على عكس نبرة الخطابات السائدة، يُمكن أن يعزز «الإسلامُ السياسي» والحركاتُ الإسلامية المشاركةَ في الحياة المدنية، والتصدي لإغراءات التطرف، والمساعدةَ في عملية اندماج المسلمين في الغرب.
كتب آلان جابون، رئيس قسم اللغات الأجنبية وآدابها بجامعة فيرجينيا ويسليان، مقالًا نشره موقع «ميدل إيست آي» الإخباري البريطاني، دحض فيه الأكاذيب والزيف المنتشر في العالم الغربي بشأن حركات «الإسلام السياسي»، مسلِّطًا الضوء على العواقب الوخيمة للتعميم السيئ، وتجاهل الاختلافات الجذرية بين الجماعات والحركات الإسلامية.
نظريات شديدة الزيف والتبسيط عن «الإسلام السياسي»
يستهل الكاتب مقاله بالتأكيد على أن «الحرب على الإرهاب» التي تلَت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وغذَّت تصاعدًا مثيرًا في موجة «الإسلاموفوبيا» بجميع دول الغرب من خلال وصم جميع المسلمين بأنهم إرهابيون محتملون، أو «متعاطفون مع الجهاديين»، توسَّع نطاقُها في الوقت الراهن إلى حد كبير لدرجة أنها لم تعد حربًا ضد الإرهاب القائم فحسب، بل تحوَّلت أيضًا إلى حرب ضد «الإسلامية»، وضد «الإسلام السياسي» وضد غير المسلمين الموصوفين بأنهم «يساريون إسلاميون».
ويُوضح الكاتب أن ملاحقة المحجبات والمنتقبات تحوَّلت في بعض الدول، وخاصة فرنسا، التي أصبحت منذ قضية الحجاب التي وقعت عام 1989 مختبرًا للتجارب الغربية المعادية للإسلام، إلى سياسات رسمية للدولة. وفي أغلب الأحيان تحاكي دول غربية أخرى هذه الممارسات المعادية للإسلام. إذ أعلنت الدنمارك بعد ما قامت به فرنسا أنها بدأت «تحقيقًا» في الانتشار المزعوم للنشاط «اليساري الإسلامي» في جامعاتها.
وقد اعتمدت هذه الممارسات في تبريرها على بعض النظريات المشكوك فيها عن التطرف، مثل «الحزام الناقل» (التي تقترح أنه حتى لو لم تُقِر الجماعات الإسلامية نفسها العنف، فقد وضعت الأفراد على الطريق المؤدي إلى التطرف)، ومفاهيم «مدخل إلى المخدرات» التي صاغها بعض الأكاديميين المُبالغ في تقدير قيمتِهم، بالإضافة إلى الاستناد لمفاهيم شديدة التبسيط، وواسعة الزيف عن «الإسلامية»، على اعتبار أنها «ملحق» للجهادية المسلحة العنيفة، ويهدف هذا النوع من الشيطنة حاليًا إلى فرض رقابة على كل ما يُعرَض على أنه «إسلام سياسي»، وحظره وتجريمه، حتى وإن لم يكن كذلك.
«الإسلام السياسي» والخلط المُغالِط
ويرى الكاتب أنه بغض النظر عن أن هذا المشروع الشامل يقتصر في عمله على الممارسات المتطرفة العنيفة، فإنه يجمع بين الحكومات ووسائل الإعلام الرئيسة، ومراكز البحوث والأفكار، بالإضافة إلى بعض القطاعات الأكاديمية المتخصصة في عملية محاولة إضفاء الطابع الأمني الضار بالإسلام والمسلمين، والذين يعدُّونهم تهديدًا وجوديًّا للأمن القومي بوجه خاص، ولـ«الحضارة الغربية» بوجه عام. وينطلق هذا المشروع الشامل من الخلط الشديد بين التيار الديني المحافظ، والأصولية، والتطرف، و«الإسلام السياسي» و«الإسلامية»، والتطرف غير العنيف، والإرهاب الجهادي (سواء كان حقيقيًّا أو محتملًا).
وأدَّت استمرارية هذا الخلط القائم على المغالطة بين ظواهر مختلفة نوعيًّا إلى أن يُنظر فورًا إلى مجرد أداء العبادة الدينية الصحيحة، مثل المواظبة على شعائر الصلاة، أو ارتداء الزي الإسلامي، على أنها «مدخل» للجهاد، ويُعامل هذا الشخص على هذا النحو. لكن يبدو أن هذا الأمر ينطبق على المسلمين فحسب، إذ تضمن المعايير المزدوجة للإسلاموفوبيا ألا تمسَّ اليهودَ والمسيحيين وغيرَهم مثل هذه التعميمات الخطيرة، والتوازنات الخاطئة.
اعتداء ممنهج
يُشير الكاتب إلى أن هذا النهج الاستئصالي استهدف في الآونة الأخيرة انخراط المسلمين في الحياة المدنية، حتى عندما تُمارس بالكامل داخل المؤسسات والهياكل الديمقراطية للمجتمعات الغربية. وأحدث مثالين على هذا الاعتداء الممنهج على الحقوق الأساسية للمسلمين هما، أولًا: منع الأمهات المحجبات من مرافقة أولادهن في الرحلات المدرسية؛ بحجة أن حجابهن ينتهك مبدأ «الفصل بين الكنيسة والدولة»، وثانيًا: حظر المنظمات غير الحكومية المناهضة للعنصرية، مثل «التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا»، على أساس أنه «منظمة إسلامية».
ويستشهد الكاتب بما أوضحته الصحافية ميريام فرانسوا أن «إشكالية الإسلام» والمسلمين المتمددة، والمتفَاقمة، تنبع من رفض توسيع نطاق الحقوق المدنية، والمساواة في المعاملة لبعض الأقليات: «وبدلًا عن ذلك تُرفض أي عنصرية دفينة، دون تقديم أي حلول للاعتراف الكامل بالتعامل مع الرجال والنساء الفرنسيين العرب والسود على قدم المساواة. وتمتد جذور هذه القومية المتكلسة ذات الانحراف الاشتراكي إلى تفوق العِرق الأبيض، وارتداء ثوب الدفاع عن الأمة».
بينما ذهب الفيلسوف الفرنسي البارز جاك رانسيير إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يرى أن هذه الحرب الجديدة على «الإسلامية» محاولة «لتجريم كل أنواع النضال الاجتماعي، والممارسات المدنية لصالح الأقليات والمجموعات المهاجرة التي تعاني من التمييز، من خلال تقديمها على أنها عناصر مساعدة محتملة للإرهاب الجهادي».
ويُؤكد الكاتب على أن مثل هذه السياسات لا تكمن خطورتها في مناهضتها للديمقراطية فحسب، لكنها تؤدي أيضًا إلى نتائج عكسية جسيمة؛ إذ تُعد المشاركة في الحياة المدنية في عمر أي أمة، بما في ذلك المشاركة في الحياة السياسية، عاملًا مهمًا في المساعدة على دمج الأقليات، وتخفيف حدة الإحباطات، والتي لولا وجودها لأدَّى ذلك إلى سعي هذه الأقليات للعثور على منافذ أخرى في أشكال أكثر راديكالية.
الحكومات الغربية تشجع ظواهر أشد تطرفًا
وأظهرت الأبحاث والدراسات بوضوح أن المشاركة المدنية، حتى عندما يُغذِّيها أو يشجع عليها شعورٌ بالواجب الديني للإسهام في المجتمع، هو في حقيقة الأمر أحد العوامل القوية للاندماج؛ ما يُساعد على ترسيخ إحساس الشخص بالانتماء، والارتباط بالأرض، والمواطنة، والتماهي مع الوطن.
ويخلص الكاتب إلى أن الحكومات الغربية تخاطر بتشجيع الظواهر ذاتها التي تدَّعي أنها تريد محاربتها، مثل «التطرف» و«الانفصالية الإسلامية»، من خلال إضعاف – أو حتى حظر – الأشكال المشروعة والإيجابية للمشاركة المدنية والسياسية. إن كل ما تجنيه الحكومات الغربية من منع المسلمين من أن يُصبحوا مؤثرين سياسيًّا يتمثل في دفع هؤلاء المسلمين للشعور بأنهم مُبعَدون وغير مرغوب فيهم؛ ما يُولد لديهم إحساسًا بالإحباط، والغضب، وخيبة الأمل.
الاختلافات الجذرية
وألمح الكاتب إلى أنه في ظل المناخ الراهن الذي يسوده السعي نحو حظر «الإسلام السياسي» أو النظر إليه بعين الريبة والخوف، أكدَّت أصوات قليلة، لكنها تمتلك الشجاعة، على ضرورة تشجيع «الإسلام السياسي»، بما في ذلك الاختلافات الجذرية التي ربما لا تتناسب مطلقًا مع الثقافات السياسية المعيارية للغرب، والتعامل معه أو التسامح على الأقل معه.
وفي نهاية المطاف هذا هو ما يُفترض أن تكون عليه الأنظمة الديمقراطية والمجتمعات الحرة، مع الاعتراف بأن معارضة النظام القائم، والتصدي له، لا يُعد قانونيًّا، ولا شرعيًّا فحسب، بل إنه مناخ صحي. ومن جهة أخرى يُرجح أن يُؤدي تجريم بعض حركات «الإسلام السياسي» إلى نتيجة أسوأ؛ لأن مثل هذه السياسات التمييزية هي بالضبط ما تريد جماعات مثل «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» أن تمارسه المجتمعات الغربية؛ ما يدفع بمزيد من المسلمين إلى أحضانهم بسبب ما يشعرون به من غضب وإحباط.
ويتهم الكاتب العروض التقديمية المضللة التي تصف «الإسلامية» بأنها فكرة متجانسة ومخالفة للديمقراطية على الصعيد العالمي (بزعم أنها مناقضة للديمقراطية)، بأنها تتجاهل تنوع الحركات الإسلامية، والاختلافات الجذرية فيما بينها، وتغفل بعض الخلافات التي لا يمكن التوفيق بينها، والتي غالبًا ما تفصل بين هذه الجماعات والحركات، إلى جانب أنها تغض الطرف عن الطفرات التاريخية المأساوية التي تعرضت لها بعض هذه الحركات، مثل جماعة «الإخوان المسلمين»، «بُعبُع أوروبا الجديد».
ولهذا السبب يجدر التأكيد على أنه إذا كان تنظيم «داعش» منظمة إسلامية بالفعل، فإن أية حركة ديمقراطية مثل حركة «النهضة» التونسية، وزعيمها راشد الغنوشي، هي كذلك منظمة إسلامية. ومع ذلك نجد الفجوة بين الحركتين شاسعة، لدرجة أنهما ليستا «مختلفتين» فحسب، بل لا يمكن التوفيق بينهما، حتى وإن كانت كلتاهما تُوصف بأنها «إسلامية».
ولفت الكاتب إلى أن الجهل الباعث على السعادة بين عدد من شرائح مجتمع الدراسات والأبحاث المستفيضة عن الحركات الإسلامية، فضلًا عن الأنماط المتنوعة لـ«الإسلام السياسي»، يضمن أن هذه المصطلحات تعني ببساطة أنها «سيئة»، و«همجية»، و«خطيرة»، وأن كل مَنْ يُوصَم بهذه الصفات يُمكن استهدافه والقضاء عليه عن طريق سلطات الدولة باسم «الديمقراطية»، و«الدفاع عن الأمة».
وفي هذا الصدد تقول جوسلين سيزاري، إحدى أبرز العلماء المستشرقين في العالم الذين درسوا الإسلام: إن السردية الزائفة القائلة إن «الإسلام السياسي يُؤدي إلى العنف والتطرف» تتجاهل حقيقة أنه إذا كان من الممكن أن يكون الإسلام السياسي في ظل ظروف معينة بوابة إلى التطرف، فإنه يمكن أيضًا أن يكون «مدخلًا إلى رؤية عالمية أكثر ديمقراطية وتعددية».
تمزقات وإصلاحات
ونقل الكاتب عن آن كليمنتين لاروك، مؤلفة كتاب «الإسلامية في السلطة»، قولها إنه بمجرد وصول الأحزاب أو الحركات الإسلامية إلى السلطة، فإن هذه الأحزاب أو الحركات الإسلامية تميل إلى الاعتدال، بل إصلاح نفسها، مع السعي إلى الانقسام والابتعاد عن الجماعات الأكثر راديكالية، وخاصة جماعات الجهاديين، التي تُعد بمثابة «قبلة الموت». ويبطل هذا النمط المُلاحَظ المساواة ببساطة بين «الإسلام السياسي» و«الجهادية المسلحة»، أو يلغي النظرية الزائفة «مدخل إلى المخدرات» التي يؤدي أحدها إلى الآخر.
وفي السياق ذاته وجد خبراء بارزون آخرون في الإسلام، ومنهم جون. إل. إسبوزيتو الباحث الرائد على الصعيد العالمي في هذا الشأن، أن البحث الحقيقي عن العدالة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، يقع في قلب المشروع الإسلامي، وأن هذا «التوق» إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، يُعد أحد الخصائص الرئيسة المشتركة بين معظم الأحزاب، والحركات الإسلامية.
وألمح الكاتب إلى أن عددًا من حالات الإسلاميين في السلطة تُظهر أنه إذا أتيحت لهم الفرصة، فإنهم على استعداد تام للعيش وفقًا للقواعد الديمقراطية. فحركة «النهضة» في تونس، التي يمكن لسلوكها أن يُلقن الأحزاب الغربية دروسًا في الروح المدنية، والسلوك الديمقراطي، ليست بأية حال من الأحوال الحركة، أو الحزب الوحيد، أو «الاستثناء الذي يُؤكد القاعدة»، كما تريد أن تُوحي لنا الهستيريا المعادية للإسلاميين.
كما كان من الممكن لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، قبل التحول الاستبدادي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو (تموز) 2016، وما تلا ذلك من عمليات تطهير واسعة النطاق، أن يصبح من جديد نموذجًا للسلوك الديمقراطي. إذ جلب حزب «العدالة والتنمية» إلى الحياة السياسية السائدة في البلاد ملايين الأتراك الذين استبعدوا منها إلى حد كبير، بينما أعطى الأقليات المهمَّشة تاريخيًّا، وخاصة الأكراد، حقوقًا واعترافات غير مسبوقة.
ويُضيف الكاتب أن حزب العدالة والتنمية التركي سحق أيضًا العبارة المبتذلة الكاذبة القائلة إنه «مع الإسلاميين هناك تصويت واحد، ولمرة واحدة»؛ لأن أردوغان و«حزب العدالة والتنمية» خضعوا بصورة منتظمة إلى نتائج صناديق الاقتراع، حتى لو كان ذلك على حساب خسارة الانتخابات الرئيسة.
«الإسلامية التقدمية»
ويضرب الكاتب مثالًا آخرَ مهمًا، وهو مصر في عهد الرئيس السابق الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين. وقد تميزت مدة ولايتهم بالتوسُّع الجوهري والنوعي للديمقراطية، على الرغم من قِصَرها، بالنظر إلى الإطاحة المبكرة بالنظام عن طريق الانقلاب العسكري للجنرال عبد الفتاح السيسي عام 2013، وهو بالمناسبة أحد أسوأ المستبدين الشموليين في العالم، وأكثرهم ارتكابًا للقتل الجماعي، الذين تدعمهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من دون قيد أو شرط، بينما يُلقون باللوم على «الإسلاميين» لأنهم غير ديمقراطيين بما فيه الكفاية.
ويلقي الكاتب الضوء على ما توصل إليه الباحثان شادي حميد ومريديث ويلر، باستخدام مؤشر «بولايتي آي في»، أحد أدوات العلوم السياسية الأساسية لقياس مستوى الاستبداد والديمقراطية وتقلباتهما، إذ خلُصا إلى أنه في عهد مرسي والإخوان المسلمين في مصر، بدأت البلاد بالفعل في التحول الديمقراطي. وعلى الرغم من أن التجربة لم تصل حد الكمال بسبب الوضع المستحيل، فقد أصبحت مصر خلال مدة زمنية قصيرة أكثر ديمقراطية مما كانت عليه في ظل الأنظمة السابقة غير الإسلامية (حتى الأنظمة المعادية للإسلاميين). كما كانت مصر في عهد مرسي أكثر ديمقراطية وأملًا مما هي عليه في ظل النظام الحالي، بحسب الكاتب.
ويختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن التشهير الشامل والفج بالـ«الإسلامية» و«الإسلام السياسي» يتجاهل عمدًا وجود توجُّهات إسلامية ديمقراطية، مثل «الإسلامية التقدمية»، على الرغم من أن الجهل قد يُظهر هذا التعبير وكأنه متناقض.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».
علامات
الإخوان المسلمين, الإسلام, الإسلام السياسي, الحركات الإسلامية, الديمقراطية, ترجمات, تونس, فرنسا, مصر