نشرت شبكة «سي إن إن» تحليلًا لستيفن كولينسون، مراسلها في البيت الأبيض، ويكتبُ في السياسة الدولية والأمريكية، بالإضافة إلى تغطيته للبيت الأبيض. يتناول التحليل الأزمة الأخيرة بين إيران وأمريكا في الخليج العربيّ.
عشوائية في البيت الأبيض
يبدأ كولينسون تحليله بالحديث عن موجة المساءلة لأداء ترامب باعتباره قائدًا أعلى بعدَ تراجعه عند حافة التطوّر الخطير الأخير بعدَ أن استعدت القوات الأمريكية مساء الخميس لشنّ هجمات ثأرية على إيران.
ينقل الكاتب تغريدة ترامب: «عُبّئت الأسلحة ووجهت لرد الاعتداء على ثلاث نقاط الليلة الماضية، وعندما سألت كم سيموت؟ كان جواب أحد الجنرالات: 150 شخصًا سيدي. أوقفت الهجوم قبل 10 دقائق. ليس متناسبًا مع إسقاط طائرة بدون طيار ودونَ ركّاب. لستُ متعجلًا».
أول ما تثيره التغريدة ـ في نظر الكاتب ـ سؤال: لماذا لم يسأل ترامب عن الخسائر البشرية قبل التوقيع على مهمّة قال مسؤولون أمريكيون إنها ستهاجم بطاريات صواريخ ورادارات ردًا على إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار.
بإلغاء الضربات يتسق ترامب مع نفسه، ومع رغبته بتجنب الانجرار لمحرقة جديدة في الشرق الأوسط، وهو مبدأٌ في صميم قناعاته السياسية، ومركزيّ في خطته؛ ليُعاد انتخابه في نوفبمر (تشرين الثاني) 2020.
وبعيدًا عن ذلك يرى الكاتب أنّ قراره يكشف وجود سياسة عشوائية وعاطلة في معالجة مسائل أمن قومي خطيرة في وقتٍ لا بوصلةَ فيه للبنتاجون المعلّق بلا وزير دفاع دائم.
بالطبع لن يمرّ هذا التراجع مرور الكرام على خصوم أمريكا الذين قد يَروا فيما حدث فجوةً لدفع ترامب أكثر مما فعلوا من قبل. يرى كولينسون أنّ ترامب أهدى إيران نصرًا، وهي عدو الولايات المتحدة، بإظهاره أنّ بإمكانها إسقاط ممتلكات/أجهزة عسكرية معقدة بقيمة 110 مليون دولارًا، وتُفلت من العقاب. ما حصل ربما يعني أنّ إيران تشعر بحصانة تسمح لها بالتحرك ضدّ مصالح الولايات المتحدة مع النجاة من الرد بالبقاء بعيدةً قليلًا عن الخط الأحمر الجديد لترامب.
انسحاب ترامب وضّح محدودية خياراته التي لا تنطوي على خطر تصعيدٍ هائل للرد على فعل إيران.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
انسحاب ترامب وضّح محدودية خياراته التي لا تنطوي على خطر للردّ على فعلة إيران. لننظر في الأمر بطريقة مختلفة يقولُ الكاتب أن القرار الحصيف جاء لقطع سلسلة من الأحداث قد تجرّ الولايات المتحدة بسرعة لحرب أخرى بلا نهاية. قد يحافظ قراره على حياة أرواح إيرانية وأمريكية كثيرة. ربما من الصعوبة بمكان لرئيس أن يقطع زخم هجوم عسكريّ تؤيده المؤسسات الدفاعية والسياسية.
ولا مؤشرات حتى الآن على أنّ التراجع سيفتح الباب لانفراج في الأزمة أو أنّ الإيرانيين سيفسرون ما حدث كفرصة لفتح حوار مع الولايات المتحدة.
وينتقلُ الكاتب لمقارنةٍ بين قرار ترامب الأخير وقرار أوباما بوقف هجمة عسكرية خطط لها عامَ 2013 لفرض خط أحمر ضدّ هجمات الأسلحة الكيماوية، ويقول: إن ترامب الذي بنى مشروع رئاسته على عكس ما فعله سابقه باراك أوباما لن يحب هذه المقارنة.
لكن ما حصل مع ترامب فيه أوجه تشابه مع قرار أوباما الذي انتُقد منذ ذلك الحين من الجمهوريين الذين يدعمون ترامب الآن.
تُراقب واشنطن خطوات الرئيس القادمة وربما يستشكّل قرار الرئيس القادم بالتغطية الإعلامية – غالبًا ستكون ناقدة – لقراره بإيقاف الهجمات؛ ما يعني أن الساعات والأيام القليلة القادمة قد تكون حساسة وشديدة.
ويعود الكاتب لتغريدة ترامب القديمة عندما امتنعَ أوباما عن تنفيذ الهجمة في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2013، ويقول إنها ربما تعكس كيف سيتعامل ترامب مع الأزمة الإيرانية الأخيرة: «السبب الوحيد الذي لأجله يريد أوباما مهاجمة سوريا هو الحفاظ على ماء وجه تصريحه الأحمق عن الخط الأحمر.
وبينما يواجه ترامب معضلة إيران القاسية يعلقُ بين الجمهوريين المُطالبين بردٍ قاصم، والديمقراطيين يحذرونه من التورّط بالحرب، ومعه مسؤولو الملف الإيراني في فريقه للأمن القومي الذين يرحبون بالمواجهة. لا نتيجة واضحة من الحرب تعطيه فوزًا سياسيًا واضحًا يحفّزه على التحرك كما الحال في باقي مغامراته في السياسة الخارجية.
يُشار عادةً في واشنطن إلى أن ترامب محظوظٌ لعدم مواجهته طارئَ أمنٍ قومي مفاجئ طوال رئاسته، ولكن هذا الحظ نفذ الآن، رغمَ أن منتقديه سيتعاطفون معه قليلًا مع توقعهم منذ وقت بعيد أنّ السياسة الصلبة مع إيران ستنتهي بالضبط كما حصل.
ستضعُ الأزمة المتفاقمة إدارته فوضوية التمزّق تحت اختبار تماسك غير مسبوق. قد يضطر ترامب لمناداة حلفاء أمضى شهورًا بالإساءة لهم. وقد يصعب عليه إقناع الأمريكيين بتحركات خطيرة بسبب تشويهه للحقائق وحملته الركيكة للحشد ضد إيران.
الوقوف بعيدًا.. استراتيجية ترامب
لاستكشاف تحركات ترامب القادمة في السياسة الخارجية من الجيد عادةً تحديد المسار الذي سينفعه منه سياسيًا بسرعة. ويبدو أن هذه الأزمة، كما يقول الكاتب، تضعُ جانبين من مصالح الرئيس في تعارض.
تجنب التورّط الخارجيّ مبدأ ترامبيّ أساسيّ. لا يريد الرئيس نشر قوات في الدول الحليفة حتى في وقت السلم، فما بالك بحربٍ في الخليج.
وحتى إسقاط طائرة إيرانية بلا طيار أو مهاجمة القاعدة التي أُطلقت منها الصواريخ التي أسقطت الطائرة الأمريكية، حتى رد عسكري أمريكيّ «متناسب» سيجبرُ الجمهورية الإسلامية على رفع السقف مجددًا، وآنذاك حتمًا سيُسحب ترامب لعمق رمال الشرق الأوسط المتحركة.
طائرة RQ-4 بلا طيار. الطائرة الأمريكية التي أسقطتها إيران قبل أيام.
علينا النظر لصورة الرئيس ومصداقيته، ففشله في الرد على التصعيد الإيرانيّ سيقوّي الانطباع النامي عن ترامب كما في «النار والغضب»، شخصيةً قوية نادرًا ما تحوّل أقوالها لأفعال. ويعرفُ ترامب أنّ قوى أجنبية مثل الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا، يراقبون ما يجري عن كثب. سيكره أن يبدو ضعيفًا عندما يدخل اجتماعاته مع الرئيسين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ.
الملف على مكتب الرئيس
ربما هذه أول مرة يضطرُ فيها ترامب للقلق بشأن «مشكلة رئاسية كلاسيكية»، وفقًا لوصف الكاتب. أية مشكلةٌ لا نتيجة جيدة لها وانتهى بها المطاف على مكتب الرئيس؛ لأن الجميع فشلوا في حلها. غالبًا ما يكون لدى ترامب مفهوم غير اعتيادي فيما يخص الصالح الوطني الأمريكي، خصوصًا عندما يأخذ هذا الأمر في الحسبان بشكل كامل وسط سياسة خارجية شائكة.
ولكن الأمر مختلف: مسؤولية أرواح أمريكية تقعُ على عاتقه. أمريكا تنزلقُ نحو حرب كبرى مع قوّة أقدر من العراق الذي استطاعَ قتل قوات أمريكية طوال عقد كامل. صراعٌ مطوّل مع إيران قد يطلق عنان قوى محليّة وجيوسياسية يمكن أن تُنهي رئاسته إن لم تسر الأمور في الاتجاه الصحيح.
ترامب يحكم بحدسه، ويتجاهل التفاصيل وعادةً يعالج الأزمات بقول أو فعل أي شيء حتى مرور اليوم. الأزمة التي تنبني الآن تتطلب دراسةً وتفكيرًا استراتيجيًا بثلاث أو أربع أو خمس خطوات للأمام وتقييم لشلال العواقب التي قد تنتج عن أي مسار.
حالات الأمن القومي الطارئة عادةً تصلُ بالإدارة لأقصى حدودها وتتطلبُ وحدةً في الهدف وتماسكًا بينَ وكالات الحكومة المختلفة، وهو ما لم يألُ ترامب جهدًا لتقويضه.
مشكلة واضحة بالنسبة لترامب أنه ـ وبينما هو يريد خفض التوتر مع إيران ـ ليسَ لدى طهران إلا حافزٌ صغير لتتعاون؛ لأن العقوبات الأمريكية في حملة ترامب، «الضغط الأقصى»، خنقت الاقتصاد الإيراني وسبّبت إفقارًا خطيرًا بين سكان إيران، وفقًا للكاتب.
تبدو الحوادث الأخيرة كمحاولةٍ لفرض كلف مترتبة على الولايات المتحدة، بما في ذلك إسقاط الطائرة بلا طيار، وهجومٌ على ناقلة في خليج عمان، وتحذيرُ إيران بأنها ستكسر الحدّ الدولي لتخصيب اليورانيوم. ولذا دون تخفيف العقوبات – بأن تقدم واشنطن عرضًا أو يقدم ترامب عرضًا مُعتبرًا لتعود إيران للتفاوض – فقد تظلُّ الأمور على ما هي عليه الآن.
ومع ذلك قالَ القائد الأعلى، علي خامئني: «إنّ قرار ترامب بالانسحاب من اتفاق أوباما النووي يعني أن لا ثقة مرة أخرى بواشنطن في الحوار».
ضجّت واشنطن يوم الخميس بتوقعات عن وزير الخارجية، مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي لترامب، جون بولتون، اللذين يُريان كمحرّكين للسياسة الأمريكية الصلبة مع إيران. الاثنان جاءا استبدالًا للمسؤولين الذين عارضوا قرار ترامب بالانسحاب الكامل مع الاتفاق النووي مع إيران، ويتهمهم النُقّاد بأنهما مسؤولان عن خلق الأزمة الأخيرة بنصائحهما لترامب.
من اليمين: مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، معَ جون بولتون مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب.
وينتقل الكاتب للمبعوث الأمريكي الخاص لإيران، الذي أكّد أنه، وبالرغم من الاستفزازات الإيرانية، إلا أن سياسة إدارة ترامب كانت فعّالة وأضعفت إيران. وغذّى المبعوث انطباعَ أن أطرافًا في الإدارة يؤيّدون المواجهة. بعد جدلٍ حول فكرة أنّ اتفاق إيران جمّد قضية امتلاك إيران لقنبلة نووية لعقدٍ من الزمن، قال المبعوث للجنةٍ فرعية للشؤون الخارجية في الكونجرس: «بدلًا عن انتظار كل هذه الأشياء لتحدث في 10 سنين عندما تكون إيران أقوى. نحن أتينا بذلك» للحظة الحالية. وأضاف: «أنا حقًا أؤمن بأن كل ما نراه اليوم حتميّ الحدوث».
هذه مشكلةٌ لن تُحل بتغريدة وتطرحُ على الرئيس سؤالًا لم يواجهه من قبل.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».