نشر موقع ڨوكس تقريرًا أعدَّته ربيكا هيلويل، المهتمة بتغطية الشؤون التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، عن نقص غاز النيون في جميع أنحاء العالم. وخلُصت الكاتبة إلى أن هناك تداعيات لحرب روسيا ضد أوكرانيا على الرقائق التي تُشغِّل جميع أنواع التكنولوجيا.

غاز النيون وصناعة التكنولوجيا

تستهل الكاتبة تقريرها بالقول: لا يُعد النيون، وهو غاز عديم اللون والرائحة، مثيرًا كما يبدو، ولكن هذا الجزيء المتواضع يؤدي دورًا مهمًا في صناعة التكنولوجيا التي نستخدمها يوميًّا. وعلى مدى سنوات يُصنَّع هذا النيون غالبًا في أوكرانيا، حيث تتمتع شركتان فقط بالتنقية الكافية لإنتاج الأجهزة في معظم أنحاء العالم، وعادةً لا تواجه هذه الصناعة سوى مشكلات قليلة. وعلى الأقل كان هذا هو الوضع حتى غزت روسيا أوكرانيا.

ونظرًا لمواجهة الواقع المدمِّر للحرب توقَّف إنتاج صناعة النيون في أوكرانيا، حيث يقع مقر شركة «إنجاس»، إحدى شركتي النيون الرئيستين في البلاد، بمدينة ماريوبول، التي تعرَّضت لقصف متكرر من جانب القوات الروسية، وتقع حاليًا تحت الحصار. أما الشركة الأخرى، وهي شركة «كروين»، فيقع مقرها في مدينة أوديسا، حيث يستعد مواطنوها حاليًا لصد هجوم روسي. وفي خِضَمِّ ظروف مروِّعة، وارتفاع عدد الضحايا المدنيين، تتمثَّل الأولوية في سلامة الأشخاص الذين يعملون في هذه الشركات، وليس التأثير المحتمل الواقع على شركات صناعة التكنولوجيا.

ويُمثِّل هذا النقص الوشيك في غاز النيون تذكيرًا خطيرًا بأن صناعة هذه التكنولوجيا منتشرة في جميع أنحاء العالم، وفي شركات مختلفة يقع بعضها في بلد واحد. وتميل شركات الأجهزة، مثل «أبِل»، و«سامسونج»، و«إنتل»، إلى الإعجاب بهذا النهج؛ لأنها تشتري مكونات أجهزتها من شركات تصنيع متخصِّصة تابعة لجهات خارجية؛ ما يُمكِّنها من خفض تكاليف العمالة، وتجميع الأجهزة بمستوى عالٍ من الكفاءة. بيد أن ما توضحه الحرب الجارية في أوكرانيا هو أن هذا النظام محفوف بالمخاطر أيضًا، وأن وجود عقبة في إنتاج المكونات أو العناصر الأساسية قد تُعرِّض الوصول العالمي إلى جميع أنواع التكنولوجيا للخطر. ويُعد غاز النيون أحدث مثال على ذلك، ولكن من غير المُرجَّح أن يكون المثال الأخير.

سلسلة توريد هشة للنيون

وينوِّه التقرير إلى أن شركات صناعة الرقائق لا تنتج النيون بصفة عامة، ولكنها تحتاج إلى هذا الغاز من أجل تشغيل أجهزة الليزر ذات الدقة العالية التي تستخدمها في تحويل السيليكون، وهو المكوِّن الأساسي في الرقائق، إلى دوائر كهربائية صغيرة تعمل على تشغيل أجهزة الحاسوب. وتؤدي هذه الليزرات دورًا أساسيًّا في خطوة يُطلَق عليها الطباعة الحجرية، التي تأتي بعد تقطيع أسطوانات سيليكونية طويلة، التي يُطلَق عليها أحيانًا السبائك، إلى شرائح رقيقة من السيليكون، والتي يُطلَق عليها الرقائق، وغالبًا ما تشبه الأقراص الحاسوبية المُدمجة.

Embed from Getty Images

وتستخدم شركات صناعة الرقائق هذه الليزرات لحفر أنماط دقيقة وحسَّاسة على الزجاج، والتي تبدأ عملية تحويل شريحة سيليكون إلى شريحة رقائق. ونظرًا لأن هذه الرقائق صغيرة، ومعقَّدة للغاية، تحتاج شركات التصنيع إلى التحكُّم في الطول الموجي الدقيق للضوء المنبعث من أشعة الليزر، وهذا الأمر هو مهمة النيون.

وليس من السهل الحصول على النيون نفسه؛ إذ عادةً ما يُلتَقط هذا الغاز مباشرة من الهواء، ولذلك تستخدم منشآت التصنيع تكنولوجيا متخصصة لفصل الهواء من أجل تقطير النيون في صورة سائلة؛ ما يسمح بفصله عن الجزيئات الأخرى، مثل النيتروجين والأكسجين. ونظرًا لأن النيون لا يُمثِّل سوى جزء بسيط من الهواء، فإن إنتاج كمية من النيون، والتي تتطلبها صناعة أشباه الموصلات، يتطلب كثيرًا من الهواء. وهذا يعني أن المكان الأكثر ملاءمة للحصول على النيون عادةً ما يكون في منشأة تستخدم التكنولوجيا ذاتها بالفعل لأسباب أخرى. وعادةً ما تتمثَّل هذه الأماكن في مصانع الصلب، الموجودة غالبًا في دول الاتحاد السوفيتي السابق.

وحتى قبل الغزو الروسي، وفقًا للتقرير، ثمَّة أدلة تفيد أن إمداد أوكرانيا بغاز النيون بات ضعيفًا. وعندما ضمَّت روسيا شبه جزيرة القِرم عام 2014، ارتفع سعر النيون بنحو 600%، وبدأت الشركات تتساءل عن قدرة أوكرانيا على إنتاج النيون باستمرار على المدى الطويل. كما برزت مؤشرات مشكلات في الأشهر والأسابيع التي سبقت هجوم روسيا. ومنذ ديسمبر (كانون الأول) 2021 ارتفعت أسعار النيون في الصين، والتي تُعد أيضًا مقرًا لعدد من شركات إنتاج النيون. ونظرًا لاستشعار البيت الأبيض أن روسيا ستنفذ غزوها لأوكرانيا قريبًا في أوائل فبراير (شباط) طلبت الإدارة الأمريكية من شركات صناعة الرقائق البدء في البحث عن مصادر إنتاج النيون خارج البلاد. وبعد نحو أسبوعين بدأت شركة «إيه إس إم إل»، إحدى أبرز موردي الليزر في صناعة الرقائق، في البحث عن أماكن جديدة لشراء النيون أيضًا.

وردًا على ذلك خزَّنت شركات الرقائقَ النيونَ الخاص بها. وفي الوقت الحالي أوضحت رابطة صناعة أشباه الموصلات، وهي المنظمة التجارية الرئيسة التي تُمثِّل صناعة الرقائق الأمريكية، أنه لن تكون هناك «مخاطر فورية لتعطل الإمداد بالرقائق» بسبب الحرب.

Embed from Getty Images

وتقول الكاتبة إنه من المُحتمل أيضًا أن تلجأ هذه الشركات إلى التدابير التي استخدمتها عقب أزمة القِرم، مثل إعادة تدوير النيون الذي تملكه، وضبط أشعة الليزر حتى يدوم النيون لمدة أطول. ولكنَّ المشكلة تتمثَّل في أن هذه الحلول قصيرة المدى، وليس من الواضح إلى متى ستستمر الحرب، وقد ينفد النيون في مرحلة ما.

إعادة تنظيم صناعة أشباه الموصلات

ويلمح التقرير إلى أن سيطرة أوكرانيا منذ أمد بعيد على صناعة النيون تعكس عقودًا من العولمة، وسياسات التجارة الحرة، بل ولادة حاوية الشحن الحديثة، التي مكَّنت الشركات من نقل الأجهزة بتكلفة منخفضة نسبيًا من مصنع إلى آخر أثناء تجميعها. ومن خلال هذا النظام تمكَّنت البلدان في جميع أنحاء العالم من تطوير مجالات إنتاجها ضمن سلسلة التوريد الأوسع نطاقًا، على غرار ما فعلته أوكرانيا في صناعة أشباه الموصِّلات. غير أن هذا النظام محفوف بالمخاطر الشديدة، خاصة أثناء وقوع الأزمات، وآية ذلك أنه قد يجعل العاملين يعانون من ظروف خطيرة، فضلًا عن أنه يعيق وصول الأشخاص إلى التكنولوجيا الأساسية.

وعلى مدار العامين الماضيين أوضح نقص أشباه الموصِّلات في جميع أنحاء العالم تلك المشكلة مرةً بعد أخرى. ويستمر تفشِّي جائحة كوفيد-19 بمنشآت تصنيع الرقائق في إبطاء إنتاج الأجهزة. كما أسفر نقص الطاقة في الصين، واندلاع حريق في اليابان، والأحوال الجوية القاسية في تكساس عن التداعيات ذاتها. والآن تبيع شركات صناعة السيارات سيارات بلا قطع غيار، وتواجه شركات أنظمة الإنذار صعوبات في استبدال أجهزة الرعاية الصحية، وأنظمة الأمان المنزلية المتهالكة، ويرجع كل ذلك إلى عدم وجود رقائق كافية حتى الآن. ومن هذا المنطلق تُعد الحرب في أوكرانيا مجرد مثال آخر على قدرة نقص أحد المكونات أو العناصر غير الملحوظة في كثير من الأحيان على إصابة صناعة التكنولوجيا بأكملها بالشلل، وإخراجها عن مسارها.

وبحسب التقرير تتسابق البلدان للتراجع عن هذا النهج في صناعة أشباه الموصِّلات. وبدأت اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، والاتحاد الأوروبي، في استثمار مليارات الدولارات، أو أنها تخطط لاستثمارها في تطوير قدراتها في صناعة الرقائق. وتدرس الولايات المتحدة حاليًا خُطة لإنفاق أكثر من 52 مليار دولار لتعزيز صناعة الرقائق الأمريكية، التي من المفترض أن تحفز بدء الصناعة التكنولوجية المحلية، وتجعل التكنولوجيا الأمريكية أقل اعتمادًا على البلدان الأخرى. لكنَّ ما أبرزه نقص النيون أيضًا هو أن صناعة الرقائق تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مجموعة واسعة من المكوِّنات. وإذا تمكَّن نقص هذه المكوِّنات من إطالة أمد أزمة الإمداد بالرقائق، فسيؤدي بالتأكيد إلى إعاقة نهضة الرقائق القادمة.

Embed from Getty Images

ويضيف التقرير أنه لن يكون حل مشكلة نقص النيون آخر المشكلات التي تواجهها صناعة الرقائق. وحتى إذا توفَّرت مصادر جديدة للنيون؛ فقد تسفر الحرب المستمرة عن نقص إمدادات حيوية أخرى تُستخدًم في صناعة الرقائق. وتصنع روسيا جزءًا كبيرًا من إمداد الولايات المتحدة بالبلاديوم، وهو معدن يُستخدم في أشباه الموصِّلات والمحولات الوسيطية. كما توفر موسكو كمية كبيرة من النيكل في جميع أنحاء العالم، وهو مادة مهمة لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، و«غاز مركب الفلورين العضوي (C4F6)»، وهو غاز آخر يُستخدَم في صناعة الرقائق. وفي الوقت ذاته دعا ميخايلو فيدوروف، وزير التحوُّل الرقمي في أوكرانيا، بعض شركات الرقائق، بما في ذلك شركة كوالكوم، إلى الانسحاب من روسيا بالكامل.

وتختم الكاتبة تقريرها بالإشارة إلى أن البلدان تريد أن يقل شعورها بالاندهاش في المستقبل، ولهذا السبب تنفق أموالًا طائلة على تطوير نُهُج تتسم بمزيد من الاكتفاء الذاتي والتكلفة. وفي الوقت الحالي تظل سلسلة التوريد العالمية للتكنولوجيا عُرضة للانهيار كبيتٍ من ورق. وهذا يعني أن صناعة الرقائق المُستخدَمة لصناعة كل شيء بداية من أجهزة تنظيم ضربات القلب ووصولًا إلى سماعات الواقع الافتراضي تظل تعتمد على العالم بصفة عامة باعتباره مكانًا مناسبًا، حيث لا تندلع حروب، أو تتفشى جائحات. ولكن لسوء الحظ نحن لا نعيش في هذا العالم.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد