في مقال للكاتب «شادي حامد »، الباحث بمعهد «بروكنجز»، ومؤلف كتاب «إغراءات السلطة: الإسلاميون والديمقراطية غير الليبرالية في الشرق الأوسط الجديد» لصحيفة «ذي أتلانتيك» الأمريكية، ناقش حامد فكرة علاقة الدين الإسلامي بالسياسة، وكيف كان شكل هذه العلاقة طوال 14 قرنًا منذ بعثة النبي، وكذلك ما الذي يجعل الإسلام دينًا مختلفًا عن بقية الأديان فيما يتعلق بتلك النقطة، وتأثير الإسلام السياسي على الشرق الأوسط بشكل عام.
يقول حامد إنه لا يمكن فهم الصراعات الحالية في الشرق الأوسط، دون العودة إلى التاريخ، على الأقل إلى عام 1924، والذي يتزامن مع سقوط «الخلافة الإسلامية»، وهو النظام السياسي الذي يوظف الشريعة والأعراف الإسلامية. وعلى مدار القرون الـ 13 الأولى للإسلام، كانت فكرة الخلافة، وعلاقة الإسلام بالسياسة، أمرًا مقبولًا بشكل واسع، حتى في الأوقات التي لم تكن فيها الخلافة مؤثرة.
ومنذ تفكك الخلافة العثمانية، احتدمت الصراعات في الشرق الأوسط؛ من أجل الوصول إلى نظام سياسي شرعي بدرجات مختلفة، وربما كان ظهور «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) آخر تلك المحاولات التي فشلت في الإجابة على السؤال الأساسي، وهو: معنى أن تكون مواطنًا، أو تكون دولة. ربما كان مما يميز الإسلام – بحسب حامد – هو علاقتة بالسياسة؛ إذ تعود تلك العلاقة إلى وقت ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي.
كيف يختلف الإسلام عن المسيحية واليهودية؟
يضيف حامد ـ أيضًا ـ أن الإسلام دين مختلف، وأن هذا الاختلاف كان ذا أثر عميق على المنطقة بشكل خاص، امتدادًا إلى التأثير العالمي. يكمن الفارق بين الإسلام والمسيحية في أن المسيحية لا تتضمن ذلك الحزم، فيما يتعلق بالشريعة والحكم والسلطة. تدور فكرة الشريعة في الأساس على فضح ومعاقبة الخطيئة، في حين أن في المسيحية، يُفترض أن «المسيح» خلص البشر من أعباء الخطيئة؛ عندما صُلِب، ما يعني بالتبعية أنه خلصهم من عبء الشريعة.
بحسب حامد ، شكلت قصة الخلاص في المسيحية ملمحًا من ملامح مراحل التطور الروحي متعددة المراحل التي مرت بها الإنسانية؛ ففي الوقت الذي كانت فيه اليهودية انتقائية إلى حد بعيد، وتخص مكانًا وبشرًا بعينهم: هم شعب الله المختار، جاءت المسيحية لتقدم طرحًا عالميًا أبديًا. وبناءً على فكرة الخلاص. وإذا كان ذلك الخلاص على يد المسيح وفقط، فلا حاجة لدولة تنظم سلوك العامة والخاصة، وهما المطلوبان سويًا لنشر الفضيلة وزيادة الوفاء للمسيح، وتصبح أيضًا فكرة العقاب على الخطايا ليست ذات أولوية، فقد ضحى المسيح من أجل ذلك مسبقًا.
وفي الوقت الذي سعى فيه بعض اللاهوتيين إلى التأسيس لفصل قضية الإيمان عن الأعمال الصالحة، تظل هاتان الفكرتان مرتبطتان ببعضهما بقوة في الإسلام؛ إذ إن التعبير عن الإيمان يكون من خلال الامتثال للشريعة، وأن عدم الامتثال لها يعني ضعفًا في إيمان المسلم وعصيانه لله، وهنا الاختلاف؛ إذ لا يأتي الخلاص سوى باتباع الشريعة، وهو ما يظهر على طابع أية دولة إسلامية؛ إذ تمنع الخمر والزنا، وتتأكد من صوم وصلاة المسلمين في موعدها؛ إذ يتمثل دور القادة ورجال الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما حدث بدرجات مختلف خلال العصور الماضية.
لماذا يختلف الواقع الحالي عن التاريخ الإسلامي المزدهر؟
تناول حامد أيضًا فترة ما بعد «الخلفاء الراشدين»، والتي لم تستمر خلافتهم لفترة طويلة؛ إذ تبعتها عصور ذهبية للإسلام، كان خلالها مزدهرًا لفترات طويلة: فـ«الخلافة العباسية» على سبيل المثال، والتي كان مركزها «بغداد»، كانت أحد أنجح الإمبراطوريات التي عرفها العالم عبر التاريخ؛ إذ استمرت من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر من الميلاد، وقد أحدثت تقدمًا غير مسبوق في العلوم والطب والفلسفة، وكان طلاب أوروبا يأتون لتلقي تلك العلوم لدى المسلمين؛ أملًا في أن يتعلموا من أعظم أطباء ومفكري العالم، واليوم، لا ينشغلون سوى بالتفكير فيما حدث لهذا السياق التاريخي.
يقول حامد إن الحالة التي وصل إليها الشرق الأوسط ـ حاليًا ـ يصعب على الجميع تقبلها؛ إذ كان دائمًا هناك ما يدعو للفخر عبر القرون الـ14 الماضية من تاريخ الإسلام، فهل جاء هذا التراجع كنوع من العقاب الإلهي؟ إذ إنه، وبعد قرون من الهيمنة، خُسِفت الإمبراطوريات الإسلامية على يد النجم الأوروبي الصاعد، قبل أن يأتي الاستعمار ليسيطر على العالم الإسلامي.
كان الاستقلال والتخلص من الاستعمار بمثابة بارقة الأمل في القرن الماضي، إلا أن وعود «القوميين العلمانيين» خيبت الآمال، وقادت تلك الأمم الشابة نحو «الديكتاتورية». يقول حامد إن ذلك الأمر ـ ربما ـ أتى كعقاب إلهي على ابتعاد المسلمين عن اتباع أوامر الله؛ إذ بشَّر الله المؤمنين الذي يتبعون الطريق المستقيم، وهو ما حدث ـ ربما ـ خلال القرون السابقة؛ إذ نجح الرسول والصحابة والتابعون الأوائل في تحقيق نجاحات لا يمكن تخيلها؛ إذ وصلت الفتوحات الإسلامية إلى «أسبانيا وفرنسا» بعد وفاة الرسول بزمن غير بعيد، فإذا كان ذلك دليلًا على صلاح هؤلاء الأوائل واستقامتهم، فما يحدث حاليًا ـ بالتبعية ـ هو دليل على إثم وخطيئة من تبعوهم.
أطلقت الدولة العثمانية ـ بعد ذلك ـ سلسلة من الإصلاحات الداخلية؛ أملًا في إنهاء ذلك التراجع، في القرن التاسع عشر، فيما عرف بـ«التنظيمات»، إلا أن هذه لم تكن النية الحقيقية لها؛ إذ إن ما حدث ـ واقعيًا ـ كان تراجعًا للشريعة، وخاصة مع ضعف دور «رجال الدين» في الدولة، وهنا رأى العلمانيون أنه لا فائدة من إجراء إصلاحات لدولة تقوم على أسس دينية، وأن ذلك سيكون عائقًا في طريق التقدم. كانت الفكرة لدى هؤلاء تقول: بأنه إذا كانت القومية العلمانية قد قادت أوروبا نحو نهضتها، فلم لا يحدث الأمر نفسه في الشرق الأوسط؟ كانت الأنظمة الجديدة مزيجًا «أيديولوجي» مختلفًا بين «الماركسية والاشتراكية والليبرالية» وغيرها من الاتجاهات.
فصل الدين عن الدولة.. هل هو الحل؟
يقول حامد إنه في تلك اللحظة، رأى الإسلاميون المعاصرون أن هذه الأحداث جاءت نتيجة بعد الدولة عن الدين، وأن هذا بمثابة الغضب الإلهي، وأنه لإرضاء الله، يجب إعادة الأمور إلى نصابها، والعودة إلى الأساس الإسلامي النقي. ظهر ذلك السرد في نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنه تحول في العقود التالية إلى مجرد كلمات متواترة، إلا أنه ظل قائمًا، واستدل على ذلك بكتابات المفكر الإسلامي «محمد جلال كشك»؛ والتي حملت نمطًا مشابهًا من هذا الطرح.
حاول الكثير من الحركات الإسلامية إحياء روح الجيل الأول من المسلمين، وهم من عرفوا لاحقًا باسم «السلفيين»، والذين لم يكتفوا بالبحث عن تلك الروح فقط، بل جاء الاسم مستمدًا من الأسلاف؛ إذ سعى هؤلاء للالتزام بالسنة النبوية بتفاصيلها، إلا أن الغريب في الأمر، أن ـ مثل ـ تلك الحركات كانت بعيدة عن التاريخ الإسلامي؛ فإذا طلبت من أحد المسلمين أن يذكر اسم أحد علماء العصر العثماني، فلن تجد الكثير ممن يستطيعون الإجابة عن هذا السؤال. كذلك الأمر بالنسبة للخلافة العباسية التي يتذكرها المسلمون بكثير من الفخر، في حين أنه لا يوجد منهم من هو على استعداد للقتال والموت من أجل تحقيق تلك الغاية.
يقول حامد إن النبي «محمد صلى الله عليه وسلم» كان (رجل دين) وسياسيًا ومقاتلًا وداعية في آن واحد، والأهم من كل ذلك، أنه كان مؤسسًا لدولة جديدة. حاول مفكرون إسلاميون، من بينهم السوداني «محمود محمد طه»، وتلميذه «عبد الله النعيم» من بعده، التأسيس لفكرة فصل الوصايا النبوية، والزعم بأن القرآن الكريم يحتوي رسالتين مختلفتين، الأولى تقوم في الأساس على الآيات التي نزلت في المدينة أثناء تأسيس النبي لمجتمع جديد بها، والتي تتضمن أجزاءً من الشريعة الإسلامية، كانت تناسب القرن السابع، والجزيرة العربية، ولا تخرج عن هذا السياق، بينما قالوا إن الجزء الثاني من رسالة الإسلام نزل في مكة قبل هجرة الرسول، وضم المبادئ الإسلامية الخالدة التي يمكن تحديثها وفقًا لمقتضيات الزمان والمكان.
أُعدِم طه على يد نظام «جعفر النميري» عام 1985، في حين نُسيت نظرياته بعد ذلك، كما أن فكرته بدت غير واقعية، وتقود بالدين، الذي يفترض أنه سهل واضح، نحو مزيد من التعقيد.
يقول حامد إنه ـ ربما ـ يرى البعض أنه لا علاقة للشريعة الإسلامية بالحياة العامة، وأنه يجب فصل الدين عن الدولة، كأساس لتكوين مجتمع «ليبرالي تعددي حداثي»، إلا أن ثقل التاريخ الإسلامي يجعل من هذه الأفكار صعبة، وغير واردة. ويختتم الكاتب حديثه بالقول بأن الاستعمار والعلمانية وظهور الحداثة أنتج دولة مركزية طاغية، وما تبعها من «بيروقراطية» وجيوش متعددة التسليح، و«تكنولوجيا» مراقبة المواطنين وغيرها مما لم يكن متاحًا للإمبراطوريات السابقة. يطرح الكاتب ـ أيضًا ـ تساؤلًا لم يجد له إجابة حتى الآن، وهو: كيف يمكن للشريعة الإسلامية، التي وضعت قبل عهد الحداثة، أن تظل ملائمة، في وقت أصبحت الدول فيه تقوم على أساس «المواطنة» لا على أساس «الدين»؟
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».