يبدو أن بعض روايات الخيال العلمي تتنبأ مبكرًا بالأحداث التي تقع بعد صدورها بسنوات. أحد الأمثلة اللافتة التي تستشهد بها الكاتبة كيت وايتهيد في مقالها المنشور على صفحات جريدة «جنوب الصين الصباحية The South China Morning Post» التي تصدر باللغة الإنجليزية، هي: الرواية المثيرة التي ألفها دين كونتز في عام 1981، وتحكي قصة فيروس اسمه ووهان-400 يتسبب في انتشار وباء واسع النطاق. تتحدث رواية «عيون الظلام The Eyes of Darkness» عن مختبرٍ عسكريٍّ صينيٍّ في مدينة ووهان، ينتج فيروسًا باعتباره سلاحًا بيولوجيًّا، وسرعان ما يصاب المدنيون بالعدوى عن طريق الخطأ.
تستهل الكاتبة المستقلة كيت وايتهيد مقالها بالقول: تحكي رواية «عيون الظلام»، التي صدرت عام 1981 من تأليف الكاتب الأمريكي دين كونتز، عن مختبر عسكري صيني ينتج فيروسًا باعتبار ذلك جزءًا من برنامجه الخاص بصناعة الأسلحة البيولوجية. كان المختبر يقع في مدينة ووهان، التي سُمِّي الفيروس على اسمها «ووهان-400». فهل كانت هذه الحكاية المثيرة مصادفة أدبية تقشعر لها الأبدان أم نبوءة توقعها الكاتب عن غير قصد؟
تفاصيل «The Eyes of Darkness» تصيبك بالقشعريرة
في «عيون الظلام The Eyes of Darkness»، تسعى الأم الثكلى، كريستينا إيفانز، لاكتشاف حقيقة ما حدث لابنها داني؛ هل توفي أثناء رحلة تخييم، أم أنه لا يزال على قيد الحياة، حسبما تشير بعض الرسائل المثيرة للشكوك. قادها البحث إلى منشأة عسكرية، كان ابنها محتجزًا بداخلها بعد إصابته عن طريق الخطأ بكائنات حية دقيقة مُصَنَّعة داخل مركز الأبحاث في ووهان.
إذا كان هذا الاكتشاف قد أصابك بالقشعريرة، فاقرأ المقطع التالي من الرواية: «في ذلك الوقت، انتقل عالم صيني يدعى لي تشن إلى الولايات المتحدة وبحوزته قرص مرن يحمل بيانات عن أهم الأسلحة البيولوجية الجديدة في الصين وأكثرها خطورة خلال العقد الماضي. يسمونه: ووهان-400؛ لأن الصينيين طوروه داخل مختبر RDNA على مشارف مدينة ووهان».
مصادفة غريبة بين الخيال والواقع
في مصادفةٍ غريبة أخرى، فإن معهد ووهان لعلوم الفيروسات، الذي يضم مختبر السلامة البيولوجية الوحيد في الصين من المستوى الرابع، وهو أعلى تصنيف للمختبرات التي تدرس الفيروسات القاتلة، يقع على بعد 32 كيلومترًا فقط من بؤرة تفشي فيروس كورونا الحالي.
Embed from Getty Images
دين كونتز
وسُلِّطَت الأضواء على افتتاح المختبر الذي أحيط بتدابير أمنية مشددة عبر تغطيةٍ نشرتها مجلة «نيتشر» في عام 2017، التي حذرت من مخاطر السلامة في ظل الثقافة الصينية التي يتفوق فيها التسلسل داخل هرم السلطة على ثقافة الانفتاح وقيمة الشفافية. وتلفت الكاتبة الأنظار إلى انتشار نظريات المؤامرة التي تشير إلى أن فيروس كورونا المرتبط بالتفشي الفيروسي الحالي يبدو أنه من صنع الإنسان، ومن المحتمل أن يكون مصدره مختبر ووهان لعلوم الفيروسات.
هل كان «كونتز» يستشرف المستقبل؟
في رواية الإثارة التي ألفها كونتز، كان الفيروس يعتبر «السلاح المثالي»؛ لأنه يؤثر فقط على البشر. ولمَّا كان ذلك الفيروس لا يستطيع البقاء على قيد الحياة خارج جسم الإنسان لمدة تزيد عن دقيقة؛ لم يكن بحاجة إلى عملية تطهير واسعة النطاق وباهظة التكلفة. وبمجرد القضاء على السكان المستهدفين، كان بمقدور الطرف المنتصر بسط سيطرته على الأرض التي تعرضت للاجتياح.
وتضيف الكاتبة: ليس من قبيل المبالغة وصف كونتز بأنه كاتب غزير الإنتاج. فمنذ كتابه الأول، Star Quest، الصادر في عام 1968، أطلق لخياله العنان وألف عددًا هائلًا من روايات التشويق تجاوزت 80 رواية طويلة و74 رواية قصيرة. لكن ما هي احتمالات أن يكون هذا الكاتب البالغ من العمر 74 عامًا، وهو كاثوليكي متدين يعيش في كاليفورنيا مع زوجته، كان يتنبأ في روايته تلك بما سيحدث في المستقبل الذي أصبح حاضرًا اليوم؟
الكتاب الأذكياء بارعون في مزج الحقيقة بالخيال
يقول ألبرت وان، الذي يدير متجر Bleak House Books لبيع الكتب في سان بو كونج: «إن ووهان كانت تاريخيًا موقعًا يضم العديد من منشآت البحث العلمي، بما في ذلك تلك المختبرات التي تتعامل مع علوم الأحياء الدقيقة والفيروسات». وأضاف: «كان الكتاب الأذكياء، أمثال كونتز، يعرفون كل هذا، واستخدموا هذه المعلومة الحقيقية لنسج خيوط قصة مقنعة وغير مزعجة في الآن ذاته. ومن هنا جاءت تسمية ووهان-400».
يقول الكاتب والمؤرخ البريطاني باول فرينش: «إن العديد من العناصر المحيطة بالفيروسات في الصين تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية، والتي ربما أسهمت بنصيبٍ في بلورة الفكرة داخل مخيلة كونتز». ويضيف: «بالتأكيد، أجرى اليابانيون أبحاثًا حول الأسلحة الكيميائية في الصين، والتي نربطها في الغالب بالوحدة 731 في مدينة هاربين شمال الصين. لكنهم خزنوا أيضًا الأسلحة الكيميائية في ووهان؛ وهو ما اعترفت به اليابان».

التعامل مع انتشار فيروس كورونا – ووهان – الصين
«النبوءات الخيالية» ليست بِدْعًا من الأعمال الأدبية
ويعتقد بيت سبورير، المشرف على دار نشر Blacksmith Books في هونج كونج، أنه اختيار جيد أن ينسج كاتب روايات خيالية خيوط قصةٍ مثيرة عن تفشي فيروس في ووهان الصينية. ويضيف: «إنها تقع على نهر اليانجتسي الذي يمتد من الشرق إلى الغرب.. وتطل على خط السكك الحديدية فائق السرعة الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب.. وتوجد على مفترق طرق شبكات النقل في منتصف هذا البلد.. هل هناك مكان أفضل من هذا لإطلاق العنان لوباءٍ خيالي، أو بالأحرى وباء حقيقي؟».
ويؤكد مؤلف روايات الجريمة تشان هو كي، الذي يعيش في هونج كونج، أن هذا النوع من «النبوءات الخيالية» ليس بِدْعًا من الأعمال الأدبية. ويقول: «إذا أمعنتَ النظر بتأنٍ حقًا؛ فإني أراهن أن يكون بمقدورك استشراف نبوءات لجميع الأحداث تقريبًا. هذا يجعلني أفكر في نظرية القرد اللامحدودة infinite monkey (في إشارة إلى النظرية القائلة بأنه لو أتيح لقردٍ أن يكتب على لوحة مفاتيح لمدة لا نهائية؛ فإنه بإمكانه كتابة أي نص مطلوب).
التنبؤ بغرق تايتانيك
يستشهد تشان بالرواية القصيرة Futility الصادرة عام 1898، التي تروي حكاية عابرة محيط منتظمة غرقت في شمال المحيط الأطلسي إثر اصطدامها بجبلٍ جليديّ. تقول الكاتبة: لوحِظ العديد من أوجه التشابه الغريبة بين السفينة الخيالية – التي تسمى تايتان – وسفينة الركاب الحقيقية المسماة آر إم إس تايتانيك، التي غرقت بعد 14 عامًا من صدور الرواية. وبعد غرق السفينة تايتانيك، أعيد نشر الكتاب مع بعض التغييرات، لا سيما في الحمولة الإجمالية للسفينة.
يتابع تشان: «يحاول مؤلفو الروايات الخيالية دائمًا تخيُّل ما يمكن أن يكون عليه الواقع؛ لذلك من المحتمل جدًا أن يتوصلوا إلى مثل هذه النبوءة. بالطبع، يكون الأمر غريبًا عندما تصطدم التفاصيل، لكني أعتقد أنها مجرد مسألة رياضية».
وتختم الكاتبة مقالها بالإشارة إلى أن موقع أمازون يوفر هذه الرواية حاليًا على أجهزة Kindle مقابل دولار واحد فقط. وتردف قائلة: «ربما، مثلما حدث مع Futility، سيعاد إصدار الرواية بعد إضافة بعض التحديثات لجعلها تبدو كما لو كانت صدى حقيقيًا للتفشي الفيروسي الحالي».
من جوركي إلى ووهان.. حتى الخيال لا يستطيع تجاوز التعقيدات السياسية
في مقال آخر نشرته جريدة جنوب الصين الصباحية الصادرة في هونج كونج بتاريخ 20 فبراير (شباط) 2020، تستدرك الكاتبة كيت وايتهيد: لكن اسم ووهان لم يرِد في النسخة الأصلية من رواية «عيون الظلام». بل كانت الطبعة الأولى من الرواية، التي نشرها المؤلف باسمه المستعار Koontz Leigh Nichols، تذكر اسمًا آخر للفيروس هو: جوركي-400، وكان من صنع الروس، حين انفلت من عقاله في مدينة جوركي التي سُمِّيَ باسمها.

التعامل مع انتشار فيروس كورونا – ووهان – الصين
تغيَّر اسم الفيروس إلى ووهان عندما أعيد إصدار الرواية في طبعةٍ مزيدة ومنقحة باسم مؤلفها الحقيقي كونتز في عام 1989. وذلك العام الذي أعيد فيه إصدار الرواية يحظى بأهمية (1989)؛ لأنه هو العام ذاته الذي وضعت فيه الحرب الباردة أوزارها. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، لم تعد تلك البلاد ترتدي ثوب الشيوعية.
تشير الكاتبة إلى أنه لم يكن من الحنكة في ذلك المناخ، أن يشير مؤلف أمريكيّ بأصابع الاتهام المصنوعة من أنامل الخيال إلى روسيا، لذلك كانت رواية «عيون الظلام» بحاجة إلى شريرٍ جديد تُحَمِّله مسؤولية تفشي الوباء الفيروسيّ. لكن لم يكن هناك الكثير من الدول التي تضم مرافق لتصنيع الأسلحة البيولوجية – ربما فرنسا وبريطانيا واليابان – ومعظمها، حسب اعتقاد الولايات المتحدة، كانت دولًا طيبة.
تقول جيني سميث، المؤسسة المشاركة لمتجر بيع الكتب Bleak House Books في هونج كونج: «الصين هي المكان الوحيد الذي يتبادر إلى ذهني أن يكون لديه برنامج نشط، ومن المحتمل أن كانت هناك شكوك عميقة (في الولايات المتحدة) بشأن إخفاء الصين الكثير من الأشياء في تلك الفترة».
وتضيف جيني، التي تدرس التاريخ الروسي وتناولت قضية التكنولوجيا السوفيتية في رسالتها لنيل درجة الدكتوراة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة: «كان هذا في أعقاب المظاهرات الطلابية التي اندلعت في عام 1989، والقمع الدموي الذي تلا ذلك في تيانانمن. كانت فترة تدور فيها الشائعات حول التسريبات والتستر على منشآت الأسلحة البيولوجية، وكانت الولايات المتحدة على دراية أن تلك الشائعات تُوأد في مهدها».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».