مر أكثر من ثلاثة أسابيع على انقطاع الإنترنت في السودان في نهج مألوف تواجه به النظم الاستبدادية الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالديمقراطية، وترى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن استمرار تلك الأزمة يهدد بنتائج عسكية على الصعيدين السياسي والاقتصادي ربما لا يشتهيها المجلس العسكري الانتقالي.
ونقلت الصحيفة في تقرير لها عن نشطاء قولهم: «إن قطع الإنترنت منح المجلس العسكري الحاكم غطاءً لانتزاع بعض المكاسب بعنف من المتظاهرين الذين ساعدوه في الإطاحة بالزعيم الأوتوقراطي الذي حكم البلاد لفترة طويلة».
وأشار التقرير إلى أن قطع الإنترنت عمدًا هو أحدث وسيلة في التوجُّه العالمي للحكومات الاستبدادية التي تمنع الوصول إلى الإنترنت بغية تهدئة الاحتجاجات، وهي خطوة ربما تحمل عواقب سياسية واقتصادية وخيمة. علاوة على أنها تأتي عقب فصل مبتذل من ثورات الربيع العربي منذ ما يقرب من عقد من الزمن، حيث استُخدم قطع الإنترنت لإنزال عقوبات قاسية على المتظاهرين، لكن ذلك لم يُفلح لوقف صيحات الإصلاح.
ويقول خبراءٌ ـ بحسب التقرير ـ إن قطع الإنترنت أثناء الاضطرابات ربما يؤدي إلى نتائج عكسية؛ ما يُثير السُخط على نطاقٍ أوسع.
كانت السلطات السودانية قطعت الإنترنت في البلاد منذ 3 يونيو (حزيران) الجاري وسط حملة قمع عسكرية عنيفة يقول منظمو الاحتجاج عنها: إنها «أدت إلى مقتل أكثر من 100 شخص». ووصفت منظمة «نتبلوكس» ـ وهي منظمة ترصد حرية الإنترنت حول العالم ـ قطع الإنترنت بأنه «تقييد شبه كلي لتدفق المعلومات داخل السودان وخارجه بالنسبة لجزء كبير من السكان».
خرج المتظاهرون إلى شوارع السودان بأعدادٍ غفيرة خلال الأسابيع الماضية للمطالبة بإنهاء الحكم العسكري. وفي أول الأمر أشعلت أسعار السلع الغذائية ونقص الوقود الاحتجاجات في ديسمبر (كانون الأول) الماضي؛ ما أسهم جزئيًا في تدبير انقلاب عسكري في أبريل (نيسان) الماضي؛ أطاح بالرئيس عمر حسن البشير من منصبه ـ بحسب التقرير ـ الذي أشار إلى أنه منذ الإطاحة بالبشير يحكم مجلس عسكري البلاد رافضًا تمهيد الطريق لتشكيل حكومة مدنية.
ولفت تقرير الصحيفة الأمريكية إلى أن قطع الإنترنت خلال هذا الشهر: يونيو، لا يُعتبَّر المرة الأولى التي تقطع فيها الحكومة السودانية الإنترنت؛ إذ قيَّدَت الحكومة خدمات الإنترنت عدة مرات خلال الأشهر الأربعة التي سبقت الإطاحة بالبشير.
لكن الصحيفة وصفت التعتيم الحالي بأنه «تصعيد للقمع الرقمي» في السودان، لافتةً إلى أنه أعاق قدرة النشطاء على تنسيق الاحتجاجات ونشر تطورات الأحداث داخل السودان وخارجه.
ونقلت عن إحدى المحتجات قولها لـ«هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)»: «غياب وسائل التواصل الاجتماعي يؤثر على عملنا إلى حدٍ كبير»، مضيفة أن قطع الإنترنت جعل النشطاء يقتصرون في تنظيم المظاهرات على المكالمات الهاتفية، أو الرسائل النصية، وهي وسيلة اتصال أعلى تكلفة، وتصل إلى عددٍ أقل من الناس. وذكرت صحيفة سودانية هذا الأسبوع أيضًا أن انقطاع الإنترنت سيستمر لمدة ثلاثة أشهر أخرى.
وبحسب تقرير «واشنطن بوست» فقد صعَّب انقطاع الإنترنت الحياة على حركات المعارضة السياسية في جميع أنحاء العالم منذ بداية ظهور الإنترنت؛ إذ توصَّلَت دراسة أُجرِيَت عام 2011 إلى أن أكثر من 600 حالة في 99 دولة قُطِعَ فيها الإنترنت بين عاميّ 1995 و2011.
وفي بعض الأحيان تقطع الدول الإنترنت لأسبابٍ لا تتعلَّق بالاضطرابات السياسية، فعلى سبيل المثال: كانت دولٌ عديدة تقطع الإنترنت لمنع الغش في الامتحانات المحلية، بحسب التقرير. إذ يقول الباحثون: «إن الربيع العربي حوَّلَ قطع الإنترنت إلى طريقةٍ مُتَّبعةٍ لدى الأنظمة الاستبدادية، أو شبه الاستبدادية، لمنع تصاعد الاحتجاجات. وكانت الشبكات الاجتماعية قد نهضت بدور أساسيٍّ في حشد الجماهير الغفيرة خلال ثورات 2011، وفي نقل الحماس الثوري خارج الحدود».
وضربت الصحيفة أمثلة على تصدي النظم الاستبدادية لتأثير هذه الوسائل الرقمية، بقطع نظام حسني مبارك في مصر جميع الوصلات الدولية بالإنترنت ومَنَعَ الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك لم يفلح في وقف ثورة شعبية سرعان ما أدَّت إلى الإطاحته به. وقطعت ليبيا وسوريا الإنترنت، وبالمثل فعلت السلطات السورية في يونيو 2011 لقمع المتظاهرين.
نقل التقرير عن داريل ويست، المدير المؤسس لمركز الابتكار التكنولوجي التابع لمعهد بروكينجز، قوله: إنه بعد الربيع العربي «أدركت الحكومات الدور المهم الذي تضطلع به التكنولوجيا الرقمية في الاحتجاجات السياسية، ولكنها تتخذ إجراءات قمعية وتمنع المحتجين من استخدامها».
وأضاف أن حالات قطع الإنترنت التي استخدمتها الحكومات تنتشر بشكل واسع، وتمثل الحالة السودانية تطبيقًا صارمًا لهذه الظاهرة المتزايدة.
وتابع ويست: «يبدوا أن حالة قطع الإنترنت في السودان هي حالة شنيعة؛ فهي تُظهِر أن ذلك بدأ يُشكِّل مشكلةً. وعندما تفعل إحدى الدول ذلك، فإنها تشجع البقية على فعل الشيء نفسه».
وقطعت عدة دول أفريقية أخرى الإنترنت لتكميم أفواه المعارضة. فقد قطعت حكومة الكونغو الإنترنت تمامًا لمدة 20 يومًا في أعقاب انتخابات رئاسية شابتها عمليات تزوير واسعة النطاق. وفي مطلع هذا الشهر حَجَبَت الحكومة في ليبيريا الشبكات الاجتماعية وسط احتجاجات ضد الفساد.
وتشير الصحيفة الأمريكية إلى أن هذا النهج تخطى أفريقيا والشرق الأوسط، فقد قيدت إحدى الشركات الحكومية التي توفر خدمات الإنترنت في فنزويلا الوصول لخدمات البث أثناء مؤتمر صحافي لزعيم المعارضة خوان غوايدو، وفقًا لما ذكرته منظمة «نتبلوكس». وقيَّدت الصين، التي تشتهر بمراقبة الإنترنت، مؤخرًا الوصول للمعلومات حول احتجاجات هونج كونج.
وبعيدًا عن قمع الحركات الاحتجاجية، ترى الصحيفة أن عمليات قطع الإنترنت ربما تتسبب في توجيه ضربات قاسية للكيانات الاقتصادية التي تعتمد بصورة متزايدة على الأدوات والخدمات الرقمية. فقد أجرى ويست دراسة على الفترة من 2015 إلى 2016 فتبيَّن أن 81 حالة قطع لشبكة الإنترنت في 19 دولة معًا تكلفت ما لا يقل عن 2.4 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم.
ولفتت إلى أن قطع الإنترنت المستمر في السودان يتسبب في توجيه ضربة اقتصادية له، موضحة أن العديد من الشركات ومقدمي الخدمات يعتمدون على الإنترنت في مزاولة نشاطهم التجاري، وعدم وجود الإنترنت من شأنه شل الحركة التجارية. وذكرت نقلًا عما نشرته صحيفة سودانية هذا الأسبوع أن هذا الأمر سيكلِّف الدولة أكثر من مليار دولار أو نحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان.
وبينما يُصعِّب قطع الإنترنت الحياة على المتظاهرين منذ مطلع يونيو، قال ويست: «إن الآثار الجانبية الاقتصادية ربما يكون لها تأثير مناقض في تأجيج الاحتجاجات، خاصة وأن الصعوبات الاقتصادية هي التي أشعلت الثورة في المقام الأول».
وأضاف: «عندما تقطع الدول الإنترنت، فإنها تعطل جزءًا متناميًا من الاقتصاد. ويتسبب ذلك بالتأكيد في خلق مشكلات للشركات الصغيرة؛ ما يؤجج السُخط السياسي».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».