من المحتمل ألا يتمكن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أبدًا من التخلص من الوصمة التي جنتها يداه، بغض النظر عن محاولاته الدؤوبة لإعادة رسم صورته، حسبما يخلُص إليه تحليل للكاتب كريستيان أولريكسن، نشره موقع مجلة «ريسبونسبل ستيتكرافت» التابعة لمعهد كوينسي الأمريكي لفن الإدارة الرشيدة.
يبدأ الكاتب مقاله، الذي كتبه في الأصل للمركز العربي واشنطن دي سي، بالإشارة إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قام بجولة خليجية استهلها بزيارة سلطنة عُمان في 6 ديسمبر (كانون الأول) وختمها بزيارة الكويت في 10 ديسمبر، بعد توقُّف في أبوظبي ودبي وقطر والبحرين.
وجاءت رحلات الأمير قبل أسبوع من انعقاد القمة السنوية لقادة مجلس التعاون الخليجي التي عُقدت في 14 ديسمبر في الدِّرعية، الموطن التاريخي لآل سعود. وبالضبط كما بدأ عام 2021 بقمة مجلس التعاون الخليجي في السعودية في مدينة العُلا التراثية في 5 يناير (كانون الثاني)، والذي شهد توقيع اتفاقية العُلا التي أنهت حصارًا على قطر دام ما يقرب من أربع سنوات، كذلك ينتهي العام بقمة خليجية أخرى في السعودية، ولكن هذه المرة في الرياض، وتأمُل القيادة السعودية أن يعزز الحدث الأخير مكانة محمد بن سلمان الإقليمية، جزئيًّا لمواجهة الصعوبات المستمرة التي يواجهها في إعادة بناء مكانته الدولية.
وخلال زيارته لدول مجلس التعاون الأخرى، التقى محمد بن سلمان بسلطان عمان وأمراء قطر والكويت وملك البحرين والقائد الفعلي لدولة الإمارات، ولي العهد محمد بن زايد آل نهيان.
وأكدت هذه الاجتماعات أن محمد بن سلمان هو الوجه العلني والدبلوماسي للسياسة الإقليمية للسعودية، والنظير الفعَّال الذي يجب على جميع القادة الآخرين التعامل معه (بدلًا من والده الملك سلمان بن عبد العزيز)، وعكست مركز الصدارة الذي تبوأه ولي العهد، ذو الـ36 عامًا، في قمة العُلا في يناير الماضي.
وفيما بين ذلك، استهدفت الزيارة أحداثًا مثل تنظيم قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، التي جمعت القادة الإقليميين في الرياض في أكتوبر (تشرين الأول)، من أجل تقديم محمد بن سلمان بوصفه شخصية مركزية ذات أهمية على مستوى المنطقة.
سياق خليجي متغير
وأوضح الكاتب أن تطورات عدة جعلت هذه اللحظة مناسِبة لهذه الجولة الإقليمية؛ فقد غيَّب الموت كلًّا من السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان، وأمير الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح في عام 2020، وهما قائدان بارزان يرى الكاتب أنهما كانا على ما يبدو يحملان شكوكًا خفية إزاء النهج المتهور الذي يتَّبعه محمد بن سلمان في الشؤون الإقليمية.
والواقع أن الزيارة السابقة التي قام بها محمد بن سلمان إلى الكويت، بوصفه ولي العهد السعودي في سبتمبر (أيلول) 2018، قد انتهت قبل موعدها وبعد ساعات قليلة فقط من بدئها، وسط تقارير عن خلافات في السياسة العامة بشأن قضايا تراوحت بين حصار قطر والإغلاق المستمر لحقول النفط في المنطقة المحايدة المشتركة بين السعودية والكويت. وفيما يخص شخص كرَّس 60 عامًا من حياته للدبلوماسية الإقليمية، يصف الكاتب حزن الأمير الصباح على المستوى الشخصي بسبب الصدع الأكبر في تاريخ مجلس التعاون الخليجي الذي امتد لـ40 عامًا، وتوفِّي أمير الكويت قبل أن يُحل الخلاف في النهاية.
ولفت الكاتب إلى أن ولي عهد الكويت الجديد، الشيخ مشعل الأحمد الصباح (المعروف بأنه صانع القرار السياسي، بالنظر إلى صحة الأمير نواف الأحمد الجابر الصباح غير المواتية)، قد اختص السعودية بأول زيارة رسمية له عندما التقى بمحمد بن سلمان في الرياض في شهر يونيو (حزيران). وبعد شهر من ذلك التاريخ، جعل سلطان عمان الجديد هيثم بن طارق آل سعيد، السعودية أيضًا الوجهة الرسمية لأولى سفرياته بوصفه رئيسًا للدولة، عندما زار الملك سلمان ومحمد بن سلمان زيارة استغرقت يومين في مدينة نيوم المخطط تشييدها مستقبلًا على ساحل البحر الأحمر في السعودية. وعُدَّت الزيارة ناجحة، وهي الأولى التي يقوم بها سلطان عماني إلى المملكة منذ أكثر من عقد، وأسفرت عن مجموعة من المبادرات الاقتصادية ومبادرات البنية التحتية المشتركة. وحددت نهجًا جديدًا في العلاقات السعودية العمانية بعد فترة من العزوف من الجانبين.
كما توضح العلاقات مع قطر تغيُّر السياق الإقليمي في عام 2021 في مواجهة الفترة المحفوفة بالتوتر التي ميزت فترة ولاية محمد بن سلمان المبكرة منذ توليه منصب ولي العهد في يونيو 2017، وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام ركزت على حقيقة أن وصول محمد بن سلمان في 8 ديسمبر إلى الدوحة كانت المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه قطر منذ رفع الحصار، مثَّلت الزيارة في الواقع اجتماعه الخامس مع الأمير تميم بن حمد آل ثاني في عام 2021 وحده، وكان ذلك بعد أن زار الأمير القطري السعودية أربع مرات، في مؤتمر قمة «العُلا»، ومرةً أخرى في مايو (أيار) وسبتمبر (أيلول)، وكذلك لمبادرة الشرق الأوسط الأخضر في أكتوبر، ويشير تواتر اجتماعاتهما إلى أن عملية المصالحة وإعادة بناء العلاقات والثقة تسير بوتيرة أسرع في الحالة السعودية مقارنةً بدول الحصار الأخرى، مثل الإمارات والبحرين.
التركيز على الدبلوماسية الإقليمية
وأضاف الكاتب أن تموضع محمد بن سلمان في قلب الدبلوماسية الإقليمية في الخليج يُعد جزءًا من إعادة صياغة السردية عن ولي العهد السعودي بعيدًا عن صورة صانع القرار المتهوِّر والمندفع والمزعزع للاستقرار، والتي بلغت ذروتها في تداعيات عملية الاغتيال المروِّعة للصحافي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر 2018.
ورغم أن الرئيس جو بايدن لم يتابع تنفيذ ما وعد به في خطابه أثناء حملته الانتخابية والذي هدد فيه بمعاملة السعودية بوصفها «منبوذة» ووقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة، فإنه لم ينخرط في لقاءاتٍ مباشرة مع محمد بن سلمان، كما فوَّض مسؤولين أقل مرتبة في إدارته للاجتماعات مع ولي العهد، وبقي محمد بن سلمان بعيدًا على نحو ملحوظ عن كل من قمة مجموعة العشرين في روما في أكتوبر (على الرغم من تولي السعودية رئاسة المجموعة بالتناوب في العام السابق) ومن قمة المناخ «كوب 26» في جلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني)، ويرجع ذلك جزئيًّا، بحسب الكاتب، إلى أنه ربما كان يرغب في تجنب أن ينظر إليه بايدن بازدراء على الملأ.
ومن الواضح أنه مع زيارة ولي العهد لكل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، ودوره البارز في قمم مجلس التعاون، تشير القيادة السعودية إلى أن الدول في جميع أنحاء المنطقة على استعداد للتعامل مع محمد بن سلمان حتى وإن لم يكن شاغل البيت الأبيض الحالي مستعدًّا لذلك.
وفضلًا عن ذلك، يتناقض تحفُّظ محمد بن سلمان في السفر على المستوى الدولي، وخاصة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، منذ مقتل خاشقجي في عام 2018، مع مشاهد الترحيب التي حظي بها في العواصم الإقليمية، وكما اعترفت إدارة بايدن (ربما على مضض) بأنها في حاجة إلى الاستمرار في التعامل مع الزعماء السعوديين بشأن اليمن (وبدرجة أقل أسعار النفط ومخرجات الإنتاج)، فقد يتصور السعوديون أيضًا أنه يتعين على الإدارة الأمريكية أن تعترف بمحمد بن سلمان بصفته شخصية ذات مكانة إقليمية، حتى وإن لم تكن راغبة في ذلك.
استعادة القيادة الإقليمية بوصفها نقطة انطلاق
ويتابع الكاتب قائلًا إنه وبالإضافة إلى الرؤية المتمثلة في محاولة إعادة رسم صورة محمد بن سلمان بصفته شخصية سياسية، قد يسعى السعوديون أيضًا إلى استعادة زمام المبادرة بعد موجة من التطورات الإقليمية التي لعبت فيها الإمارات، وليس السعودية، الدور المحوري.
وفي الأسابيع التي تزامنت مع جولة محمد بن سلمان في العواصم الخليجية، سافر ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، إلى أنقرة للقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 24 نوفمبر، واستقبل رئيس وزراء إسرائيل، نفتالي بينيت، في أبوظبي في 13 ديسمبر، وفضلًا عن ذلك، التقى مستشار الأمن القومي في الإمارات، الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، بنظيره الإيراني وكذلك الرئيس إبراهيم رئيسي في طهران في 6 ديسمبر.
وتوضح المبادرات الإماراتية لإعادة التواصل مع تركيا وإيران وتوطيد العلاقة المزدهرة مع إسرائيل كيف تتحرك القيادة الإماراتية بصورة استباقية لحماية مصالحها المتصورة والحفاظ عليها في جميع أنحاء المنطقة، وعلاوةً على ذلك، جاءت تلك التحركات بعد فترة من التوتر في العلاقات السعودية الإماراتية والتي أوجدت درجة من التباعد بين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، اللذين بدَت علاقتهما لبعض الوقت (بين عامي 2015 و2018) المحور المهيمن في السياسة الخليجية.
وفي حين أن نقاط الخلاف اقتصادية في المقام الأول وليست سياسية أو أيديولوجية، لذلك من غير المرجح أن تتصاعد أو تنفجر تلك الخلافات كما حدث مع قطر في عام 2017، مما يؤكد الطريقة التي قد تتضح بها الممارسات التنافسية، مع التنوع الذي تنتهجه الرياض في القطاعات الاقتصادية، مثل السفر والسياحة والضيافة والترفيه، التي هيمنت عليها أبوظبي ودبي لوقت طويل.
ومع انعقاد القمة السنوية لمجلس التعاون الخليجي الآن كل عام في السعودية (حيث تقع أمانة مجلس التعاون الخليجي)، بدلًا من التناوب بين عواصم الدول الأعضاء الست كما كان يحدث حتى عام 2017، من المرجح أن يسعى محمد بن سلمان، بصفته المُضيِّف، إلى إيجاد توافق حول القضايا الرئيسة التي تواجه دول مجلس التعاون الست.
وتشمل هذه القضايا تنسيق مواقف دول مجلس التعاون بشأن إيران واليمن وسوريا، وهي مهمة تبدو الأقوال فيها أسهل من الأفعال إذا أخذنا التباين الأخير في تعاطي دول الخليج مع أزمة لبنان التي وقعت في نوفمبر 2021 (بسبب تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي) مؤشرًا دالًّا على هذا التنسيق، فضلًا عن السعي إلى ضمان أن تكون مصالح دول المجلس مطروحة على الطاولة في الجهود الدولية الرامية إلى حل هذه البؤر الإقليمية الساخنة.
ومع اقتراب الإمارات من شغل أحد المقاعد العشرة غير الدائمة لمدة عامين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للفترة 2022- 2023، فقد يرى محمد بن سلمان في مركزيته (والسعودية) في مجلس التعاون وسيلة لتوضيح شكل مختلف من أشكال الزعامة والنفوذ الإقليمي.
وقبل كل شيء، تُظهِر التحركات الأخيرة التي اضطلع بها محمد بن سلمان بداية انطلاقه على الصعيد الإقليمي بعد أن تحطمت صورته العالمية واحترقت في خضم موجة «الاشمئزاز» الدولي التي صاحبت وتيرة الكشف بالقطَّارة عن مقتل جمال خاشقجي، بحسب تعبير الكاتب.
العودة إلى الساحة العالمية
بدأ محمد بن سلمان بين عامي 2016 و2018، وهي الفترة التي شملت صعوده الرسمي لمنصب ولي العهد، وكأنه يظهر في كل مكان، في تغطية وسائل الإعلام المُتَزَلِّفة للقاءَاته مع عمالقة وادي السيليكون، والترحيب المحموم في العواصم الغربية، مما يشير إلى أن الأبواب كلها كانت مفتوحة أمام زعيم الألفية المنتظر.
وقد توقف كثير من هذا الاحتفاء في أكتوبر 2018 وبعده، ومن الواضح أن مقتل خاشقجي لا يزال له تداعياته، كما يتضح من حقيقة أن محمد بن سلمان قد قَلَّص سفره الدولي تقليصًا حادًّا ولم يعد بعد إلى زيارة الولايات المتحدة، وربما يكون غير راغب في القيام بذلك دون حماية الحصانة المستندة إلى منصب رئيس الدولة.
وقد يستغرق الأمر سنوات لكي يتخلص محمد بن سلمان من وصمة العار التي لحقت به بصفته صانع قرار متهورًا ومندفعًا دون أي اعتبار يذكر لحدود السلوك المعقول، بل إن صورته في بعض الأوساط قد لا يُعاد تأهيلها بالكامل، ومع ذلك، وبغض النظر عن أي تطورات غير متوقعة، فإنه في مرحلة ما من السنوات العديدة القادمة سوف يخلف والده بوصفه خادم الحرمين الشريفين، بكل الثقل الذي يجلبه هذا المنصب من الناحية الجيوسياسية الإقليمية، وكذلك من الناحية الدينية.
وبوصفه ملكًا، ووفق ما يختم الكاتب، فقد يتطور محمد بن سلمان ليناسب مكانة زعيم دولي، وخاصة أثناء فترة حكم من الممكن أن تدوم لعقود، ولكن حتى هذه اللحظة، فإن توطيد موقعه على الصعيد المحلي وإعادة تأكيد مركزيته على المستوى الإقليمي من شأنه أن يبدو نهجًا ذكيًّا للاستعادة التدريجية لبعض المكانة التي خسرها في اضطرابات السنوات القليلة الماضية من حياته، التي لم تزل يافعة.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».