عبر القصة الفريدة لفيلسوفة العلوم ماري هيس، تستكشف عالمة الإدراك والفيلسوفة التجريبية، آن صوفي بارويتش، أسباب غياب أسماء النساء المفكرات حتى من التاريخ المعاصر، وتطرح في مقالها المنشور ضمن مجلة «إيون» صورةً بديلة لما كان لفلسفة العلوم أن تكونه لو أعطيت مفكِّراته حقُّهن من الذكر.
ماري هيس: نسيانٌ جماعيٌّ
هل تذكر اسم العالمة الرائدة في أبحاث الحمض النووي الريبزي المرسال (mRNA) الذي أحدث ثورةً طبية قادت حملة لقاحات كوفيد-19 الأخيرة؟ أو الراهبة الكاثوليكية من القرن السادس عشر التي اقتبس منها رينيه ديكارت -وفقًا للكاتبة- تجربة شيطان الشر الفكرية محققًا بها مكانته في الذاكرة الجمعية أبًا للفلسفة الحديثة؟
قد يصعب على أيٍّ منا تذكر أيٍّ من الاسمين، رغم أن اسمَي هاتين المرأتين ظهرا مؤخرًا في الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي وفي الأوساط الأكاديمية، يبقى التذكر صعبًا، هذا ما تقوله الكاتبة: حتى مع الاعتراف والإشادة التي تحظى به المفكِّرات اليوم، والذي يُعد نسبيًّا أفضل مما مضى، لكن كم تبقى أسماؤهنَّ في ذاكرتنا فعلًا؟
تقول الكاتبة: آليات النسيان الجماعي مثيرة ومهمة، تحدد ممارساتنا في كتابة الجينالوجيا من سيجري تذكُّره ومن سيذهب للنسيان. وهو أمر يحمل طابع التصادفية سواء عن قصد أو عن غير قصد، وإذا بقيت أسس نقلنا محكومة بالإغفال الإستراتيجي سيستمرُّ المحو الانتقائي للأسماء.
ووفقًا للكاتبة هناك العديد من الأسماء التي اختفت من التاريخ وكانت أغلبها أسماء نسائية، وليس ذلك بمحض الصدفة وفق رأي الكاتبة ووفقًا لما طرحه المؤرخ ديفيد نوبل في كتابه «عالم بلا نساء» (1992)، والذي قال فيه إن الغياب الساحق للمرأة في التاريخ الفكري هو غياب (ممنهج) ولا ينفع التذكير المتقطع ببعض الأسماء البارزة في درء تلاشي النساء من التاريخ المستقبلي، لأن ما يتسبب في نسياننا الجماعي حقًّا هو الإزالة التدريجية لهذه الأسماء من المحادثات الجارية وفق ما يرى ديفيد نوبل.
وترى الكاتبة أنه لقرون، بدت العالمات مُحاطات بالعزلة خلال حياتهنَّ. تُظهر صور الاجتماعات الأكاديمية القديمة بالأبيض والأسود امرأة استثنائية تجلس بإحراج إلى حدٍّ ما بين مجموعات الرجال. ومع ذلك، ليست هذه العزلة من النوع الذي سيؤدي قريبًا لاختفائهنَّ من الذاكرة الجماعية.
عُزلة المُفكِّرة
اشتهرت هيس بموقعها في فلسفة العلوم خلال حياتها، ودعمت خلفيتها التعليمية في المجالات العلمية اهتمامها الفلسفي بفهم كيفية عمل العلم والتفكير العلمي حقًّا. فبعد حصولها على درجة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة إمبريال كوليدج في لندن، أكملت درجة الدكتوراه في المجهر الإلكتروني قبل أن تتابع دراسة التاريخ وفلسفة العلوم في جامعة كوليدج أيضًا، حيث حصلت على درجة الماجستير هناك لتُصبح مُحاضرة في الموضوع نفسه لاحقًا. في عام 1960، أصبحت هيس مُحاضرة ثم بروفيسورة في قسم تاريخ وفلسفة العلوم في جامعة كامبريدج، وبعدها إلى التقاعد والوفاة.
صورة ماري هيس من مكتبة جامعة كامبريدج، المصدر: موقع المكتبة
تقول الكاتبة : تُعد المناصب بجامعة كامبريدج من المناصب المرموقة اليوم، لكن لا يغرنَّك هذا «البرستيج» المهيب عن إدراك حقيقة صعوبة الدخول إلى الأوساط الأكاديمية للمفكرات آنذاك. وتستدلُّ الكاتبة بإشارة الفيلسوفة مارجريتا هالبرج إلى الأمر، وقد أجرت مقابلات متعددة مع هيس بنفسها: «ومما يثير الاهتمام، أنه عندما تقدمت (هيس) إلى الوظيفة في قسم تاريخ وفلسفة العلوم، اختيرت سيدتان ماري هيس ومارجوري جرين، وهي فيلسوفة الأفكار التي تدربت أيضًا في البيولوجيا. اختيار سيدتين في القائمة المختصرة لمنصب فلسفة العلوم في كامبريدج كان أمرًا مفاجئًا وخارجًا عن المألوف تمامًا، وفي مقابلاتي مع هيس عقَّبت على ذلك بالقول: «يشير هذا إلى الحداثة والمرتبة المنخفضة نسبيًّا للموضوع في كامبريدج».
وكما هو متوقع، عانت هيس من الأوقات الصعبة في الجامعة، فكما تنقل الكاتبة عن المؤرخ السير ريتشارد إيفانز في نعيه لهيس ضمن صحيفة «التايمز»: «استُبعدت ماري من الحياة الجامعية لمجرد أنها كانت امرأة». وفي إحدى الصور المُلتقطة في الندوة التاسعة لجمعية كولستون للأبحاث في بريستول عام 1957، يظهر 42 فيزيائيًّا وفيلسوفًا جميعهم من الرجال باستثناء هيس.
قرب نهاية حياتها المهنية، بدأت تختفي من المحافل العامة. تقول الشائعات إن انسحابها ترافق بجوٍّ ملموس من خيبة الأمل. أمضت هيس وقتًا أطول في زراعة حديقتها بمقابل التخفيف من الانخراط في الظهور الفكري. وفي وقت متأخر من حياتها بدأ الكفاح مع التعرف إلى آثار مرض الزهايمر الذي داهمها.
تركت هيس مجموعة متنوعة من الأعمال البارزة في مجالها: القوى والحقول (1961)، الثورات وإعادة البناء في فلسفة العلوم (1980)، وبالتشارك مع مايكل أربيب كتاب بناء الواقع (1986). وكان أبرز أعمالها الكتاب التحليلي الأنيق المعنيَّ بدور الاستعارات في التفكير العلمي: نماذج وتماثلات في العلوم (1963).
ووفق رأي الكاتبة: كان كتاب هيس سابقًا لعصره، وهو اليوم غائب عن المطابع. أصدر توماس كون كتابه ذائع الشهرة «بنية الثورات العلمية» في عام 1962، أي قبل عامٍ واحد من نشر كتاب هيس، وصار للكتاب مكانته الكلاسيكية في هذا الحقل. تعتقد الكاتبة أن كتاب هيس كان يستحق التقدير الأكبر، قائلةً إن رأيها لا يستند لذوقها أو تفضيلها الشخصي، بل لمحاججةٍ تاريخية معنيَّة بآليته للذاكرة والنسيان الجماعي.
هيس تلتفتُ إلى جانبٍ جديد
تقول الكاتبة: جاءت هيس بمنظورها المختلف في وقتٍ انغمس به معاصروها بتفكيرٍ أحاديِّ الطابع، متمحور حول المنطق والتسويغ للمعرفة العلمية، وفكرة أن عقلانية الفلاسفة هي الحاكمة لأساس العلم. وكانت هذه وجهة النظر التي ثار فييرابند ضدها أيضًا، ولذلك تجد الكاتبة أنَّ ردَّة فعل فييرابند تجاه هيس مؤسفة، كيف لم يُدرك الجوانب الجديدة التي يُقدمها طرحها؟ تتساءل الكاتبة: هل انبثقت عداوة فييرابند من رغبته في كسر التقاليد؟ أم كان -ربما- نوعًا من الغرور الوقائيِّ الذي يدفع بصاحبِه لرفض الأصوات الناقدة؟

تظهر الفيلسوفة ماري هيس وحيدةً ضمن مجموعة من الفيزيائيين والفلاسفة الرجال. مصدر الصورة: إيون
وتضيف الكاتبه: في الواقع، تميزت أفكار هيس الفلسفية بحداثتها اللافتة للنظر. وُصفت هيس بأنها «مُعتدلة» بين باحثي الوضعية المنطقية «المحافظين» والفلاسفة «الراديكاليين» مثل فييرابند وتوماس كون في الأدب التاريخي، لكن ترى الكاتبة أن في هذا دلالة على سوء فهمٍ كبير فيما يتعلق بجدَّة أفكارها.
كما ابتعدت هيس عن (الهوسِ) في مسائل تعليل المعرفة العلمية، لتسلِّط الضوء بالمقابل على حاجتنا إلى التفكير في طريقة ابتكارها. كيف يطور العلماء أفكارهم حول العالم ويكتشفون أشياء جيدة؟ بحثت هيس في استخدام الاستعارات والتماثلات في النماذج العلمية، وعبر تحليل الاستعارات أداة مفاهيمية، أو كما تصفها الكاتبة «سقالة إدراكية»، أُعيد وصف طبيعة الموضوع العلمي من خلال مقارنة خصائص الاستعارة بالظاهرة المستهدفة.
تذكر الكاتبة مثالًا التماثل بين كرات البلياردو وجزيئات الغاز، هناك جانب إيجابي في هذا التماثل يتيح مقارنة خصائص كرات البلياردو التي نعرفها وتمكننا من وصف جزيئات الغاز. بالمقابل، يظهر الجانب السلبي لهذا التشبيه من خلال الخصائص التي لا تتطابق مع جزيئات الغاز حتمًا. من جهة أخرى، اهتمَّت هيس بوضوح بأهمية التماثل المحايد، أي خصائص كرات البلياردو التي قد تنطبق أو لا تنطبق على جزيئات الغاز.
أدركت هيس أن الاستعارات بتماثلاتها الحيادية تؤدي دور الأداة الإدراكية التي تساعد في التعرف إلى الأبعاد غير المعروفة للظواهر العلمية. لم تشر هيس إلى الاستعارات بوصفها أدوات إدراكية، فهذه مصطلحات حديثة كما هو معروف. ومع ذلك، تميز عمل هيس بانخراطه المحموم في الظروف المعرفية الضالعة في عملية خلق المعرفة العلمية.
برز الأسلوب الفلسفي الكلاسيكي في عملها في الآن نفسه. طُرِح كتاب «النماذج والتماثلات» بصورة جزئية على هيئة حوار أفلاطونيٍّ بين عالمين من معتقدين مختلفين: عالم كامبليّ (إحالةً لنورمان روبرت كامبل، الذي دافع عن الدور الحاسم للنماذج في التفكير العلمي) ودوهيميّ (إحالةً لبيير دوهيم، الذي فضَّل منطق النظريات العلمية بوصفها السمة الرئيسية للوضع الخاص للمعرفة العلمية).
في نظر هيس، لم تكن الاستعارات تمثيلات سلبيَّة للأشياء، بل أدوات إدراكية شكَّلت التفكير العلمي بفعاليَّة: «ما يزال ضروريًّا للأسف القول بأن الاستعارة أكثر من مجرد أداة أدبية، وأن لها آثارًا معرفية تعد طبيعتها موضوعًا مناسبًا للنقاش الفلسفي».
ترى هيس أن القوة المعرفية للاستعارات تكمن في قدرتها على خلق التشابه. استخدام الاستعارات فعل منخرط في خلق – وليس اكتشاف- التشابهات بين الاستعارة والنظام الماديِّ للهدف. هذا الخلق المجازيُّ المشترك يتشكل حتمًا من خلال السياق الثقافي: «ليست هذه خاصةً بمستخدمي اللغة الفرديين بل شائعة بقدرٍ كبير في مجتمع لغةٍ معين، ويفترضها مُسبقًا المتحدثون العازمون على أن يُفهموا في ذلك المجتمع».
وتستدرك الكاتبة: مع ذلك، لم يكن تركيز هيس على الدور المعرفي التأسيسي للأدوات المفاهيمية في التفكير العلمي مناهضًا للواقعية فتقول: «لأن العقلانية تتكون فقط من التكيف المستمر للغتنا مع عالمنا المتوسع باستمرار، والاستعارة إحدى الوسائل الرئيسية التي يتحقق ذلك من خلالها».
وتضيف الكاتبة: جاءت أفكار هيس في الوقت المناسب تمامًا. يسلط فلاسفة العلم المعاصرون الضوء على الممارسات التي تتعلق بتوليد المعرفة العلمية، وخاصة دور النماذج والإستراتيجيات المعرفية مثل الاستعارات. ومع ذلك، لا تُذكر هيس في هذه النقاشات كما قد يتوقع المرء أو يأمل. تقول الكاتبة إن باحثين قلائل نشروا مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي اكتشافهم الحديث لأعمالها بالصدفة، وتحدثوا عن دهشتهم وافتتانهم بصرامة هيس وذكائها وجاذبيتها الحداثية الخاصة، واعترف هؤلاء الباحثون بأنهم لم يسمعوا بها من قبل.
توفيت هيس منذ سنوات قليلةٍ -في عام 2016- ومع ذلك بالكاد تُذكر أعمالها هذه الأيام. وعلى الرغم من بروز شخصها بين معاصريها، فإن إرثها الفكري سرعان ما انزلق إلى غياهب النسيان في مدةٍ أقلِّ بكثير من مجرد مرور جيلٍ واحد.
تغييبٌ متسلسل
تعود الكاتبة إلى لقائها الأول مع هيس في كتاب فييرابند، فالأمر يبدو مختلفًا الآن تمامًا. تجرَّأت هيس على (تحدِّي الرجل)؛ إذ طرحت هيس سؤالًا مشروعًا: لِمَاذا لم تُستخدم الأطر الميتافيزيقية المحددة – التي تُعد قديمة جدًّا اليوم- على نحوٍ أكثر إنتاجية في الحديثِ مع وجهات النظر التي قدَّمها العلم الحديث. تحدَّت هيس فييرابند بصفته باحثًا يطرح سؤالًا فكريًّا معقدًا، وتقول الكاتبة إنها تعتقد بوجودِ حجةٍ قوية فيما يخص تضمين المعرفة المتأتية من ممارسات الفودو في الدراسات الحديثة للوعي وركائزه المادية.
ومع ذلك، لم يتقدم فييرابند ليطرح حجته، لم يبادل فييرابند النقاش وجهًا لوجه، بل عمِد إلى استهداف مصداقية المرأة بالأساليب الخطابية. لجأ فييرابند إلى القول بأنها تفترض الجهل في قرَّائها، مُلمِّحًا في ذلك إلى أن الإنسان الجاهل فقط من سيعتقد أن سؤالها ينطوي على تحدٍّ. تقول الكاتبة إن تأمُّلها في الفقرة المُقتبسة يؤكد لها ملامح الإغاظة في الموقف الذي اتخذه فييرابند.
سعت الكاتبة للبحث عن آثار هيس في الأعمال اللاحقة، لكن غيابها كان بارزًا على طول الخط. تذكر الكاتبة مثلًا كتاب الفيلسوف الأمريكي ويسلي سالمون «السببية والتفسير» (1998)، وهو من الكلاسيكيات الذائع الاستشهاد بها في فلسفة العلوم. يُمهِّد سالمون لوجهات نظره الخاصة بتغطيته للمفكرين الرئيسيين في تاريخ المجال، ولكنه لا يذكر هيس. كذلك الحال مع كتاب «التمثيل العلمي» لباس ڤان فراسن (2008)، وهو كتاب مؤثر يحلل كيفية استخدام العلماء للتمثيلات مثل الصور والأدوات المفاهيمية الأخرى – الاستعارات والتماثلات وما إلى ذلك- لكن الكتاب يغفل ذكر هيس أيضًا.
تعدد الكاتبة أمثلةً أخرى، منها كتاب آدم تون المتخصص بتمثيلات النماذج العلمية. أخفق تون في ذكرِ هيس، بالرغم من أنه تخرَّج في قسمها في جامعة كامبريدج، ورغم اشتراك العالمين الواضح في الاهتمام بمقارنة الإستراتيجيات الأدبية مع التفكير العلمي. وعلى هذا المنوال، يتعدَّى الأمر مجرد حالة نسيان أو إغفال واحدة أو اثنتين. يتراكم الإغفال حتى يصل إلى حدِّ تغييب الاسم من الذاكرة الجماعية بصورةٍ يصعب عكس نتائجها.
تتساءل الكاتبة: هل يبدو غريبًا بعد هذا أن تُنشر ورقة بحثية تحت عنوان «النماذج والتماثلات في العلوم» في مجلة مرموقة في المجال دون الإشارة إلى عمل هيس أو حتى الاستشهاد به؟ نُشرت هذه الورقة البحثية عام 2000 (من قبل كاتبٍ آخر)، مغيِّبة اسم هيس رغم تجاوزها مرحلة مراجعة الأقران. هكذا تستخلص الكاتبة فشل الذاكرة الجماعية التي كان ينبغي لها أن تكون العمود الفقري للبحث الأكاديمي.
ليست حكاية هيس فريدة في قصة النسيان الجماعي هذه. فمع تصفح القوائم والمجموعات المخصصة لتسليط الضوء على النساء البارزات في الفلسفة، يظهر نوع من التحيُّز الغريب. تشير الكاتبة إلى تفوق النساء في مجال فلسفة العلم، وكيف أن وجوده لم يمنع من تشكل انطباع عام بأن المفكرات في تاريخ الفلسفة يجب عليهنَّ أن يعملن بشكل شبه حصري على موضوعات تتعلق بالأخلاق والنسوية.
تطرح الكاتبة سؤالًا يخصُّ مجال عملها: ماذا لو لم تُحيَّد هذه النساء المفكرات في المجال؟ ماذا لو أُعطين حقهن ونُظر إليهن بوصفهن سلالة من المفكرات، كيف كانت لتبدو فلسفة العلم اليوم؟
أمثلة أخرى بجانب هيس
تنظر الكاتبة إلى نوعية الأفكار التي طرحتها المفكِّرات عبر تاريخ فلسفة العلم، مُعتبرة أن المجال كان ليتغيَّر على نحوٍ مدهش مُفسحًا المكان لطرحٍ جديد عن «كيف تعمل الأشياء». تقول الكاتبة إن هنالك خيطًا غير مرئيٍّ يربط بين الأعمال المنفصلة لفيلسوفات العلوم: فكرة أن الفلاسفة يجب أن ينظروا بدقةٍ أكبر إلى توليد المعرفة في العلم، بدلًا من الانخراط في الأنشطة المبالغ بها من التبرير الجدلي.
تضرب الكاتبة مثالًا مؤسسة فلسفة علم الأحياء السابق ذكرها مارجوري جرين. مثل هيس، اعتقدت جرين أن الفلاسفة يجب أن ينظروا إلى توليد المعرفة جنبًا إلى جنب أوجه التقدم في العلم. نفت جرين وجود فكرة «الفلسفة الخالدة» (philosophia perennis، بمعنى الطرح الفلسفي الخالي من السياق فيما يخصُّ أصل المعرفة كتخمين ميتافيزيقي)، وبحثت في إجابات الأسئلة الفلسفية التقليدية منطلقة من معرفتها بعلم الأحياء، ولا سيما علوم الجينات. ومن ثم تعرِّج الكاتبة على أسماء متعددة أخرى:
باتريشيا تشرشلاند: فيلسوفة تحليلية كندية أمريكية اتبعت مسارًا مشابهًا، من خلال إثبات أن المعارف الجديدة لعلم الأعصاب في الدماغ تدعونا الآن إلى إعادة النظر – وحتى الإطاحة- بحدسنا الفلسفي حول العقل. تعزِّز تطبيق هذه المنهجية الثورية في الممارسة الفلسفية.
نانسي نرسيسيان: أستاذة العلوم المعرفية والباحثة في فلسفة العلوم، استندت إلى نظريات في العلوم المعرفية لتجري دراسات تجريبية للإستراتيجيات المفاهيمية التي يستخدمها العلماء الحقيقيون في الممارسة العملية.
يوتا شيكور: مؤرخة وفيلسوفة علوم ألمانية. وجدت شيكور أن هذه الاستراتيجيات والقرارات ارتبطت ارتباطًا تاريخيًّا وثيقًا بظهور الكتابة علميًّا. يوفِّر ما أطلقت عليه شيكور «خطاب المناهج» الأساس للانشغال بالكتابة العلمية كعمليَّة معرفية، ومثل استعارات هيس، يُنظر إليه بوصفه أداة معرفية في توليد المعرفة العلمية.
بعد مراجعة ما تطرحه هذه المفكِّرات واحدةً تبع الأخرى، تصبح هيس جزءًا من قصةٍ بالكاد بدأنا نتحسس مداها. تنوّه الكاتبة لأنها لا تقدم تاريخًا بديلًا هنا، بمعنى حقائق بديلة. هذه الأعمال توجد بالفعل، ويمكننا ربطها معًا على نحوٍ فعال من تقديم نظرةٍ أغنى لما كانت عليه فلسفة العلم، وما يمكن لها أن تكون.
تُشكِّل السلالات الموثقة بأنسابها أنواع المسائل والأفكار التي ندركها بمثابة ممثلة لحقلٍ ما، أو تلك التي تنتفي عنها تلك الصفة. لكن الطابع التاريخي الخطِّي هو أمر من صنع الإنسان، تُستخدم الأنساب والشخصيات التاريخية لتكوِّن طرقًا مختصرة يُختزل بها فهم المرء وأفق رؤيته، لكن – كما تختتم الكاتبة- عندما تتجاوز الاختصارات جميع النساء، تبدو هذه الطرق المختصرة وكأنها انعطافات قصديَّة.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».