«الفكرة وراء التجارة الحرة كانت لحماية الفقراء من سطوة وتغول الأثرياء، إلا أن النيوليبرالية والاحتكارية أدت بطبيعة الحال إلى نقيض الليبرالية تمامًا»
يناقش «ديفيد بويل» كيف تحولت الليبرالية إلى ما يعرف بـ«ما بعد الليبرالية»، وكيف تشبه تلك الأخيرة فترة ما قبل الليبرالية؛ مما ينذر بسقوطها الكبير، يبدو أن الليبرالية الآن تطورت لما يعرف بـ «النيوليبرالية» التي في جوهرها عكس ما تدعو له الليبرالية، وما ظهرت من أجل معالجته بالأساس.
يقول «ديفيد بويل» ـ كاتب التقرير، ومؤلف كتاب «موت الديمقراطية الليبرالية؟»، «كي نفهم لماذا ما تزال الليبرالية على قيد الحياة، على الرغم من انتشار رثاء، وخطاب تأبين الليبرالية، ينبغي علينا أن نرجع إلى ستينات القرن التاسع عشر، حين ألغيت العبودية في اثنتين من كبرى البلاد، على وجه التحديد عام 1863، في واحدة من أعظم صدف التاريخ، عندما أعلن عن تحرير العبيد الأمريكيين؛ ليعلن بعدها بخمسة أسابيع فقط تحرر العبيد الروس.
كان تحرير العبيد في كلتا الحالتين انتصارًا عظيمًا لنشطاء مكافحة العبودية، وها نحن بعد مرور أكثر من نصف قرنٍ على الانتصارات الأولى لتلك الحملات ضد تجارة الرقيق، إلا أنها في نفس الوقت مثلت خيبة أمل كبيرة للـ«راديكاليين»، ففي كلتا الحالتين الأمريكية والروسية، انتقل العبيد من أغلال العبودية إلى براثن الفقر المدقع.
يشرح «بويل» ذلك بأن العبودية في الولايات المتحدة استُبدِلَت بالسخرة وعبودية الدَين، أما في روسيا، ارتفعت قيمة الأراضي ثلاثة أضعاف ونصف قيمتها السوقية، وكان يجب على العبيد الفقراء دفع تلك القيمة لأصحاب الأراضي على مدار 49 عامًا.
ثم بدا واضحًا أن نيل العبيد حريتهم لم يكن كافيًا؛ إذ بجانب عتقهم كان ينبغي أن يُعتقوا من الديون والاحتكار والاستبداد الاقتصادي الذي حل محلها.
وبحلول ذلك الوقت، وضع الاقتصاديون المبادئ الأساسية للتجارة الحرة، لكن كانت الليبرالية هي المسؤولة عن تحويلها إلى غاية سياسية، وعلم «ريتشارد كوبدين» – نائب ليبرالي ممثل عن «روتشديل» – وأكبر المسؤولين عن إلغاء قوانين الذرة في عام 1846؛ مما ساهم في انخفاض أسعار الخبز، أنه بمجرد إعطاء الحرية للعبيد وعتقهم، يمكنك أيضًا إحكام السيطرة عليهم في حريتهم من خلال التحكم في أماكن شرائهم احتياجاتهم، أو أن تثقلهم بالديون.
ويضيف «بويل» موضحًا أن الفكرة الأصلية في التجارة الحرة لم تكن مجرد رخصة بسيطة لأن يفعل المرء ما يحلو له إذا كان ثريًا أو قويًا بالقدر الكاف، إنما صممت لتكون وسيلة للتحرر، فيتاح للسمك الصغير منافسة تحدي الحيتان الكبار، وفرصة ليتحدى الفقير الغني من خلال قوة النهج الجديد الذي يشكل تحولًا ليبراليًا تحرريًا بديلًا وخياليًا في نفس الوقت. فكان بذلك ترياق – مضاد لسموم النظام القديم – لمداواة النمط القديم بأن أرباب الأعمال يمكنهم السيطرة على كل ما يتم دفعه، فضلًا عن الأشياء التي تدفع مقابلها لحاجتك إليها كي تبقى على قيد الحياة.
تحولًا على مدار عقود قليلة
يرى «بويل» أن العقود الأخيرة شهدت تحولًا في مبادئ الاقتصاديات الليبرالية المركزية لتصبح على النقيض تمامًا، صارت بمثابة تصريح يسمح للأثرياء بالاستخفاف بالفقراء، وحجة دفاعية عن الاحتكار، فضلًا عن عقوبة توقيفية استخلاصية تمنع مرور أو صعود؛ فصارت بذلك أداة محتملة للاستعباد.
ولعل المرء يتساءل لماذا إذن؟ فيحاول «بويل» استعراض جزء من التاريخ للتفسير، يقول إن ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لهجمات «فريدريك هايك» في عام 1944 على مركزية التخطيط العلمي، وبدليله الشارح لليبرالية الاقتصادية «الطريق الى سيرفدوم». وهو حسب وصفه ترنيمة على «سيمفونية» فكرة أن الناس يحتاجون إلى شراء ما يريدون حيثما أرادوا، وأن كل شيء آخر ما هو إلا وصفة للطغيان والاستبداد.
أشاد «جون ماينارد»، و«جورج أورويل»، بالكتاب، إلا أن رسالته، فضلًا عن تحالف «هايك» مع «هنري سيمنز» ـ عميد الليبرالية الأمريكية، وعالم الاقتصاد من جامعة شيكاجو – أدت في غضون عقود قليلة إلى ما يعرف بالنيوليبرالية.
حاول كل من «فريدريك هايك» و«سيمنز» جمع المال لإصدار نسخة من كتابه للجمهور الأمريكي، ونجحا بالفعل في جمعه، إلا أن تطورا آخر حدث؛ انتحر «سيمنز» في عام 1946.
يقول «بويل» إنه يبدو أن اثنين من كبار رجال الاقتصاد فشلا أن ينهيا الكتاب، ولم يكتمل إلا بحلول عام 1962، إذ اكمله أحد طلاب سيمنز يدعى «ميلتون فريدمان»، وقام بنشره بعنوان «الرأسمالية والحرية».
يصف «بويل» الكتاب بأنه أحد النقاط الفاصلة التي ميزت بين الليبرالية والنيوليبرالية، وأنه أوضح في كتاب صدر حديثًا له بعنوان «موت الديمقراطية الليبرالية؟» أن فريدمان يقول إن الملكية الفكرية هي أحد أنواع الملكية، ويجب أن يُدافَع عنها على هذا النحو، عوضًا عن حقيقة الأمر في كونها توقيف مؤقت للتجارة الحرة من أجل تشجيع الإبداع والابتكار. لذلك يعد الاتفاق على المسودة كما هو الحال في اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار (TTIP)، والتي تدور فحواها حول التجارة الحرة، هي في الحقيقة تدور حول الدفاع عن الاستثمار والعلامات التجارية الكبرى.
ولعل الأخطر من ذلك أن فريدمان أدعى بأن الاحتكار ليس ذا أهمية، وأنه إن حدث بالأساس فبالتأكيد هو خطأ الحكومة بإفراطها في التشريعات.
يرى «بويل» أن الخطأ الأول الذي أدى لظهور هرطقة النيوليبرالية هو أن الشركات يجب أن تعامل مثل البشر من ناحية الشروط القانونية، فيما كان الخطأ الثاني هو رفض العنصر الأهم والأساسي في الاقتصاد الليبرالي، وهو الدفاع في مواجهة التركيز المفرط للسلطة في السوق؛ إذ يعد ذلك على النقيض تمامًا من التجارة الحرة الليبرالية.
لعل ذلك هو ما يفسر تجاهل النيوليبرالية المتشددة الاحتكارات، بينما كانت تتطور كمشكلة، تزامنًا مع نمو سطوة الاحتكارات على حياتنا، بينما وقعنا في براثن القبضة الاستبدادية للشركات التي صرنا مجبولون على الشراء منها، مثل «فيزا» و«أمازون» و«جوجل»، أو حتى البعض الاندماجات السمية بين الشركات مستقبلًا، مثل «تيسكوفيرجين» – و«ولمارت».
لذا عندما يقول «مارتن كيتيل» إن حقبة ما بعد الليبرالية قد أتت بالفعل، هو لا يقصد الليبرالية السياسية – التي فجاة صارت نقدًا لسلطة الاحتكار– إنما يقصد بدعة ليبرالية جديدة تسمى النيوليبرالية، والتي تكاد تعني العكس تمامًا. وعندما رحب «جون ماكدونالد» بنفس فكرة ما بعد الليبرالية هو في حقيقة الأمر ضل طريقه، فلا فرق بين ما بعد الليبرالية، وما قبل الليبرالية، لا سيما وأن ما يمر به العالم في ما بعد الليبرالية هو نفسه ما عملت التجارة الحرة على معالجته بالأساس.
ويخلص «بويل» في نهاية مقالته إلى أن الليبرالية ما تزال حية ومعافاة، وفي انتظار منافسة اقتصاديات التنوع باختصار؛ لأن هناك قوى احتكارية في انتظار سقوطها.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».