ستعرض جيمس هولمز، أستاذ الإستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية الأمريكية، أعظم خمسة خبراء في مجال الإستراتيجية العسكرية على مر العصور، وذلك في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية.

وفي مطلع تقريره يقول الكاتب إن قائمتي التي بين أيديكم لأبرز إستراتيجيين عسكريين على الإطلاق على مدار التاريخ قد يحتج عليها كثيرٌ من الناس، سواء اعتراضًا على أسماء لم تُدرج في القائمة أو على أسماء أخرى ضمتها القائمة، ناهيك عن رفض التسلسل الهرمي ذاته الوارد في القائمة. حسنًا! فليطلق كل شخص العنان لنفسه، وينهمك جيدًا في الأعمال المرتبطة بالنظرية الإستراتيجية ويضع قائمته الخاصة من أفضل الإستراتيجيين العسكريين. إن وجهة رحلتك الفكرية مهمة جدًّا، لكن لا بد أن تبدأ الرحلة نفسها من حيث تجد التنوير.

ما الفرق بين الممارس والمُنظِّر؟

يُوضح الكاتب أن تصنيف الإستراتيجيين العسكريين وترتيبهم يُعد مهمة ثقيلة مليئة بالفخاخ. وبصرف النظر عن الاختلافات الواضحة بين الإستراتيجيين، بداية من اختلاف العصور التاريخية التي عاشوا فيها، ومرورًا بوضع تقنيات القتال التي كانت موجودة خلال حياتهم، ووصولًا إلى أساليب شن الحروب الرائجة آنذاك، هناك فارق أساسي جدًّا، وهو أن بعض الإستراتيجيين يمكن اعتبارهم ممارسين للأفكار الإستراتيجية بصفة أساسية، بينما يُعد بعضهم مُنظِّرين للأفكار الإستراتيجية بالأساس.

لذلك كيف يمكن أن نحكم ـ على سبيل المثال ـ على جندي ميداني مثل الجنرال يوليسيس جرانت – الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة، وكان القائد العام لجيش الولايات المتحدة ـ القائد المنتصر الذي كان يتَّبع نهج الانقضاض في ساحة المعركة، وقد أوضح هذا النهج «مبدأ الاستمرارية (يشير المبدأ إلى الحاجة إلى استغلال النصر إلى أقصى حد من خلال الاستمرار في التقدم الهجومي ضد العدو دون انقطاع)» للمؤرخ كارل كلاوزفيتز، مقارنةً بكلاوزفيتز نفسه، الذي كان جنديًّا غير مبالٍ، والذي قدَّمت إنجازاته ـ بوصفه كاتبًا ومُفكِّرًا ـ أفكارًا وإجراءاتٍ إستراتيجية لم تزل تُستخدَم حتى وقتنا الراهن – صاحب كتاب: عن الحرب، أشهر كتبه، وأحد أهم المراجع الكلاسيكية في الحرب؟

ويضيف الكاتب أنه مما يثير الاستغراب أن العديد من عظماء الإستراتيجيين يُعدُّون ممارسين عاديين بدأوا في كتابة أفكارهم بعد الهزيمة في ساحات المعارك، أو بعد إنفاق أموالهم حتى الإفلاس، أو كليهما. وربما يُؤدي الفشل إلى صفاء الذهن، ولهذا من الصعب أن تصبح أفكارهم محل نقاش، أو مثار خلاف. وفي واقع الأمر ينبغي علينا في النهاية أن نُفضِّل هؤلاء المُنظِّرين على الممارسين. ويُنقِّب هؤلاء المُنظِّرون في السجلات التاريخية التي تحتوي بين دفَّتيها على أعمال القادة العظماء لإلقاء نظرات ثاقبة على الفنون السرية للإستراتيجية.

Embed from Getty Images

ولذلك يُعد إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت ومؤسس ألمانيا فريدريك العظيم عنصرين أساسيين في كتاب «عن الحرب» لكلاوزفيتز. كما يُعد اللورد هوراشيو نيلسون بمثابة الواجهة لنظريات المؤرخ الأميرال ألفريد ثاير ماهان عن القوى البحرية. ونجد أيضًا أن أفكار المؤرخ الإغريقي الشهير ثيوقيديدس يُمثلها كلٌ من السياسي اليوناني المحنك بريكليس، والجنرال ألكيبيادس، والقائد الإسبرطي براسيداس، والأميرال ليساندر، وكثير غيرهم. إن الممارسين يُزوِّدون المُنظِّرين بالمعلومات لتحليلها وسردها.

وبُؤكد الكاتب أن البشرية بحاجة إلى الممارسين والمفكرين على حد سواء من أجل تكريس الفكر الإستراتيجي، ولكن في نهاية المطاف، يتفوق المنظِّرون على الممارسين بما يتميزون به من إدراك لحقائق ساحة المعركة مع قليل من موهبة تحليل التجارب واستنباط الغايات والأهداف وتسجيل النتائج. ومن ثم، فإن المنظرين من الطراز الأول، وليس القادة العسكريين، هم الذين يهيمنون على قائمة «أعظم خمسة إستراتيجيين عسكريين على مر العصور». وقد يضم تصنيف الإستراتيجيين العصاميين رجالَ دولةٍ محاربين، بداية من الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، مرورًا باللواء ناثانيال جرين، ووصولًا إلى إبراهام لنكولن.

الشاعر الإغريقي هوميروس

يبدأ الكاتب قائمته بالمفكر هوميروس، داعيًا إلى احترامه على اعتبار أنه كاتب ضاعت هويته في العصور القديمة، لكن كتاباته ظلت قادرة على إجبار قارئها على الاقتناع بها. وكما يُلاحظ لورانس فريدمان، أستاذ جامعي بريطاني، فإن هوميروس، مؤرخ حرب طروادة كان من بين الشخصيات الأوائل التي اكتشفت موضوعين استحوذا على الاهتمام الأكبر في الفِكر العسكري: وهي القوة الغاشمة المستخدمة في اشتباكات الخطوط الأمامية، وأساليب المكر، والحيلة، والخداع. ومن الشائع تصوير القوة الغاشمة على أنها النوع السائد في الأساليب الغربية في طبيعة الحروب. وقد أعرب عددٌ لا يُحصَى من المحاربين والمُنظِّرين بالفعل على مرِّ العصور عن عدم ارتياحهم للأساليب التي يغلب عليها الطابع غير الشريف.

بيد أن هوميروس يُذكِّر الأجيال القادمة بأن أوروبا لديها تقاليدها الخاصة في المراوغة والخداع. وهذا ليس ميدان الفيلسوف والخبير العسكري الصيني صن تزو وأتباعه الآسيويين الغامضين. ويرى فريدمان أن «أخيليس» ـ أحد الأبطال الأسطوريين اليونانيين ـ ممثِّل للقوة الغاشمة، وتعد الإلياذة – ملحمة شعرية تحكي قصة حرب طروادة للشاعر هوميروس – تأريخًا لأسلوب الحروب المباشرة.

Embed from Getty Images

أما البطل الإغريقي «أوديسيوس» المخادع، فهو وجه للمكر والحيلة، وتعد «الأوديسة» – أهم ملحمة شعرية إغريقية كتبها هوميروس – موجزًا لتجسيد المراوغة. وعندما تجمع بين هذه الأشياء ستجد أن الشاعر قد استنتج على ما يبدو أن كلا الاتجاهين من الفِكر لا غنى عنهما، لكن الأفضل أن يسخِّر القادة القوة الغاشمة لتحقيق الانتصارات على النحو الأفضل. وقد بذل أوديسيوس أكثر مما بذله أخيلوس، وهذا مسار يستحق إعادة النظر لآلاف السنين.

المؤرخ ثيوقيديدس

يمضي الكاتب قائلًا: نعود إلى عالم بحر إيجة لتسليط الضوء على رابع أفضل مفكِّر عسكري في التاريخ، وقد يضع العديد من المعلقين ثيوقيديدس في مكانة رفيعة بهذه القائمة، وقد أتفق معهم إذا كانت هذه قائمةً لكبار الإستراتيجيين، لكن الأطروحة عن الحروب البرية والبحرية، وهذا ما لا يجعل التصنيف خاصًا بالإستراتيجية العسكرية البحتة.

كما أن المؤرِّخ الأثيني لا يوضح أفكاره بوضوح كما يفعل الأدميرال الأمريكي جوزيف ويلي، أو السير جوليان كوربيت، أو المؤرخ كلاوزفيتز. ومع ذلك فإن كل شيءٍ موجود في تاريخ ثيوقيديدس: القوة البرية التي تقاتل القوة البحرية، وأهمية التمويل في الحروب، وحتمية بناء تحالفات سلمية لدحر الأعداء، وحسابات فتح الساحات الثانوية أو العمليات، وأكثر من ذلك بكثير، سنجد أنها أفكار وأعمال صالحة لكلِّ الأزمان.

الأدميرال الأمريكي جاي سي ويلي

يتناول الكاتب ثالث أفضل إستراتيجي على مدار التاريخ وهو شخص آخر من ذوي البشرة البيضاء، ومع ذلك ـ بحسب ما يستدرك الكاتب ـ فإنني أتحايل هنا، أو ـ بطريقة لطيفة ـ أقدم بعض أفكار شتى خاصة بي. لقد كان الأدميرال ويلي يؤدي دور وكيل الإستراتيجيين غير الغربيين، مثل صن تزو، وماو تسي تونج، الذين يفضِّلون الحيطة، والحذر، والتأنِّي، كما لعب دور وكيل للمؤلف الإنجليزي باسيل هنري ليدل هارت، الكاتب المُلْهَم في القرن العشرين وصاحب «إستراتيجية النهج غير المباشر (إستراتيجية عسكرية كانت تدعو الجيوش إلى التقدم على طول الخط الأقل مقاومة، في محاولة لإيجاد حل لمشكلة ارتفاع معدلات الضحايا في مناطق الصراع)».

كما ينتمي ويلي إلى ذلك النوع الذي يمثل أسمى الإستراتيجيين الذين يستخدمون أفكار الآخرين لابتكار نظرية المجال الموحد للإستراتيجية. ويُقسِّم ويلي الحرب إلى مدارس فكرية منها البرية والبحرية والجوية، بالإضافة إلى مدرسة ماو، قبل أن يستنتج أن فكرة ليدل هارت الأهم (المراوغة) هي الفكرة الوحيدة التي تشملهم جميعًا. ويصف الكاتب أقل مجلد مضغوط من أعمال ويلي بأنه إنجاز استثنائي.

مصدر الصورة: usni.org

يقول الكاتب قد يتوقع أي شخص منِّي، بصفتي خبيرًا إستراتيجيًّا في المجال البحري، أنني سأتناول المفكر ألفريد ماهان أولًا عند التصدي للمسائل الشائكة، لكنني لن أفعل ذلك؛ إن وجود ويلي، الذي خدم في كلية الحرب البحرية في الخمسينات من القرن الماضي، يمنعني من ذكر ماهان، وهو محارب قديم وضابط عَلَم في البحرية الأمريكية في الثمانينات والتسعينات من القرن التاسع عشر.

السير جوليان إس كوربيت

يُنوِّه الكاتب إلى أن كلاوزفيتز يُجازف عندما يبحر بعمق في كتابات كوربيت. وكان المُنظِّر الإنجليزي يكتب للقوى البحرية العالمية – البحرية الملكية آنذاك، والبحرية الأمريكية حاليًا – لكن أيَّة قوة بحرية، سواء كانت قوية أو ضعيفة، يمكنها استخدام أفكاره وتوظيفها. ويُعلن كوربيت أن الفكرة الماهانية ـ لصاحبها ألفريد ثاير ماهان، وهي أن الاشتباك الحاسم للأسطول هو الطريق إلى تحقيق النصر في البحر ـ سليمة في تسع مرات من أصل 10.

وبعد ذلك يقضي كوربيت معظم كتاباته في تحليل المرة العاشرة المتبقية. وكانت المحصلة هي أنه يمكن للقوى البحرية أن تشن حروبًا محدودة لتوجيه الأحداث على الأرض، بل إن الأقوياء سيجدون أنفسهم أضعف في أوقات وأماكن معينة. ولمعرفة كيف يُمكن للضعفاء أن يصبحوا أقوياء، وأن يخرجوا منتصرين من الصراعات التي توجد على أرضية محايدة بين السلام والحرب الشاملة، فليسألوا السير جوليان.

المؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز

ويختتم الكاتب قائمته بمن وصفه بالمعلِّم الكبير، إنه كارل فون كلاوزفيتز، الذي اشتهر بتقييم العلاقة بين السياسة، والحرب، والشؤون المدنية والعسكرية، إذ يرى كلاوزفيتز أن الإستراتيجية هي إستراتيجية عسكرية في المقام الأول، ويتعلَّق الأمر باستخدام المعارك والاشتباكات لتحقيق الهدف من الحرب. وعندما تُفكِّر في إجراء مسح عام لساحة معركة نابليون، حيث كانت رؤيته مغطاة بالضباب، ودخان المدافع، بينما كان يُشرف على آلة عسكرية تُشغَّل عن طريق الاحتكاك والرغبات الشريرة، ستستوعب الفكرة.

تاريخ

منذ سنة واحدة
معركة قلعة لاتر.. عندما حارب الألمان والأمريكان معًا في الحرب العالمية الثانية!

هناك سبب وراء أن الدورات التدريبية في الإستراتيجية العسكرية، سواء كانت غربية أو شرقية، تبدأ بدراسة كلاوزفيتز. كما أن ثمة سببًا يدعو المُنظِّرين الآسيويين، مثل ماو، إلى دمج المفكر البروسي في تأمُّلاتهم في السياسة والحرب؛ وذلك لأنه يعبِّر عن منطق وقواعد عالمية للنزاع المُسلَّح. ولذلك يستحق كلاوزفيتز أن يحتل المرتبة الأولى في القائمة.

وفي ختام مقاله يقول الكاتب: أخيرًا قد يحتج كثيرٌ من الناس على هذه القائمة، سواء اعتراضًا على أسماء لم تُدرج فيها، أو على أسماء أخرى ضمتها، ناهيك عن رفض التسلسل الهرمي ذاته الوارد فيها. حسنًا! فليطلق كل شخص العنان لنفسه، وينهمك جيدًا في الأعمال المرتبطة بالنظرية الإستراتيجية، ويضع قائمته الخاصة من أفضل الإستراتيجيين العسكريين. إن وجهة رحلتك الفكرية مهمة جدًّا، لكن لا بد أن تبدأ الرحلة نفسها من حيث تجد التنوير.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد