من خلال إعادة قراءتها لتعليقات الروائي الأمريكي الشهير الذي كان يكتب تحت اسم «مارك توين» على مساءلة الرئيس السابع عشر، وهو الحدث الذي كان يغطيه بنصوص أدبية فيها كثير من السخرية الممتزجة بنظرة حكيمة إلى الأحداث السياسية؛ كتبت الصحافية إيفرات ليفني، التي تغطي شؤون القانون والسياسة، مقالًا في مجلة «كوارتز» ترصد فيه أوجه الشبه بين ما يحدث اليوم من مساءلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومحاكمته في مجلس الشيوخ، وما حدث مع الرئيس الأسبق أندرو جونسون وهو أول رئيس يخضع للمساءلة في الولايات المتحدة.
وتستهل الكاتبة مقالها بالإشارة إلى تعليق توين على مساءلة جونسون قائلة: «كتب مارك توين في عام 1868 عن أول مساءلة رئاسية على الإطلاق للرئيس أندرو جونسون، القائد الأعلى رقم 17 قائلًا: «أعتقد أن أمير الظلام يمكن أن يفتح فرعًا للجحيم في واشنطن العاصمة (إذا لم يكن قد قام بذلك بالفعل)، ويستمر في العمل دون أن يطلب الكونجرس الأمريكي مساءلته، على الرغم من أن الدستور يعج بمواد تمنع إقامة جحيم في هذا البلد».
يمكن اعتبار أن هذه الجملة كتبت اليوم، وليس في منتصف القرن التاسع عشر، وقراءة توين هي عامل تذكير مفيد بأنه لا يوجد شيء جديد تحت الشمس أو في السياسة الأمريكية.
ومثلما حدث في عطلة نهاية أسبوع شتوية تاريخية في الماضي، سيقضي المشرعون الأمريكيون نهاية الأسبوع الحالي في دراسة قضية المساءلة ذاتها. وسيدلي محامو الرئيس دونالد ترامب ببيانات افتتاحية في محاكمة مجلس الشيوخ، ويدفعون بأن القائد الأعلى رقم 45 لم يرتكب أي مخالفات يمكن المساءلة عليها، ويتهمون الديمقراطيين بتحويل نزاعات السياسة إلى انتهاكات دستورية، وهي ادعاءات تماثل شكاوى مارك توين من «الجمهوريين الراديكاليين» في الماضي.
التاريخ الأدبي للمساءلة
جاء توين للعمل في العاصمة واشنطن في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1867، قبيل محاكمة جونسون. واشتكى من الظروف الجوية المحلية، وكتب:
الطقس شديد التقلب.. إنه مخادع، وقابل للتغيير، وغير موثوق به لأدنى درجة. وهو يعكس تقلبات الجو السياسي المشحون لدرجة أن الطقس أصبح في النهاية مشبعا تماما بالطبيعة السياسية.. فإذا كان الرئيس هادئًا، تسطع الشمس في الأفق، وإذا لامس سوق الذهب، يتحول الجو إلى البرودة ويتجمد المضاربون، وإذا ألمح إلى وجود متاعب خارجية، يهطل الثلج، وإذا هدد الكونجرس، يضرب الرعد، وإذا ما أثيرت الاتهامات بالخيانة والعزل، فهناك زلزال!
وتتابع الكاتبة: سرعان ما انضم المراسل سريعًا إلى النشاط الصاخب في أحد جانبي الكونجرس للحصول على أموال إضافية، وهي ممارسة شائعة في ذلك الوقت. زار توين سيناتور ولاية نيفادا ويليام ستيوارت وهو يرتدي قبعة بالية، ويتدلى سيجار ذو رائحة كريهة من زاوية فمه». وعلى الرغم من هذا «المظهر الشرير»، استأجر ستيوارت توين كسكرتير له، ورد الروائي الطامح الجَميل له بتزوير توقيع السناتور، في الرد على شكاوى الناخبين بنصائح مكتوبة بأسلوب أدبي، ورفض تقرير وزارة الخزانة؛ لأنه «لم تكن به فقرات وصفية، ولا شعر، ولا مشاعر؛ لا أبطال ولا حبكة ولا صور».
على النقيض من ذلك كانت مقالات مارك توين السياسية بها كل ذلك. إذ صاغ مقطوعة هجائية تظهره كبطل في تقرير إخباري مزيف مرح يسخر من دعوات مساءلة الرئيس جونسون. وفي التقرير يتقاضى توين، بصفته «حاجب مجلس الشيوخ»، رسوم دخول القاعة، والتصويت في الجانبين على الاقتراحات، ويقاطع المناقشات المجدولة للتحدث عن حق المرأة في التصويت من خلال «البدء دائمًا بنفس الصيغة المملّة «المرأة.. نعم المرأة».
وتنتهي «اللوحات الكبرى» بتقريرين من اللجنة القضائية حول المساءلة عن هذه المخالفات الدستورية المزعومة. غير أن المزاعم الموجهة ضد جونسون لم تكن مضحكة مثل التقرير الخيالي للكاتب الفكاهي.
الجمهوريون الراديكاليون يسعون إلى محاكمة جونسون
وكان جونسون نائبًا للرئيس الجمهوري إبراهام لينكون، وهو ديمقراطي من ولاية تينيسي، لم يشغل منصب نائب الرئيس أكثر من 42 يومًا قبل اغتيال لينكولن عام 1865. وأغضب النهج التصالحي للرئيس الجنوبي تجاه الولايات التي تهدد بالانفصال بعد الحرب الأهلية «الجمهوريين الراديكاليين». وألقوا باللوم على جونسون في التساهل مع قوانين السود، التي حرمت العبيد المحررين من حقوقهم المدنية، والتي فرضتها الولايات الكونفدرالية مرة أخرى بمجرد عودتها إلى حظيرة الاتحاد.
مؤامرة الدولة العميقة مستمرة من جونسون إلى ترامب
كانت جروح المعركة لم تندمل بعد، كما كانت رئاسة جونسون عاصفة. فبعد محاولة إقالة وزير الحرب إدوارد ستانتون دون موافقة الكونجرس فيما يعد انتهاكا لقانون ولاية المنصب – قانون اتحادي يرمي إلى تقييد سلطة الرئيس في إقالة بعض أصحاب المناصب دون موافقة مجلس الشيوخ – الذي استخدم الرئيس ضده حق النقض، تحرك الجمهوريون الراديكاليون في عام 1867 باتجاه المساءلة.
كما يشكو أنصار ترامب الآن، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطالب فيها معارضة الرئيس بإقالته. ومثلما يحدث اليوم، اعتقد توين أن الملاحقة القضائية تنبع من مؤامرة «الدولة العميقة» في حكومة «مليئة بالراديكاليين الذين طالبوا صراحة بمساءلة الرئيس». وفي الواقع بدا كاتب القرن التاسع عشر في بعض الأحيان وبصورة صارخة كأنه من فريق ترامب.
تتابع الكاتبة: لنأخذ التسجيل الذي غطته قناة «إيه بي سي نيوز» يوم أمس 24 يناير (كانون الثاني)، والمتعلق بمعاملات ترامب المزعومة والفاسدة مع أوكرانيا. يبدو أنه يكشف أن اثنين من زملاء العمل السابقين لمحامي ترامب الشخصي رودي جولياني قدما شكوى في العام الماضي من أن موظفة وزارة الخارجية الأمريكية منذ فترة طويلة، السفيرة الأمريكية لدى أوكرانيا ماري يوفانوفيتش، كانت تنتقد ترامب وتنبأت بالمساءلة، وهو ما رد عليه الرئيس على ما يبدو بقوله «استبعدوها غدًا.. أقيلوها.. حسنًا؟ افعلوا ذلك».
في النهاية استُدعت ماري. ونفى ترامب ارتباطه بزميلي محاميه. لكنه يعترف بأنه لم يكن أبدًا «معجبًا» بالسفيرة، ودافع عن قراره بإبعادها عن موقعها باعتباره صلاحيات رئاسية وليست جزءًا من أي مخطط فاسد.
تشبه الكاتبة هذه الأمور بما قاله مارك توين ذات مرة: «يمكن لمجلس الوزراء الاستغناء عن التحزب. المجلس الذي لدينا في واشنطن يفعل ذلك على نطاق صغير، لكن بصورة تضر بالرئيس أكثر مما تفيده. يتعاطف جميع موظفي الحكومة تقريبًا مع الكونجرس، ويوفرون المساعدة والراحة للراديكاليين».
التاريخ والتكرار
أحرز «الراديكاليون» تقدمًا في الماضي. وكما كتب توين: «ومن وسط الكآبة السياسية، نهضت المساءلة، تلك الجثة الميتة، وراحت تسير من جديد!».
تقول الكاتبة: «عاد الزومبي الذي تحدث عنه مارك توين الآن، وإذا كان يمكن الخروج من تجربة جونسون التاريخية بشيء، فهي أن ترامب سيتم تبرئته. إذ نجا الرئيس السابع عشر بصعوبة من الإدانة بعد محاكمة طويلة في مجلس الشيوخ انتهت في أواخر الربيع».
تنبأ توين بهذه النتيجة بحلول أوائل أبريل (نيسان)، بعدما رأى إثارة المحاكمة تتلاشى، لتصنف فحسب ضمن التقديرات السياسية الساخرة. واتهم الجمهوريين الذين دعوا إلى المساءلة بأن لديهم «ميل مزعج للتخلي عن المعايير الأخلاقية الرفيعة»، خشية من الانتقام عند استعادة الرئاسة.
التاريخ يتشابه في الكثير من فصوله
لكنه لم يستثنِ أحدًا من احتقاره. وكتب توين: «الديموقراطيون لا يولولون بشأن المساءلة كثيرًا الآن، وهي حقيقة توقظ الشكوك. ربما يكونون مقتنعين بأن إلباس الرئيس ثوب الشهيد من شأنه أن يعطي قدرًا هائلًا من رأس المال الديمقراطي في الانتخابات المقبلة».
ترى الكاتبة أن تحليل توين لا يزال صالحًا الآن. فبينما تلوح الانتخابات الرئاسية في الأفق، يدرس الطرفان عواقب هذه المساءلة في ضوء ذلك. ففيما تدفع المخاوف بشأن السداد الوشيك الديمقراطيين إلى تبني الهدوء الإستراتيجي، يقارن الجمهوريون بين استشهاد ترامب ومحنة يسوع، على أمل أن تساعده محاولة فاشلة للمساءلة على الفوز بأربع سنوات أخرى في نوفمبر.
سوف يكشف الزمن إلى أي حد يتكرر التاريخ. لكن تجدر الإشارة إلى أن الديموقراطي جونسون خسر في الانتخابات بعد المحاكمة لصالح «جمهوري راديكالي».
وفي نهاية مقالها تشير ليفني إلى أنه «في النهاية أدان مارك توين كلا الطرفين لوضعهما السياسة فوق المبادئ، ونحى كل النكات جانبًا»، وكتب «هذا الإجبار الأبدي للصدق، والأخلاق، والعدالة، والقانون على الركوع للسياسة، هو الشيء الأكثر فسادًا في الشكل الجمهوري للحكومة. إنه جبان ومهين ومؤذ؛ وفي الوقت المناسب سيجلب الدمار على هذا النسيج الواسع الذي يضمنا».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».