في ظل القلق الذي يساور فرنسا بسبب سلسلة الهجمات الإرهابية الأخيرة، يمكن القول إن ماكرون قد أجَّج الاضطرابات بدلًا من إخمادها، بحسب ما خلص إليه تقرير نشره موقع ذي إنترسبت.

وقال الموقع الأمريكي في مستهل تقرير مراسلِه مرتضى حسين إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذاع صيته دوليًّا في السنوات الأخيرة بوصفه هدفًا لاحتجاجات ذوي السترات الصفراء، ولكنه أصبح في الآونة الأخيرة أكثر شهرة بشيء آخر، ألا وهو حَمْل لواء صِدَام الحضارات.

تأجيج الاضطرابات وليس إخمادها

دولي

منذ سنتين
«ميدل إيست آي»: حملة ماكرون ضد الإسلام هي التطرف السياسي في أسوأ صوره

وأوضح التقرير أن ماكرون أجَّج نيران الاضطرابات بدلًا من إخمادها في خضم قلق فرنسا بسبب سلسلة الهجمات الإرهابية، التي كان آخرها عمليتي قتل مروِّعتين في غضون أيام قليلة في منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وبَدَا أن ماكرون يتعامل مع التوترات المتزايدة في فرنسا بشأن سكانها المسلمين -الأكبر في أوروبا- والتهديدات الإرهابية بصوت عالٍ ولكن اهتمامه لوقف الهجمات الإرهابية على نحو مباشر كان أقل من اهتمامه بتحويل قضية أمنية إلى حرب ثقافية، فضلًا عن حشد الدعم للتنافس الجيوسياسي الفرنسي المتنامي مع تركيا.

ونقل الموقع عن مروان محمد، المدير السابق لائتلاف مناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا، قوله: «هناك قضية عنصرية في فرنسا وقضايا أخرى تتعلق بحقوق الإنسان، وهناك في الوقت نفسه تهديد إرهابي في فرنسا، ولا يمكن أن نضع إحداهما مقابل الأخرى»، مضيفًا أن: «الحكومة تفشل دومًا في معالجة التهديد الإرهابي من منظوره الأمني والإجرامي، وعندما تفشل على هذه الجبهة، تكون بحاجة لإيجاد كبش فداء، وقد وجدته في الجالية المسلمة».

وحظي قرار ماكرون بمحاربة الإسلاموية وإحياء أمجاد الإمبراطورية الأوروبية بقبول لدى بعض الأوروبيين، لكنه يخاطر بفعل شيء آخر، وهو تحويل مشكلة أمنية داخلية تواجهها فرنسا ويمكن السيطرة عليها إلى مشروع ضخم غير عملي، وقد يكون ضرره أكبر من نفعه حال فشله في مهمته.

وأشار الكاتب إلى أن أحدث منعطف بدأ في منتصف أكتوبر، بعد مدة ليست بالطويلة من زيارة ماكرون إلى لبنان، وبعد عودته ألقى ماكرون خطابًا استفزازيًّا عن أزمة الإسلام، وقد انتشرت أصداء هذا الخطاب كالنار في الهشيم في مختلف أنحاء العالم.

وفي غضون وقت قصير، بدا أن الأحداث تساعده لتأكيد وجهة نظره، فقد فُجِعت أوروبا بأسرها، وليس فرنسا فقط، بنحر لاجئ شيشاني لرأس معلم تاريخ، صموئيل باتي، منطلقًا من عرض الأخير لطلابه صورًا مسيئة للنبي محمد، ولم تمضِ سوى أيام قليلة حتى شنَّ متطرف آخر هجومَ طعنٍ في مدينة نيس الجنوبية قتل فيه ثلاثة أشخاص.

Embed from Getty Images

تعامل كارثي مع الحدث: تأجيج صدام الحضارات

ولفت التقرير إلى أن التعاطف والتضامن استجابة متوقعة في أعقاب المأساة الوطنية، ولكن تحولت الاستجابة العالمية بسرعة بالغة بعد الهجمات إلى انتقاد فرنسا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى طريقة التعامل الكارثية التي انتهجتها الحكومة الفرنسية مع الحدث، والمتمثلة في عرض الرسوم الكاريكاتورية على المباني العامة، واعتقال أربعة أطفال في العاشرة من العمر، وشن حملة صارمة عشوائية استهدفت المنظمات السياسية الإسلامية الفرنسية التي لا علاقة لها بأعمال القتل، وانتشرت الاحتجاجات والدعوات بمقاطعة المنتجات الفرنسية في جميع أنحاء العالم، بينما طغت موجة عارمة من الغضب وعدم الفهم المتبادل على السياق الأولي الذي حدثت فيه عمليات القتل.

ونوَّه المراسل إلى غضب ماكرون من تغطية بعض الصحف التي انتقدت سياسة حكومته وتواصله مع صحيفة نيويورك تايمز للشكوى من التحيز الملحوظ في التغطية الأمريكية، وقد عَكَس الغضب من انتقاد سياساته مفارقة لم تَغِب عن عيون المراقبين.

عدم التعامل مع جوهر المشكلة

وتابع التقرير: لا يختلف كثيرون على أن فرنسا تواجه تهديدًا إرهابيًّا خطيرًا، فمنذ عام 2015، قُتِل المئات من الفرنسيين، بينهم كثير من المسلمين، في هجمات متطرفة مرتبطة بجماعات مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، غير أن رد فعل ماكرون أشار إلى أن الشعارات الفرنسية بشأن الحرية لن تمتد إلى مواطنيها المسلمين، الذين روَّعتهم الهجمات شأنهم في ذلك شأن بقية المواطنين.

ويرى المراسل أن اتباع نهج أكثر استهدافًا لجوهر المشكلة في فرنسا، والتعامل معها على أنها مشكلة جريمة منظمة بدلًا من صراع طائفي مع نصف الكوكب ووسائل الإعلام العالمية، قد يؤدي إلى نتائج أكثر وضوحًا.

وضرب الكاتب مثلًا بقائمة «أس» الأمنية في فرنسا، التي تراقب من خلالها الحكومة الفرنسية الآلاف من الأفراد المُدرَجين على قوائم المراقبة الأمنية، وقد وجد كثيرون أنفسهم على هذه القائمة لأسباب زائفة وتعطلت حياتهم نتيجةً لذلك، وبغض النظر عن هذه المظالم، فإن القائمة قاصرة أيضًا من وجهة نظر أمنية، إذ غالبًا ما تكون معايير الإدراج في هذه القوائم فضفاضة جدًّا مما يجعلها غير فعَّالة بوصفها أداة للعثور على إرهابيين حقيقيين، وبدلًا من البحث عن أفراد يميلون إلى ارتكاب أعمال عنيفة، يهتم نهج الحكومة بالنظر إلى مدى الالتزام الديني باعتباره مقدمة للعنف.

ماكرون والتصريحات المحمومة

Embed from Getty Images

وسلط التقرير الضوء على الدور السلبي للتصريحات المحمومة، إذ فضلًا عن تصريحات ماكرون الأخيرة، والتي سعى إلى توضيح بعضها أو التراجع عنها، أثار وزير داخليته جيرالد دارمانين القلق إزاء ما يحدث بالفعل في فرنسا. ومنذ وقت ليس بالبعيد، اشتهر دارمانين بمواجهته مزاعم الاعتداء الجنسي، والآن أصبح معروفًا بتعليقاته الاستفزازية عن المسلمين الفرنسيين، مثل إعرابه عن صدمته من رؤية الأطعمة الحلال مكدسة في متاجر البقالة.

وبحسب الكاتب، فقد يجد هذا النوع من الخطاب القاسي صدى لدى اليمين المتطرف الأيديولوجي وحتى بعض الأشخاص العاديين المتأثرين بالصدمة الجماعية، لكن الخطاب أسهم أيضًا في رد الفعل الإعلامي العالمي ذاته الذي أثار حفيظة ماكرون.

وفي خضم الأجواء الساخنة في أعقاب الهجمات، شجَّعت رسالته الحكومية الكارثية المزيد من الشائعات المتطرفة في البلاد، مثل الاقتراح الخاص بتوسيع بطاقات الهوية لتشمل جميع أطفال المدارس الفرنسية والذي أسيء فهمه على المستوى الدولي باعتباره خطة للتجسس على أطفال فرنسا المسلمين، وهو الأمر الذي فُسِّر على نحو خاطئ، بحسب ريم سارة علوان، الباحثة القانونية وأستاذة القانون في جامعة تولوز 1 كابيتول والتي ترى أن التعليقات المروِّعة التي أبدتها الحكومة بشأن مسلمي فرنسا، والمناقشات اللاحقة، هي التي أدَّت إلى هذا الارتباك المؤسف.

واستعرض التقرير بعض الإجراءات المتطرفة التي اتخذتها الحكومة الفرنسية في الأسابيع الأخيرة مثل إغلاق منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية الإسلامية الفرنسية، بينما شرعت الحكومة في الوقت نفسه، في اتخاذ خطوات لإنشاء مجتمع مدني إسلامي فرنسي مقبول من الدولة وخاضِع لسيطرتها، والذي لن يستطيع إبداء ملاحظات جوهرية حول سياسة الحكومة.

إثارة الاستقطاب

وشدَّد المراسل على أن ماكرون أصبح شخصية مثيرة للاستقطاب في مختلف أنحاء أوروبا والعالم. فمن ناحية، تجري شَيْطنته باعتباره شخصية شوفينية عنصرية في حالة حرب مع أقلية عاجزة. ومن ناحية أخرى، يُحتَفى به بوصفه محاربًا ضد الصواب السياسي (مصطلح يستخدم لوصف اللغة أو السياسات أو التدابير التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الإضرار بأفراد مجموعات معينة في المجتمع)، ولا يخشى أن يُجاهر بالمشاكل الحقيقية في المجتمع ومن يتسببون فيها، وفي هذه الحالة، المتسبِّبون هم المسلمون الفرنسيون الذين لا يندمجون على نحو جيد، إلى جانب «انفصاليتهم الإسلامية».

Embed from Getty Images

وألمح الكاتب إلى أن ماكرون وقبل أن يعيد تقديم نفسه باعتباره محاربًا عالميًا لحركة التنوير ضد الظلامية الدينية، كانت المشكلة الأكبر التي يواجهها تتمثل في التعامل مع حركة احتجاجية طويلة الأمد نتيجة لاقتراح يقضي بزيادة الضرائب على الغاز، وحتى قبل الهجمات الإرهابية الأخيرة بدا أن تحول ماكرون للحرب الثقافية على الإسلام جاء في توقيت يثير الفضول لبلد يعاني من أزمة صحية واقتصادية ناجمة عن جائحة كوفيد -19.

وعندما اقترحت الحكومة الفرنسية قانونًا أمنيًّا جديدًا للحد من تصوير ضباط الشرطة، تدفق الناس إلى الشوارع. وفي أعقاب هذا الغضب، يبدو أن ماكرون بدأ يتراجع عن تلك الخطوة، ولم يحدث هذا التراجع في جهوده الرامية إلى إغلاق المنظمات الإسلامية غير الحكومية وتقنين الرسمي منها، وهو ما يعكس تباينًا في التعامل مع القضيتين.

وأردف المراسل: والآن يمضي ماكرون قدمًا في ما أسماه «مشروع قانون لتعزيز القيم الجمهورية»، في أعقاب احتجاج عالمي على تعليقاته بشأن الانفصالية الإسلامية. وتهدف بعض الإجراءات إلى حظر الممارسات الثقافية الشائعة بين بعض المسلمين المحافظين في فرنسا، ولكن الخبراء يستبعدون أن تؤدي تلك التدابير، التي تركز على الثقافة بدلًا من الأمن، إلى منع الهجمات المستقبلية.

واختتم المراسل تقريره بتعليقات فرانشيسكو راغازي، الخبير في مكافحة الإرهاب وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليدن في هولندا، على الهجمات الإرهابية ورد الحكومة، والذي أبدى اندهاشه من عدم الحديث في الوقت الحالي حول فشل أجهزة الاستخبارات في القبض على المهاجم قبل ارتكاب جريمته، مضيفًا أننا «ما زلنا بحاجة إلى الوقوف على طبيعة القانون بعد إقراره في النهاية، لكن من غير المرجح أن تمنع الإجراءات الجديدة أعمال الإرهاب».

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد