تُظهر لعبة الحرب الجديدة «غاندي» أن الاحتجاج السلمي أقوى من السيف. 

كتب مايكل بيك الكاتب في شؤون الدفاع، تحليلًا حول لعبة الحرب «غاندي» التي تدور حول وسائل الاحتجاج السلمي التي لجأ إليها المهاتما غاندي في استقلال الهند عن التاج البريطاني عام 1947م، ويتساءل الكاتب ما إذا كانت وسائل الاحتجاج السلمي يمكن أن يكتب لها النجاح الآن.

علوم الثورة

منذ 3 سنوات
«ذي أتلانتك»: كيف تنتهي الاحتجاجات الجماهيرية؟

أمريكا 2020م، أم الهند 1947م.. السبب مختلف والصورة واحدة

يواصل الكاتب: المحتجون ينطلقون في الشوارع، والشرطة تطلق النار على المتظاهرين، والبلاد تمر بأوقات ملتهبة، حتى إن البعض يطالب بتدخل الجيش. هل هي أمريكا في عام 2020م؟ لا، بل هي الهند في عام 1947م.

تستدعي صور المتظاهرين في الولايات المتحدة وهم يواجهون قوات الشرطة المدججة بالسلاح وقوات الحرس الوطني ذكرى الاضطرابات التي وقعت قبل 75 عامًا، عندما سعت الهند إلى الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية. صحيح أن إحداها كانت عبارة عن حملة لكسر أغلال الاستعمار، بينما كانت الأخرى صراعًا من أجل الحقوق المدنية والمساواة الاقتصادية، لكن النضال الحالي يواجه معضلة مماثلة: العنف أم الاحتجاج السلمي؟

بالنسبة لأنصار الاحتجاج السلمي، يعد اللجوء إلى العنف ضد سلطة الدولة – سواء كانوا الجنود البريطانيين، أم شرطة مدينة مينيابوليس – ليس مجرد خطأ أخلاقي فحسب؛ بل إنه انتحار ضد عدو يتمتع بقوة سلاح متفوقة للغاية.

غير أنه بالنسبة للنشطاء الأكثر راديكالية، يعد الاحتجاج السلمي عديم الجدوى؛ فهو بالنسبة لهم، لا يعدو أن يكون دعوة للقتل أو الضرب أو التجاهل من قبل هيكل سلطة راسخ لن يستجيب للنداءات، ولكن قد يستجيب للقوة.

ولكن هل الاعتصام أقوى من السيف؟ في عام 1947م، كان الجواب؛ نعم. كان هذا هو العام الذي صعد فيه الجنود والإداريون البريطانيون – الذين حكموا بعض أو كل الهند لما يقرب من قرنين من الزمان – على متن السفن للعودة إلى وطنهم بريطانيا.

من بين أسباب انسحاب بريطانيا

يعزو الكاتب انسحاب بريطانيا لأسباب عديدة، بما فيها الإنهاك المالي من خوض حربين عالميتين، وكذلك نفور عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية من الإمبريالية. لكن ربما كان السبب الأكبر هو نضال المهاتما غاندي وحركة الاحتجاج القائمة على الاحتجاج السلمي التي قادها.

وحذَّر غاندي من أن «مئة ألف من الإنجليز لا يمكنهم ببساطة السيطرة على 350 مليون هندي، إذا رفض هؤلاء الهنود التعاون». وكان على حق؛ فقد استسلمت الإمبراطورية التي هزمت نابليون وهتلر، للمسيرات والإضرابات عن الطعام التي قام بها أناس غير مسلحين يرتدون ملابس بسيطة ومتواضعة.

Embed from Getty Images

هل في ذلك دروس لأمريكا اليوم؟ تطرح لعبة الحرب «غاندي» من شركة «جي أم تي جيمز» بعض الإجابات، أو على الأقل تقدم تأطيرًا فريدًا للسؤال.

الاحتجاج السلمي هو حرب بوسيلة أخرى

«غاندي» هي لعبة (محاكاة) حرب، لكنها لعبة غريبة؛ إذ إنها تقلب القول المأثور الشهير لكلاوزفيتز، فبدلًا من القول بأن الحرب هي سياسة بوسائل أخرى، يصبح الاحتجاج السلمي هنا حربًا بوسائل أخرى.

يتحكم اللاعبون في واحدة من الفصائل الأربعة المتنافسة: حكم التاج البريطاني، أو المؤتمر الوطني الهندي، أو الرابطة الإسلامية، أو الثوار (مما يعكس مجموعة غير منظمة من الجماعات التي فضلت إطاحة الحكم البريطاني بالعنف). يقتصر المؤتمر والرابطة الإسلامية على الاحتجاج السلمي، بينما يمكن لحكم التاج البريطاني والثوريين استخدام القوة. ومن جانبهم، يمكن للثوار مهاجمة كل من البريطانيين وفصائل المعارضة الاحتجاج السلمية.

تتمتع الفصائل الأربعة بقدرات ونقاط ضعف – والأهم من ذلك – أهداف مختلفة. يريد البريطانيون دعم غالبية السكان، بينما يريد المؤتمر قلب الرأي العام ضد حكم التاج البريطاني بما يكفي لجعل الهند عصية على الحكم. وتريد الرابطة الإسلامية الشيء نفسه، باستثناء أنها تحاول أيضًا تكوين دولة مسلمة منفصلة. أما بالنسبة للثوار، فإن هدفهم هو خلق كوادر حرب عصابات لإثارة تمرد مسلح جماعي.

لعبة الحرب «غاندي»

يواصل الكاتب مع لعبة الحرب «غاندي» ويقول: بإيجاز، تصور لوحة «غاندي» سلسلة من الأقاليم الريفية والمدن الكبرى مرتبطة بخطوط السكك الحديدية، التي كانت الشرايين الرابطة للهند البريطانية. تضم هذه المدن والأقاليم السكان الذين تشكل قلوبهم وعقولهم مفتاح النصر؛ يمكن أن يكون هؤلاء السكان مؤيدين لحكم التاج البريطاني، أو مناهضين، أو محايدين.

تُمكِّن السكك الحديدية القوات والنشطاء من التحرك في أرجاء الخريطة، فضلًا عن توفير الموارد الاقتصادية التي تدعم الحكم البريطاني. في كل دور، يسحب اللاعبون البطاقات ثم ينقلون الرموز التي تعكس القوات والنشطاء وأفراد حرب العصابات أثناء أدائهم مهامًا مختلفة مثل: اعتقال النشطاء، أو تنظيم مظاهرات مناوئة للحكومة.

يقول الكاتب: دخلت في لعبة الحرب «غاندي» ضد ثلاثة أصدقاء في دور التاج البريطاني في الأعوام بين 1930م و1947م. تبدأ اللعبة وأجزاء كبيرة من الهند، لا سيما بومباي (مومباي الآن) والبنجاب، وشرق البنغال، تعج بنشطاء المعارضة. تنتشر في جميع أنحاء الهند أفواج من الجنود البريطانيين وجنود سيبوي sepoy (القوات الهندية)، مع تركزها في كلكتا (كولكاتا) ودلهي.

Embed from Getty Images

للوهلة الأولى، تبدو الإمبراطورية مطلقة القوة. ولكسب ولاء السكان، يمكن للتاج البريطاني أن يمارس سياسة العصا والجزرة التقليدية، التي تحافظ بها الإمبراطوريات على حكمها. يمكنه إنفاق الموارد لكسب الدعم السياسي للمدن والأقاليم. وإذا لم ينجح ذلك، فلديه أفواج من الجنود البريطانيين والهنود، الذين يمكن إرسالهم لإخماد الاضطرابات. في البداية، تبدو الاستراتيجية السلمية واضحة: استنزاف الموارد النادرة لشراء دعم الجمهور، بينما يجرى إرسال القوات لاعتقال النشطاء والقضاء على أفراد حرب العصابات. وعليك أن تفعل ذلك بسرعة قبل أن تتزايد المعارضة، وقد يحتفظ الحكم البريطاني بالجوهرة في تاج الإمبراطورية.

ولكن سرعان ما كانت هناك حالة إيقاظ  فظَّة: وهي الاختيار بين العنف والاحتجاج السلمي، الذي يمثل معضلة للحكومة بقدر ما يمثلها بالنسبة للمحتجين.

وهنا تتسم لعبة (محاكاة) الحرب «غاندي» بوجود مستوى ضبط النفس الذي يعكس رغبة البريطانيين في استخدام القوة. وفي كل مرة تفرق القوات الاحتجاجات أو تعتقل النشطاء، ينخفض ​​مستوى ضبط النفس. مع انخفاض المستوى، ترفض القوات – التي تشكل الجزء الأكبر من قوات حكم التاج البريطاني – إطلاق النار على مواطنيهم. بالطبع، يمكن للحكومة أن تعلن الأحكام العرفية لفض الاحتجاجات، ولكن تكلفة ذلك ستكون إثارة الاضطرابات بين الجماهير التي تحاول بريطانيا كسبهم.

اللجوء إلى العنف والحلقة المفرغة

يقول الكاتب: عندما تمرد البحارة الهنود في الواقع في عام 1946م، كان ذلك علامة على أن بريطانيا كانت تفقد السيطرة على قواتها الأمنية. وكما يمكن أن تلاحظ الشرطة في مينيابوليس، أنه كلما زاد العنف الذي تستخدمه الحكومة في «غاندي»، زادت تكلفة اللجوء إلى العنف في المستقبل.

ثم بحلول نهاية المباراة، كان حكم التاج البريطاني يترنح؛ إذ انتشرت رموز المعارضة عبر الخريطة مثل الحصبة، وتوقفت السكك الحديدية عن العمل، وجرى التغلب على قوات الأمن. ومع سيطرة الاضطرابات على المزيد من الأقاليم والمدن، أصبحت الموارد المالية للتاج البريطاني أكثر استنزافًا؛ مما أدى إلى حلقة مفرغة ضعفت مع كل موجة تالية من القمع.

لا يعني ذلك أن الخيارات كانت أسهل بالنسبة للجماعات المؤيدة للاستقلال. فقد أنقذ الاحتجاج السلمي المؤتمر والرابطة الإسلامية من معارك دامية ضد الجنود والدبابات. وكان الثمن هو قبول إمكانية استخدام البريطانيين للقوة كما يحلو لهم، دون خوف من الانتقام العنيف. حتى بالنسبة للثوار، وهم نوع من الفيتكونج على ضفاف نهر الجانج، لم يكن العنف حلًّا مضمونًا. كان بإمكانهم شن هجمات مزعجة، لكن حكم التاج البريطاني كان أقوى من أن يُطرد تحت تهديد السلاح.

Embed from Getty Images

وبحلول نهاية اللعبة، أثبت احتكار الحكومة شبه الكلي للقوة أنه غير قادر على هزيمة النضال والاحتجاج السلمي الذي حظي ببطء بالدعم الشعبي –  في إقليم تلو إقليم ومدينة بعد أخرى – حتى أصبحت الهند عصيَّة على الحكم. كان الموت البطيء هو الذي ترك حكم التاج البريطاني في حالة شلل.

ومن المفارقات أنه في حين أن «غاندي» تصور حركة استقلال لاعنفية إلى حد كبير، فإنها لعبة حرب في حقيقتها. إن تنظيم الاحتجاجات والإضرابات – أو تفريقها – ينطوي على القدر نفسه من الاستراتيجية والتكتيكات التي تنطوي عليها أي حملة عسكرية. التخصيص المناسب للموارد والتوقيت المثالي والمرونة، والقدرة على التكيف عندما يعترض العدو خططك، سواء كان الأمر يتعلق بجيش نابليون في واترلو، أو أتباع المهاتما غاندي في دلهي، تنطبق عليه المبادئ نفسها.

استخدام القوة بين دولة وأخرى

يتساءل الكاتب: هل يمكن أن تنجح استراتيجية غاندي في عالم اليوم؟  تشير اللعبة إلى أن الإجابة هي نعم، إلا أنها تتطلب جهدًا طويلًا وصبرًا، وتحتاج أيضًا إلى وجود قيود سياسية وأخلاقية على الحكومة. لم تستطع بريطانيا في عام 1947م، أن تستخدم قوتها العسكرية الآخذة في التلاشي، وإن كانت قوية ضد المتظاهرين العزل. بينما الصين، وهي مكان آخر يمكن أن تندلع فيه الاحتجاجات، قد لا تعزف مثل بريطانيا عن استخدام القوة.

ولكن الأمر الذي ينذر بالسوء بالنسبة لحركة الاحتجاج الحالية في الولايات المتحدة هو أن اللعبة تسلط الضوء أيضًا على مشكلة أخرى: ماذا يحدث عندما تنقسم المعارضة المناهضة للحكومة نفسها إلى فصائل متنافسة؟  في حالة «غاندي» يتنافس المؤتمر والرابطة الإسلامية والثوار بعضهم ضد بعض، وكذلك ضد الحكومة، إنهم ينتزعون أنصار بعضهم بعضًا ويقوِّضون حملات بعضهم بعضًا.

وبهذا المعنى، تكون محصلة لعبة «غاندي» صفرًا؛ إذ يمكن أن يكون هناك فائز واحد فقط، مما يعني أن فصائل المعارضة يمكنها التعاون تكتيكيًّا، ولكن يجب أن تنقلب في النهاية بعضها على بعض. يمكن للمرء أن يجادل بأن فكرة «الفائز يأخذ كل شيء» هي فكرة متضمنة في «غاندي» لأنها لعبة، والألعاب تتطلب فائزًا.

Embed from Getty Images

لكن بالنظر إلى طيف المتظاهرين في المدن الأمريكية، من الطبيعي أن نتساءل عما إذا كانت المعارضة قادرة على توحيد صفوفها. ماذا يحدث إذا قرر الليبراليون البيض، والنشطاء السود، والمناهضون للفاشية، ومؤيدو الحركات النسوية، والفوضويون أن النظام القديم يجب أن يرحل، لكن لم يستطيعوا الاتفاق على الشكل الذي يجب أن يبدو عليه النظام الجديد؟

يختم الكاتب مقاله قائلًا: حققت الهند استقلالها عن بريطانيا، في الجانب الأكبر من خلال وسائل لاعنفية. ولكن سرعان ما تبع الاستقلال صراع عرقي وديني أودى بحياة ما يصل إلى مليوني شخص، وشرَّد ملايين آخرين، وترك شبه القارة الهندية مقسمة إلى دولتين معاديتين: هندوسية وإسلامية. في الولايات المتحدة، يبدو أن عنفًا بهذا الحجم غير محتمل، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت الإصلاحات المقترحة ستلبي مطالب العدالة. وحتى الهند اليوم ابتليت بأحداث شغب معادية للمسلمين يمكن أن تكون نذير حرب أهلية أكبر. ومع ذلك، فإن محاكاة الحرب «غاندي» – تمامًا مثل حياة الرجل – تقدم لمحة عن كيفية انتصار الاحتجاج السلمي.

دولي

منذ 3 سنوات
«و. بوست»: كيف تعرِّض «الصحافة البيضاء» حياة السود في أمريكا للخطر؟

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد