليل منها إلى المحتاجين.
وذكر بادور أنَّ تيريزا كاستيلو عاشت حياةً مليئة بالعنف؛ إذ استولت عصابات كولومبية على منزلها، وقتلت زوجها قبل 20 عامًا. لذا فرَّت إلى فنزويلا، حيث طردها الجنود بعنف إلى جانب آلاف من الكولومبيين الآخرين من المنطقة الحدودية في عام 2015. ومن ثمَّ فهي تشعر بالقلق أنَّ تكون تحركات واشنطن بداية نحو مزيدٍ من الصراعات.
وأعربت تيريزا كاستيلو، في مقابلةٍ مع بادور في منزلها، عن أملها في ألا تصبح فنزويلا سوريا الثانية، خاصًة مع وجود ذلك الرجل الحاكم في فنزويلا، قائلة: إنَّ «المدنيين والفقراء والمواطنين الفنزوليين هم من سيعانون إذا حدث ذلك».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».