تحوَّلت ليبيا إلى أحدث ساحات النزاع بالوكالة في العالم. وفي قلب هذا الصراع المحتدم؛ تدور رحى عمليةٍ معقدةٍ أشبه بالمتاهة، لتجنيد المقاتلين المرتزقة من أماكن مختلفة، تمتد من روسيا إلى تركيا مرورًا بسوريا، وتشمل أيضًا السودان.
على بساطِ تحقيقٍ مُطوَّل نشرته «صحيفة الإندبندنت» البريطانية، يصحبنا المراسلان بيل ترو، ورجائي برهان، في رحلةٍ إلى قلبِ هذا العالَم الغامض، الذي يموج بمرتزقةٍ يؤججون نيران حربٍ وقودها أرواح العديد من البشر، سواء كانوا من الليبيين في الداخل، أو المقاتلين القادمين من الخارج.
يستهل التحقيق بالقول: كانت المعنويات منخفضة حتى تكاد تلامس الثرى في صفوف القوات الموالية للحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا، حتى إن مجموعة من المقاتلين كانوا يخططون سرًّا للفرار من ساحة المعركة إذا وجدوا أنفسهم مجبرين على مواجهة الروس.
على الجانب الآخر، كان المرتزقة المدربون تدريبًا عاليًا – والذين جُنِّدوا لدعم الجنرال المتمرد خليفة حفتر في محاولته الاستيلاء على طرابلس – قد خرجوا من أتون الحرب الأخيرة في ليبيا بوصفهم قوةً مرهوبة الجانب.
وكان مقاتلو طرابلس، المعتادون أكثر على استخدام أسلحة الكلاشينكوف وارتداء الصنادل الخفيفة، يكادون ينظرون إلى الدقة الفتاكة التي تتمتع بها القوات الروسية؛ نظر المَغْشِيِّ عليه من الموت. ولا غروَ، فقدرتهم البارعة على القنص أصبحت تُنسَج حولها الأساطير في أوساط عامة المقاتلين.
لذا، عندما صدرت لهم الأوامر بالزحف جنوبًا صوب مواقع العدو، تبادلت مجموعة من المقاتلين الآراء بحثًا عن طريقة للهروب من المصير الذي ينتظرهم.
النزاع على ترهونة
كان الهدف هو: بلدة ترهونة المتداعية، الواقعة على بعد 60 كيلومترًا جنوب العاصمة طرابلس. وبوجود مهبطَيْن صغيرَيْن، تحوَّلت تلك البقعة المنعزلة التي لا تطرق الأحداث أبوابها في العادة إلى خطِّ إمدادٍ حيوي لحفتر، منذ أن شن هجومه في أبريل (نيسان) الماضي لانتزاع العاصمة من قبضة حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا.
وإذا سقطت تلك البلدة؛ كان الجنرال المنشق سيخسر موطئ قدمه الأخير في غرب ليبيا، ومن المرجح أن تفوز حكومة الوفاق الوطني بالحرب. لولا مشكلة واحدة هي أن مرتزقة موسكو كانوا في الطريق.
ولرسم صورةٍ أكثر دقة للأجواء، ينقل تحقيق «الإندبندنت» عن أحد المقاتلين المؤيدين للحكومة قوله: «كنا نخطط للهروب. كان الخوف يغزو قلوبنا لقدوم الروس؛ بسبب دقتهم في إصابة الأهداف. إنهم يتمتعون باحترافيةٍ مذهلة في استخدام المدفعية». وأضاف، بينما يكلله الخجل: «كان هدفنا الرئيسي هو البقاء على قيد الحياة». معربًا عن صعوبة الإفصاح بوضوح عما كانوا يشعرون به من خوفٍ في ذلك الحين.
قوات حكومة الوفاق الوطني بعد دخول ترهونة وتحريرها
ولكن حتى قبل أن يغادر مقاتلو حكومة الوفاق الوطني طرابلس، كانت اللقطات المتداولة على الإنترنت تُظهر ما بدا أنهم مقاتلون روس يتراجعون من الخطوط الأمامية على متن شاحنات وطائرات شحن. وعندما وصل المقاتلون أخيرًا إلى ترهونة، كان المرتزقة قد تبخَّروا.
ولتوضيح مدى عُمق دلالة خسارة حفتر لتلك البلدة، في اليوم الخامس من شهر يونيو (حزيران)، ينقل تحقيق «الإندبندنت» عن مسؤول عسكري في حكومة الوفاق الوطني في طرابلس قوله: «كانت هذه بداية انهيار كيان حفتر الأوهن من بيت العنكبوت». وأضاف: «كان هذا هو العامل الرئيس الذي أدى إلى انسحاب قوات حفتر من الأماكن الأخرى».
بيدَ أن «الجيش العربي الليبي» التابع لحفتر، والذي يلاحق الآن أذيال الهزيمة متراجعًا مئات الكيلومترات في عمق ساحل طرابلس، ينفي وجود أي مقاتلين أجانب بين صفوفه. في مقابلات مع صحيفة «الإندبندنت»، نفى قادة جيش حفتر مرارًا وتكرارًا هذه المزاعم ووصفوها بأنها مجرد «دعاية» و«أكاذيب تروج لها حكومة الوفاق والإرهابيون».
لماذا انسحب مرتزقة حفتر؟
بيد أن محققي الأمم المتحدة كان لهم رأي آخر، إذ يعتقدون أن شركات عسكرية روسية غامضة، مثل فاجنر، جنَّدت ما لا يقل عن 1200 شخص روسي لمساعدة حفتر على الظفر في حربه ضد حكومة الوفاق الوطني.
لكن ما الذي تسبب في انسحاب المئات من أولئك المرتزقة الروس في مثل هذه اللحظة الحاسمة؟ هذا هو حديث المدينة في طرابلس. إذ تكثر الشائعات عن التوصل إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة بين أنقرة وموسكو يقضي بالسماح للمرتزقة بأن ينجوا بأنفسهم من خط الجبهة دون أن يُصابوا بأذى، بما ينزع فتيل مواجهةٍ دموية بين القوتين العالميتين.
عن هذا التفسير، يقول أحد المرتزقة السوريين الذين يقاتلون في صفوف قوات حكومة الوفاق الوطني: «بالنظر إلى تأثير (هذا الانسحاب) على معنويات جنود حفتر؛ بتنا نعتقد على وجه التأكيد بوجود اتفاق». ويستشهد على ذلك بأن «كل المقاومة التي كنا نواجهها على جميع الجبهات اختفت في ليلة واحدة، كأن لم تكن».
يُعلِّق مراسلا «الإندبندنت»: هذه الحلقة الختامية من محاولة حفتر الكارثية للاستيلاء على طرابلس إنما تُسَلِّط ضوءًا كاشفًا على كيفية إسهام المرتزقة في توجيه دفة الانتصارات والهزائم، في خضم هذا الفصل الأخير من الحرب الأهلية الفوضوية في ليبيا.
ومع وجود رعاة أجانب تمتلئ خزائنهم بالأموال، وآلاف الجنود المنتشرين في ساحات القتال على كلا الجانبين، فإن ما كان في يومٍ من الأيام مجرد مناوشات بين الإقطاعيات المتصارعة التي تسيطر عليها الميليشيات، أصبح الآن أحدث حرب بالوكالة في العالم.
ولا غروَ أن يُغَيِّر هذا التدخُّل الخارجي المُكَثَّف، على وَقْعِ المصالح المتضاربة؛ وجه ليبيا إلى الأبد، ويؤلِّب القوى العظمى العالمية، بما في ذلك تركيا وروسيا والإمارات العربية المتحدة، بعضها ضد بعض. وعلى هذا النحو، أصبحت «ليبيا هي سوريا الجديدة»، ولكن الحرب اقتربت هذه المرة من عتبة أوروبا، على حد قول دبلوماسي بارز شارك في محاولة حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة.
ويخلُص التحقيق الذي أجرته «الإندبندنت»، على مدى شهر كامل، من قلب هذا العالم السفلي الذي يموج بالمرتزقة، إلى وجود عملية تجنيد مُعَقَّدة أشبه بالمتاهة، تمتد من موسكو إلى دمشق، ومن إدلب إلى إسطنبول.
ويلفت مراسلا «الإندبندنت» إلى أن وقود هذه المعركة هم السوريون الأكثر فقرًا، الذين يستغلهم الرعاة – على كلا الجانبين- بإرسالهم إلى خط المواجهة من أجل تحقيق أغراضهم؛ وهو ما توافق عليه دبلوماسيون غربيون أجرت الصحفية معهم لقاءات حول تحقيق الأمم المتحدة الجاري في انتهاكات حظر الأسلحة، إلى جانب المسؤولين العسكريين الأمريكيين، والمقاتلين السوريين والليبيين، بالإضافة إلى أكثر من 12 مقابلة أجرتها «الإندبندنت» مع أشخاص في كلا البلدين.
ويُجَنِّد طرفا النزاع مقاتلين سوريين لخوض حرب بالوكالة في ليبيا، وبعدما كان هؤلاء السوريون يتقاتلون بعضهم ضد بعض، قبل وقتٍ ليس ببعيد، ها هم اليوم يعاودون الكرة مرة أخرى، لكن لمصلحة شخصٍ آخر في بلدٍ دمرته الحرب، وتبعُد آلاف الكيلومترات عن وطنهم.
أبريل كان أكثر شهور العام قسوة حتى الآن
في الربيع الماضي كانت الأمور في ليبيا بدأت تتحسن؛ حتى إن الأمم المتحدة حددت مدينة غدامس الصحراوية المذهلة لتستضيف مؤتمرًا للسلام، كما وضعت جولات القتال الأخيرة أوزارها. وفي يناير (كانون الثاني) من العام الجاري، التقى ضباط شرطة من الحكومتين المتنافستين في بنغازي لمناقشة سبل التعاون المشترك.

خليفة حفتر
ولكن في شهر أبريل، قبل أيامٍ قلائل من موعد بدء محادثات السلام، تقوَّض التقدُّم الذي كان هشًّا. وبدعمٍ من القوات الجوية الإماراتية والقوات البرية الروسية التي وطئت بأحذيتها العسكرية أرض ليبيا، واتت الجرأة حفتر لشن هجومه غير المدروس في محاولة لإطاحة حكومة طرابلس المدعومة من تركيا.
ولطالما رفض حفتر، المرتبط اسميًّا بالإدارة المنافسة في الشرق، الاعتراف بحكومة الوفاق الوطني، ووصمها بأنها مجرد دمية تحركها الجماعات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي يعدها هو ومؤيدوه الخارجيون، بما في ذلك مصر والإمارات، إرهابيين.
في المقابل، تحظى حكومة الوفاق الوطني باعتراف الأمم المتحدة، وحماية ألوية من الميليشيات، ودعم دول من بينها تركيا وإيطاليا، وتعتبر حفتر مجرم حربٍ يسعى ليكون ملكًا.
في خضم هذا الصراع، تفاقم قلق الأمم المتحدة، وحذرت مرارًا وتكرارًا من أن تدفق المقاتلين والأسلحة إلى ليبيا ينتهك الحظر المفروض دوليًّا، وناشد المبعوث الأممي الخاص بالنيابة إلى ليبيا الشهر الماضي مجلس الأمن وقف «التدفق الهائل للأسلحة والمعدات والمرتزقة» إلى داخل البلاد.
ومن الصعب الإحاطة الشاملة بكل خيوط هذا النسيج المُعَقَّد من العناصر الأجنبية الذين يتقاتلون على أشلاء مُمَزَّعة من هذا البلد، المنكوب بصراعات متعددة طيلة السنوات التسعة التي انقضت من مقتل معمر القذافي بجوار ماسورة صرف.
ولا تُقَاس مواطئ الأقدام التي يسيطر عليها كل طرفٍ بالأمتار المربعة، ولكن بقوة النفوذ الذي يفرضه عبر المنطقة، ويستطيع توظيفه لصالحه ضد الآخر. وبالنسبة لشركات المرتزقة – مثل مجموعة فاجنر الروسية سيئة السمعة – فإن ليبيا تعد كنزًا لا تنفد خزائنه.
شن حفتر الحرب على طرابلس في أبريل 2019، وكانت له اليد العليا آنذاك، مُحَقِّقًا مكاسب سريعة؛ بفضل الطائرات بدون طيار من طراز Wing Loong II، والطائرات المقاتلة، وأنظمة الدفاع الجوي من طراز بانتسير، التي يعتقد دبلوماسيون غربيون أن الإمارات هي التي وفرتها له أولًا، ثم أمدته بها روسيا لاحقًا، وإن كان البلدان لا يفتآن ينفيان أي مزاعم تتهمهما بالتورط في تلك الحرب.
كم عدد المقاتلين المرتزقة الذين دخلوا ليبيا؟
على الأرض، يرصد تحقيق «الإندبندنت» مقدار الدعم البشري الذي حصلت عليه قوات الجنرال عن طريق تجنيد المرتزقة، مستشهدًا بتحقيقٍ أجرته الأمم المتحدة خلُصَ إلى تجنيد حوالي 1200 من المرتزقة الروس، وما يصل إلى ألفي مقاتل سوري جُلِبوا من المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد. (وإن كان تحقيق «الإندبندنت» يقدر عدد السوريين بحوالي 800 عنصر).
وأبلغ دبلوماسيون دوليون، اطلعوا على تحقيق الأمم المتحدة، صحيفة «الإندبندنت» بأن لواءً إضافيًا يضم أكثر من ألفي مقاتل سوداني، وصل كثير منهم خلال الفترة التي شهدت زيادة عدد المجندين في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، كانوا بمثابة دَفعة لحفتر.
لكن المشهد تغيَّر مع دخول تركيا رسميًّا إلى الساحة، بموجب موافقة رسمية من البرلمان التركي في يناير (كانون الثاني)، على الرغم من أن هذا التدخُّل يمثل انتهاكًا لحظر الأسلحة، كما يشير تحقيق «الإندبندنت».
وقال عوديد بيركويتز، نائب رئيس الاستخبارات في «ماكس سيكيوريتي»، لصحيفة «الإندبندنت»: «إن أحد الأشياء التي فعلتها تركيا من خلال تدخلها رسميًّا في ليبيا هو: تطوير الأسلحة… كما لو أنهم نقلوا ليبيا بسرعة إلى جيل جديد».
وما أسهمت به أنقرة لم يقتصر على نشر بضع مئات فقط من قواتها الخاصة، ولكنها أرسلت أيضًا طائرات بدون طيار من طراز Bayraktar TB2، وأنظمة دفاع جوي من طراز Korkut – وفقًا لمراقبين عسكريين غربيين – وثلاث فرقاطات على الأقل من طرازGabya، مما أدى إلى تدشين مظلة دفاع جوي حيوية تحمي طرابلس ومنطقة مصراتة المجاورة.
وفي الوقت نفسه، يقدر محققو الأمم المتحدة أن أنقرة جنَّدت ما يصل إلى 3 آلاف من مقاتليها السوريين المدعومين من تركيا للقتال على الجبهة الليبية. لكن المقاتلين السوريين في ليبيا ذكروا لصحيفة «الإندبندنت» أن العدد الحقيقي كان أقرب إلى 6 آلاف عنصر، بسبب زيادة التجنيد خلال الشهرين الماضيين.
حتى تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد في مارس (آذار) لم يبطئ نقل القوات. إذ قالت مصادر على الحدود السورية مع تركيا للصحيفة: إن مئات المقاتلين السوريين انتقلوا إلى ليبيا، وباتوا جاهزين للانتشار في طرابلس هذا الأسبوع. لكن مع انهيار معاقل حفتر، قد لا يكون ذلك ضروريًّا الآن، كما يلفت التحقيق.
على جانب حفتر، تمكنت «الإندبندنت» من تأكيد زيادة في تجنيد المرتزقة السوريين الموالين للنظام حتى منتصف مايو (أيار) على الأقل. وللتدليل على ذلك يصحبنا المراسلان في جولةٍ إلى صحراء مرزوق الواقعة في جنوب غرب البلاد، على طول طرق التهريب الرئيسية من حدود ليبيا الصحراوية مع السودان، لنقابل مواطنين ليبيين كانوا شاهدين على تدفق المقاتلين السودانيين المستقلين في شاحنات نصف نقل (بيك-أب) وهم يشقون طريقهم عبر الصحراء إلى الخطوط الأمامية.
وقال رجل يُدعى محمد: «هناك حركة منتظمة؛ لأن الحدود مفتوحة في الأساس. نشاهد سيارة واحدة أو اثنتين كل أسبوع تعبران الحدود».
بعيدًا عن الوطن
ينتقل مراسلا «الإندبندنت» إلى جبهة طرابلس، للقاء شخصٍ يُدعى أبو أحمد، اعترف لهما وهو جالس منحنيًا على هاتفه، وسط الندوب التي خلفتها الحرب على جسد المنطقة، بأن المرتزقة السوريين في سوريا يشعرون بالبؤس.
وقال المتمرد السابق الذي خلفت المعركة ندوبها عليه هو الآخر: «البعض يتحرقون شوقًا للعودة إلى منازلهم، لدرجة أنهم أطلقوا النار على أرجلهم؛ حتى يُسمَح لهم بالمغادرة جوًّا».
يقول الشاب البالغ من العمر 27 عامًا، إنه ليس بِدْعًا من معظم السوريين الذين يعرفهم، إذ لم يوافق على القتال في ليبيا إلا لأنه افترض أنه سيكون من السهل عليه ركوب قارب مهاجرٍ إلى أوروبا. وأضاف بمرارة: «اتضح أن الأمر ليس بهذه السهولة… والنصيحة التي يسديها جميع السوريين الموجودين هنا منذ فترة طويلة مفادها: لا تثق بأحد، وحاول العودة إلى وطنك».
بعد سنوات من القتال في صفوف الفصائل المتمردة ضد قوات النظام السوري، انضم أبو أحمد إلى الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا في العام الماضي، وكان رأس الحربة في توغل أنقرة في شمال سوريا التي يسيطر عليها الأكراد.
جاء توزيعه أول مرة في طرابلس إلى جانب حكومة الوفاق الوطني في فبراير (شباط) 2020. وعلى مدار الشهر الأخير تبينت صحيفة «الإندبندنت» في مراسلاته أن مزاجه ينتقل من سيئ إلى أسوأ.
وصف أبو أحمد كيف أغضب سلوك السوريين الجامح – من نهبٍ وسرقة أسلحة – العديد من الكتائب الليبية، التي تشعر بالقلق حيال مشهد الأجانب الذين يخوضون معاركهم بالنيابة عنهم. ويتذكّر كيف قبض أحد أصدقائه السوريين على سوري آخر من الطرف المنافس، ليرسم بذلك صورة مؤثرة توضح مدى عبثية كل ما يجري هناك.
ويضيف: «هنا في ليبيا، يعاملوننا وكأننا كيس من النقود. الليبيون يكرهوننا، ولا يثقون بنا على الإطلاق. وكل ما نريده هو العودة إلى ديارنا».
المرتزقة السوريون
يشير مراسلا «الإندبندنت» إلى أن قصة أبو أحمد تجسِّد معاناة آلاف السوريين الآخرين الذين علقوا في هذه الحروب بالوكالة التي تضطرم بنيرانها المنطقة. وقد كان يناهز من العمر 17 عامًا فقط، ويعمل في متجر والده، عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا في عام 2011. لم يستطع إكمال دراسته الثانوية، وبعد ذلك بتسع سنوات، اضطر للبقاء على قيد الحياة أن يحارب لصالح من يدفع أكثر.
وهكذا انتهى به المطاف تحت راية حكومة الوفاق الوطني، التي كانت تتعهد، بدعمٍ تركي، بدفع ألفي دولار شهريًّا لمدة أربعة أشهر؛ وهو ما يمثل زيادة كبيرة عن راتبه الشهري البالغ 500 ليرة تركية (70 دولارًا) الذي كان يتقاضاه نظير انضمامه إلى هجمات تركيا في شمال سوريا.
في الواقع عَهدت أنقرة إلى كبار قادة الكتائب السورية المدعومة من تركيا بتجنيد المقاتلين. وبحسب العديد من المقاتلين في ليبيا والمدنيين في شمال غرب سوريا، فإن أمثال فهيم عيسى، قائد كتيبة السلطان مراد، و«أبو عمشة»، قائد لواء سليمان شاه، أنجزوا مهامًا مُربِحَة في ليبيا مع رجالهم.
تستغرق الرحلة من شمال شرق سوريا إلى طرابلس أسبوعًا تقريبًا. ووصف أبو أحمد لصحيفة «الإندبندنت» كيف عبر نقطة حوار كلس الحدودية، وصعد على متن طائرة عسكرية من مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا إلى إسطنبول، ثم حلق إلى غرب ليبيا.
ينتقل التحقيق إلى مقاتلٍ آخر في حكومة الوفاق الوطني، كان من بين أوائل من أُرسلوا إلى هناك في يناير، قبل أن يعود إلى سوريا. صرَّح هذا الشخص لصحيفة «الإندبندنت» بأن السوريين الذين كان يقاتل إلى جانبهم سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل. فحتى الأموال التي يتقاضونها لم تكن بقدر السخاء الموعود.
يوضح عمر (ليس اسمه الحقيقي) أن 200 دولار من راتبهم الشهري تُحَوَّل إلى لوائهم. ويضيف واصفًا التمردات داخل الفصائل السورية، وغياب استراتيجيات للمعركة، والترحيب البارد من رجال الميليشيات الليبيين الساخطين: «الوضع في ليبيا مثل سوريا، نحن نقاتل دون أي تخطيط».
وأضاف: «بعض السوريين كانوا مكتئبين لدرجة أنهم هددوا بأنهم إذا لم يُعادوا إلى منازلهم سيقتلون أي شخص يقف في وجههم». لافتًا إلى عدم قدرة السوريين على الهروب عائدين إلى وطنهم؛ لأنهم يحتاجون إلى عبور تركيا، وبالتالي موافقة قادتهم.
عملية تجنيد المرتزقة
بدأ هذا الاستياء ينتقل إلى صفوف المقاتلين في سوريا. وقال دبلوماسي دولي في منصبٍ مرموق لصحيفة «الإندبندنت»: إن حكومة الوفاق الوطنية تلقت في الأصل وعدًا بدعم ما يصل إلى 9 آلاف مقاتل لكنها «واجهت تحديات في عملية التجنيد».
ينتقل التحقيق هذه المرة إلى سوريا، للقاء رجل من بلدة عفرين، الواقعة على الحدود السورية – التركية، ليخبر القراء بأن الأشخاص الذين يديرون عملية التجنيد، ويواجهون صعوبة متزايدة في جذب المقاتلين، باتوا يستهدفون المدنيين. وهو شخصيًّا تلقَّى اتصالًا كي يساعد في تجنيد أشخاص من مخيمات النازحين.
وقال لصحيفة «الإندبندنت»: عُرِضَ عليَّ 200 دولار مقابل كل شخص مدني أستطيع تجنيده للقتال ليبيا. لكنه استدرك: «من الصعب العثور على مقاتلين يريدون الذهاب إلى ليبيا».
على الرغم من هذه الصعوبات التي سردها تحقيق «الإندبندنت»، أدرك حفتر بحلول شهر مايو (أيار) أنه يخسر الحرب. وفي الأسابيع السابقة، كان من الواضح بالفعل أن جهود التوظيف المشحونة التي تضطلع بها تركيا تُتَرجَم إلى نجاحات عسكرية. ومع بسط قوات حكومة الوفاق سيطرتها على الأراضي الليبية، يمَّمَ مؤيدو حفتر الدوليون وجوههم أيضًا شطر سوريا؛ لسد النقص في المقاتلين.
حتى إن إدارة شرق ليبيا المرتبطة بحفتر فتحت سفارة لها في دمشق، في شهر مارس، معلنةً أنها ستقاتل الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد.
وهكذا، بينما كان أبو أحمد – سالف الذكر – منهمكًا في الانضمام إلى صفوف المجندين في إدلب بالقرب من الحدود التركية خلال شهر فبراير، على بعد مئات الكيلومترات جنوبًا في المناطق التي يسيطر عليها النظام في دوما ودرعا والسويداء، كانت الشركات العسكرية الخاصة المرتبطة بالكرملين ترسل أشخاصًا تابعين لها إلى القرى لتجنيد الشباب للقتال إلى جانب حفتر.
ويعتقد خبراء الأمم المتحدة، الذين يحققون في انتهاكات حظر الأسلحة، أن رحلات الطيران الـ33 التي سيَّرتها شركة «أجنحة الشام» من دمشق إلى بنغازي خلال الفترة ما بين 1 يناير و10 مارس، من المحتمل أنها كانت تنقل مرتزقة سوريين. (فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة الطيران السورية عام 2016 لتقديمها الدعم المالي لنظام الأسد ونقل القوات السورية).
وذكر هذا التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة في شهر يناير من العام الجاري أن المجندين الروس أُرسِلوا أولًا إلى دوما لتجنيد مقاتلين مقابل 800 دولار شهريًا. ثم حدثت زيادة قليلة، فارتفعت الرواتب الموعودة إلى أكثر من 1000 دولار، وانتقل القائمون على عملية التجنيد إلى جيب صغير في السويداء، مركز الأقلية الدينية الدرزية في سوريا.
وفي مارس، حوَّل المُجَنِّدون تركيزهم إلى منطقة درعا، القريبة من الحدود السورية مع الأردن. وهناك، وفقًا لثلاثة أشخاص تلقى أصدقاؤهم وأفراد من عائلتهم عرضًا للانضمام إلى صفوف المجنَّدين، بدأوا يتواصلون مع ألوية المتمردين السابقين الذين توصلوا إلى مصالحة مع النظام وشكلوا فرعًا خاصًا يسمى «فيلق الهجوم الخامس» وهو أحد التشكيلات الرئيسية المدعومة من روسيا في سوريا.
كان إقناع هؤلاء الشباب أسهل. فعادة ما يتقاضى المتمردون السابقون الذين يتعهدون بالولاء للأسد أقل من 30 دولارًا شهريًّا ليقاتلوا في صفوف النظام. وغالبًا ما يتعرضون لمضايقات من قوات أمن النظام الذين لا يثقون بهم، وبالتالي يفرضون عليهم قيودًا صارمة، ليس فقط فيما يتعلق بالمهام التي يمكنهم تنفيذها، ولكن أيضًا على حركتهم الشخصية.
استغل رجال فاجنر الذين ينظمون عملية الجنيد هذه الأجواء الثقيلة؛ ولم يكتفوا بإغراء هؤلاء المقاتلين بدفع 1200 دولار، ولكن وعدوهم أيضًا بوقف هذه المضايقات، كما يذكر عمران مسلمة، وهو ناشط سوري من درعا، على اتصال وثيق مع القرى التي استهدفتها حملة التجنيد.
أخبروهم بأن المهمة ستكون تأمين حقول النفط والمنشآت الروسية. وقال مسلمة لصحيفة «الإندبندنت»: «إذا وافقوا؛ فإن قوات الأمن ستوقف الانتهاكات بحقهم… لكن عندما وصلوا إلى معسكرات التدريب في حمص، اكتشفوا أنهم سيقاتلون مع حفتر ضد حكومة طرابلس. ولذلك عاد معظمهم إلى منازلهم».
بحلول شهر أبريل، تكررت هذه القصة نفسها في منطقة القنيطرة، المتاخمة للحدود مع إسرائيل. وهناك وافق الرجال على الانضمام إلى صفوف المجندين ليدفعوا الجوع عن بطون عائلاتهم؛ كما تقول إليزابيث تسوركوف، الخبيرة السورية في معهد أبحاث السياسة الخارجية، نقلًا عن بعض من تحدثت إليهم من أبناء هذه المنطقة.
وقالت إليزابيث لصحيفة «الإندبندنت»: «لولا الحاجة الشديدة؛ لما حدث شيء من هذا. لكن هكذا يتصرَّف من تُسَدُّ في وجهه كل الأبواب».
ومع بدء انهيار هجوم حفتر، عزَّز داعموه جهودهم لتجنيد المقاتلين. وبحلول شهر يونيو، خسر قاعدة الوطية الجوية الاستراتيجية، وعلى الأقل تسعة أنظمة دفاع بملايين الدولارات، وبلدة ترهونا، التي تمثل بالنسبة لقواته شريانًا رئيسيًّا لإعادة الإمداد.
في الأسابيع التي سبقت ذلك التدهور الذي منيت به جهود حفتر، ألقى الروس القائمون على عملية التجنيد شباكهم على ريف حماة جنوبي سوريا، ومناطق حمص المجاورة، وكذلك محافظة دير الزور الشرقية، بحسب مصادر محلية؛ علَّهم يظفرون بالمزيد من الوقود البشريِّ للحرب الليبية.
بيدَ أن العملية كانت مشحونة. وفي جنوب حماة، أخبر سكان القرى صحيفة «الإندبندنت» بأن إقناع أي شخص بالانضمام إلى صفوف المجندين كان يستغرق شهرًا. وقال رجل، ما تزال أسرته تعيش في المنطقة، وطلب عدم الإفصاح عن هويته: «في نهاية المطاف، وصل 100 شخص إلى حميميم، (القاعدة الجوية الروسية الرئيسية في سوريا) في 8 مايو، متأهبين للانتشار في ليبيا بعد أيام».
ورجح عدد من المصادر لصحيفة «الإندبندنت» أن يكون هؤلاء المجندون انتقلوا على متن رحلة «أجنحة الشام» التي انطلقت يوم 11 مايو من قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية إلى شرق ليبيا.
تلك الرحلة بعينها كانت محط اهتمام المراقب البحري يوروك إسيك، الذي يتابع رحلات «أجنحة الشام» بين البلدين باستخدام برمجيات مفتوحة المصدر. وقال لصحيفة «الإندبندنت» إن الطائرة هبطت بهدوء في قاعدة الخادم في شرق ليبيا، التي يزعم محققو الأمم المتحدة أنها تابعة للإمارات، وهي وجهة غريبة لشركة طيران تجارية.
لا يُعرَف الكثير عن المكان الذي يقصده هؤلاء المقاتلون بالضبط. وينقل التحقيق عن دبلوماسيين اطلعوا على تحقيقات الأمم المتحدة قولهم: إنهم بمجرد صعودهم على متن الطائرات، بعد مكالمة هاتفية نهائية مع ذويهم في الوطن، تصادر هواتفهم المحمولة.
عند وصولهم إلى وجهتهم، يحصلون على هواتف عادية للاستخدام المؤقت، غير مزودة بخاصية الوصول إلى الإنترنت، حتى يتسنى لهم التواصل فقط مع بعضهم البعض، ولكن ليس مع العالم الخارجي.
المرتزقة الروس
رصد تحقيق «الإندبندنت» نشوب خلافات متكررة داخل قواعد حفتر في أنحاء ليبيا. والمشكلة تكمن – بحسب مراقب عسكري دولي- في أن الجنرال قلَّص دور المستشارين الأجانب الذين نادرًا ما يستمع إليهم. وأضاف المسؤول أن هذا النهج لم يساعده هو وفريقه في استيعاب تفاصيل الحروب الحديثة، وتواترت الأنباء حول تصاعد التوترات بين قيادته ومجموعة فاجنر.
يتابع تحقيق «الإندبندنت»: ظهر المرتزقة الروس لأول مرة في شرق ليبيا في عام 2018؛ لإصلاح المركبات العسكرية. ويشير معظم المراقبين، بمن فيهم محققو الأمم المتحدة، بأصابعهم إلى مجموعة فاجنر، التي نالت لقب «بلاك ووتر» الروسية.
لكن نيل هاور، الخبير المستقل المتخصص في تحليل شؤون المجموعة، يقول إن فاجنر في الواقع مكونة من عدة «شركات عسكرية خاصة غامضة» ظهرت على مدى السنوات القليلة الماضية، وتتمتع بعلاقات مع وزارة الدفاع الروسية.
وتعود نشأة مجموعة فاجنر إلى عام 2014، خلال الحرب التي خاضتها روسيا في أوكرانيا، ونشرت قواتها لأول مرة في سوريا بعد ذلك بعامين. لكن وفقًا لهاور ودبلوماسيين دوليين، «تعرَّض ريشها للقصقصة» على إثر انزعاج الكرملين في فبراير 2018 من تبادلٍ فوضوي لإطلاق النار مع القوات الأمريكية في سوريا.
ولذلك انتشر – إلى جانب فاجنر- العديد من الشركات العسكرية الخاصة الصغيرة في ليبيا، حسبما رصد محققو الأمم المتحدة. وأيًّا كانت الجهة المسؤولة عن تجنيد المقاتلين الروس، فإن ظهورهم الأول كان على الخطوط الأمامية غرب ليبيا في شهر سبتمبر (أيلول)، وفقًا لدبلوماسيين دوليين.
ويستدل تحقيق «الإندبندنت» على ذلك ببطاقات هوية ومتعلقات شخصية روسية عُثِرَ عليها في ساحات القتال المحيطة بطرابلس، تُركِت على ما يبدو أثناء عملية الانسحاب.
ويذكر المراسلان أن الجيش الروسي في مرحلةٍ ما نشر قواته الخاصة في ليبيا، ربما للاضطلاع بأدوار استشارية. وخلُص تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» إلى أن أول ضابط روسي لقي حتفه في ليبيا كان خلال شهر فبراير. ودفن الجندي البالغ من العمر 27 عامًا لاحقًا في مسقط رأسه بروسيا في جنازة شديدة الحراسة.
ولم ترُد وزارة الدفاع الروسية على طلب «الإندبندنت» التعليق على هذه المعلومات. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفى بشدة الاتهامات الموجهة إلى روسيا بأنها تنقل مقاتلين ومعدات إلى ليبيا. وعندما سُئل في شهر يناير عن مجموعة فاجنر، أجاب بأنه إذا كان هناك روس في ليبيا، فإنهم لا يمثلون الدولة الروسية.
بيد أن دبلوماسيًّا غربيًّا استطلعت «الإندبندنت» رأيه يذهب إلى أن نشر مجموعة مثل فاجنر بدلًا من الجيش الروسي ترقى إلى مستوى الاستراتيجية التي لا تكلِّف الكثير من النقود.
تردد صدى هذا التحليل في تأكيد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا لصحيفة «الإندبندنت» أن روسيا نقلت مجموعة مكونة من 14 مقاتلة من طراز MiG-29 وقاذفات Su-24 إلى قاعدة الجفرة الجوية الرئيسية التابعة لحفتر في وسط ليبيا.
وقال متحدث (باسم القيادة): إن واشنطن تعتقد بأن روسيا توظف مجموعة فاجنر في ليبيا كجزء من استراتيجية الكرملين «لتوسيع نفوذها عبر البحر المتوسط والقارة الأفريقية». وأضاف المتحدث أن «روسيا توظف (المرتزقة) الذين ترعاهم الدولة في 16 دولة أفريقية على الأقل؛ لإخفاء دور موسكو المباشر، ولتوفير مساحة معقولة للإنكار».
من يسدد الفواتير؟
يعود مراسلا «الإندبندنت» إلى طرابلس، حيث تنتشر التكهنات حول رواتب المرتزقة الروس. وتنقل الصحيفة عن أحد مقاتلي حكومة الوفاق الوطني قوله، في رسالة كتبها على تطبيق «واتساب»: «لا بد وأنهم يحصلون على مبلغ ضخم. وإلا لماذا يوافقون على خوض غمار هذا القتال؟».
ويقدر محققو الأمم المتحدة أن التعاقد مع جميع المقاتلين لتنفيذ مهمة في ليبيا لمدة ثلاثة أشهر يكلف حوالي 175 مليون دولار. ولا أحد يعتقد أن حفتر بمقدوره سداد هذه الفاتورة بمفرده. ويزعم البعض أن رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين، الملقب بـ«طبَّاخ بوتين» على خلفية عقودٍ قضاها في تزويد الكرملين بالأطعمة، هو المموِّل الغامض لمجموعة فاجنر.
في غضون ذلك، اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبوظبي بتمويل المؤسسة في خطابٍ ناري وصف فيه حفتر بأنه «سيد الصحراء». ولطالما اتهم محققو الأمم المتحدة الإمارات بتقديم دعم مادي لقوات حفتر. وفي وقت مبكر من عام 2017، أفاد تقرير لجنة خبراء بأن الإمارات أرسلت طائرات بدون طيار وطائرات هليكوبتر هجومية ومدرعات إلى ليبيا، تمركزت في قاعدة الخادم الجوية التي أنشأتها أبوظبي.
لم تستجب السلطات الإماراتية لطلب صحيفة «الإندبندنت» التعليق على ما يحدث في ليبيا. بيد أن الإمارات نفت مرارًا تورطها في نقل أسلحة إلى ليبيا، وأكدت أنها تدعم «الحل السياسي السلمي» للأزمة. وفي الأسبوع الماضي، كرر الإماراتيون نفيهم لمزاعم حكومة الوفاق بأنهم متورطون في عمليات حفتر العسكرية.
ومع ذلك، كانت دبي متورطة – بحسب «الإندبندنت»- في محاولة فاشلة أطلقها حفتر العام الماضي لتوظيف مرتزقة غربيين، من بينهم خمسة بريطانيين. وخلُص تحقيق سريٌّ أجرته الأمم المتحدة مؤخرًا إلى أن حفتر، في خضم معركة طرابلس، دفع إلى فريقٍ مكونٍ من 20 مرتزقًا أجنبيًّا ما يزيد على 120 ألف دولار لتشكيل قوة ضاربة بحرية لوقف تدفق الأسلحة التي توفرها تركيا إلى حكومة الوفاق الوطني.
وبالفعل وصل الجنود الغربيون، الباحثون عن الثروة، إلى ليبيا في يونيو الماضي، لولا أنهم اختلفوا مع حفتر، ولاذوا بالفرار من البلاد على متن قارب، بعد أيام قليلة من وصولهم.
وقال دبلوماسيان اطلعا على التحقيق: إن شركتين تتخذان من دبي مقرًّا لهما كانتا تتوليان أمر تدبير هذه الاتفاقات. أما الشركتان فنفيتا ضلوعهما في تلك المحاولة، وأرسلتا بما يفيد ذلك بيانًا إلى صحيفة «الإندبندنت».
ماذا يخبئ المستقبل؟
بغض النظر عمَّن يسدد تلك الفواتير، يخلُص تحقيق الصحيفة البريطانية إلى أن هزيمة حفتر المذهلة وجهت ضربة قاسية لمؤيديه الأجانب الذين يجاهدون الآن لإعادة التفاوض بشأن مواقعهم.
وقال المحلل هاور عن ذلك: «إنهم سرعان ما يدركون أن الأمر ليس بهذه السهولة»؛ ذلك أن ضخَّ بعض المتعاقدين في شرايين الصراع؛ لا يكفي لدفع حفتر سريعًا إلى عتبة النصر.
وينتقل التحقيق للحديث عن مصر، التي لم تتصدَّر المشهد في ليبيا، لكنها عادت إلى الحلبة مؤخرًا باستضافة محادثات سلام أحادية الجانب في القاهرة نهاية الأسبوع الماضي. ومن ثمَّ وافق حفتر على وقف إطلاق نار من جانب واحد؛ شريطة – ويا لها من مفارقة – أن تعيد حكومة الوفاق الوطني المرتزقة الأجانب إلى أوطانهم.
رفضت الحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا عرض حفتر رفضًا قاطعًا، وأعلنت بدلًا من ذلك شن هجوم جديد للاستيلاء على سرت وقاعدة الجفرة الجوية، الواقعة على بعد أكثر من 500 كيلومتر جنوب شرق طرابلس.
ومع احتدام المعارك الدامية في سرت، ظهرت مقاطع فيديو على الإنترنت هذا الأسبوع يُزعَم أنها تُظهِر حشودًا عسكرية مصرية على طول حدودها مع ليبيا، وهو ما فسَّره البعض بوصفه إشارة تحذير إلى حكومة الوفاق الوطني بأن تتراجع.
وينقل التحقيق عن جليل الحرشاوي، خبير الشؤون الليبية في معهد كلينجيديل للعلاقات الدولية، قوله: بموجب الاتفاق المزعوم بين أنقرة وموسكو، لم يكن من المفترض أن يُستولى على سرت بالقوة. إنما توغلت قوات غرب ليبيا عميقًا أكثر مما ينبغي باتجاه الشرق.
وأضاف أن الإمارات العربية المتحدة، وإلى حد ما المملكة العربية السعودية، تمارسان ضغوطًا هائلة على القاهرة؛ لاتخاذ موقف أكثر صرامة». ويُرَجِّح مراسلا «الإندبندنت» أن تكون مصر، التي تشير التقارير إلى أنها لم تكن راضية عن هجوم طرابلس في المقام الأول، تنتظر ما سيتمخض عنه الاتفاق الذي تناثرت حوله الأقاويل بين تركيا وروسيا.
قد يتحدَّد ذلك وفقًا لتحرُّك القوات على الأرض. إذ قال مسؤولون في وزارة الداخلية التابعة لحكومة الوفاق لصحيفة «الإندبندنت»: إنهم لن يتوقفوا حتى يسيطروا على سرت والجفرة، بل إنهم يفكرون في الزحف أيضًا صوب الهلال النفطي الذي يسيطر عليه حفتر.
وقالت الأمم المتحدة إن الأطراف المتحاربة وافقت على استئناف محادثات وقف إطلاق النار، لولا أن القتال المستمر يقوِّض ذلك، بحسب تحقيق «الإندبندنت». ويبقى المرتزقة محاصرين في الوسط. إذ من المقرر أن يصل المجندون السوريون الجدد للانضمام إلى الهجوم الجديد لحكومة الوفاق الوطني في غضون هذا الأسبوع، وفقًا لمصادر متعددة.
لكن تعاقد أبو أحمد، الذي استعرض التحقيق تجربته آنفًا، سينتهي خلال الأيام المقبلة. وخلال الشهر الماضي، انتهى به المطاف من حيث بدأ، وهو الآن يفكر هل سيبقى في ليبيا، حيث توجد فرص أفضل للعثور على عمل مقارنة بسوريا المنكوبة بأزمة مالية ثقيلة الوطأة.
ويختم تحقيق «الإندبندنت» بأنين أبو أحمد المُلْتاع من فَرْط الندم: «كانت سوريا تقتلني، وكنتُ بحاجة إلى المغادرة بأي طريقة ممكنة، ولكن لم تكن لدي أية فرصة. وليبيا كانت هي المخرج الوحيد». وأضاف: « كل ما خطر ببالي حين توجهتُ إلى هنا هو أنني أستطيع كسب بعض المال، وأن أعبر البحر قاصدًا إيطاليا، وهو ما زلت أريد فعله. أوروبا هي أملي الوحيد».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».