نشر موقع «ذا كونفرزيشن» الأسترالي تقريرًا أعده كلٌّ من بيل لي، أستاذ موارد البيئات القاسية في جامعة بانجور، وجيري توماس، رئيسة قسم علم الأمراض الجزيئي في كلية لندن الإمبراطورية، تحدثا فيه عن الطاقة النووية، والخوف المتوارث بين الناس من الإشعاع والعناصر المُشعَّة، موضحَيْن مكمن الخطر الحقيقي علينا وعلى كوكب الأرض.

من أين أتت العناصر المُشعِّة؟

يستهل الكاتبان التقرير بالقول: يخاف العديد من الناس من الإشعاع، معتقدين أنه قوة خفية وقاتلة من صنع الإنسان، وغالبًا ما يكمن هذا الخوف وراء معارضة الطاقة النووية، ولكن الحقيقة أن معظم الإشعاع طبيعي، ولا يمكن استمرار الحياة على الأرض من دونه.

وفي مجال الطاقة النووية والطب النووي سخَّرنا الإشعاع لخدمتنا، تمامًا كما استخدمنا النار، أو النباتات الطبية لصالحنا، مع أنها أيضًا تحمل جانبًا مضرًا يمكن أن يؤذينا. وعلى عكس بعض السموم الموجودة في الطبيعة تطور البشر وتطورت أجسامهم لتتحمل التعرُّض الخفيف من الإشعاع، ويمكن أن يصيبهم الضرر فقط عند التعرُّض للجرعات العالية نسبيًّا منه. وهناك مثال جيد على ذلك وهو الباراسيتامول؛ فتناول حبة منه يمكن أن يعالج صداعك، ولكن تناول علبة كاملة مرة واحدة يمكن أن يقتلك.

وقد ولَّد الانفجار العظيم، الذي وقع قبل ما يقرب من 14 مليار سنة، إشعاعًا على شكل ذرات تُعرف بالنويدات البدائية (وكلمة البدائي هنا تعني منذ بداية الزمان). وهذه الجزيئات هي جزء من كل شيء في الكون. وبعضها لديه عمر نصف فيزيائي طويل جدًّا، وهو مقياس لتحديد الوقت اللازم لانخفاض نشاط المادة المُشعِّة إلى النصف، فواحد من أشكال الثوريوم المُشع يحتاج إلى 14 مليار سنة قبل أن يتحلل نشاطه إلى النصف، أما اليورانيوم فيستغرق 4.5 مليار سنة، والبوتاسيوم 1.3 مليار سنة.

ولم تزل النويدات البدائية المُشعَّة موجودة حتى اليوم في الصخور، والمعادن، والتربة. وتَحلُّل هذه النويدات هو مصدر للحرارة في باطن الأرض، حيث يحوِّل قلبها الحديدي المنصهر إلى دينامو حمل حراري يحافظ على مجال مغناطيسي قوي بما يكفي لحمايتنا من الإشعاع الكوني الذي من شأنه أن يقضي على الحياة على الأرض في حال وصل إلينا. ومن دون هذا النشاط الإشعاعي ستبرد الأرض تدريجيًّا لتصبح كرة صخرية ميتة بداخلها كرة حديدية باردة، ولن تكون هناك حياة على ظهرها.

العناصر المُشعَّة من حولنا

يشير التقرير إلى أن الإشعاع القادم من الفضاء يتفاعل مع العناصر الموجودة في الغلاف الجوي العلوي للأرض، وبعض المعادن السطحية، وينتج نويدات »كونية» جديدة، بما فيها أشكال من الهيدروجين، والكربون، والألومنيوم، وعناصر أخرى معروفة. وتتحلل معظم هذه النويدات بسرعة، باستثناء شكل واحد من الكربون المُشع، الذي يمكِّن عمر النصف الخاص به (والذي يبلغ 5700) علماءَ الآثار من استخدامه لتأريخ الكربون المُشع.

Embed from Getty Images

وهذه النويدات المُشعَّة البدائية والكونية هي مصدر الإشعاع في كل ما يحيط بنا. فالنباتات تمتص الإشعاع من التربة، وتنقله إلى الثمار التي نأكلها مثل: الموز، والفول، والجزر، والبطاطس، والفول السوداني، واللوز البرازيلي. والبيرة، على سبيل المثال تحتوي على شكل مُشع من البوتاسيوم، ولكنه لا يساوي عُشْر ذلك الموجود في عصير الجزر.

وتمر هذه النويدات المُشعِّة من الطعام إلى أجسامنا، لكن بعضها يبقى لفترات من الزمن (عمر نصفها الحيوي هو الوقت الذي تستغرقه أجسامنا للتخلص منها). وهذا الشكل المُشع من البوتاسيوم الذي يدخل أجسامنا من الغذاء يبعث أشعة جاما عالية الطاقة أثناء تحلله، وتخرج في هذه الحالة من جسم الإنسان، وهذا يعني أننا جميعًا أجسام مُشعَّة إلى حد ما.

التعايش مع النشاط الإشعاعي

يلفت التقرير إلى أننا تاريخيًّا كنَّا غافلين عن وجود النشاط الإشعاعي في بيئتنا، ولكن أجسامنا تطورت طبيعيًّا لتتعايش معها. وطوَّرت خلايا جسم الإنسان آليات وقائية تحفز إصلاح الحمض النووي استجابة لأي ضرر ناجم عن الإشعاع.

وكان النشاط الإشعاعي قد اكتُشف لأول مرة على يد العالم الفرنسي هنري بيكريل عام 1896. وأُنتجت أول مادة مُشعَّة على يد ماري وبيير كوري في ثلاثينات القرن الماضي، واستُخدِمت منذ ذلك الحين في العلوم، والصناعة، والزراعة، والطب.

فالعلاج الإشعاعي على سبيل المثال لم يزل من أهم طرق علاج مرض السرطان. ولزيادة فاعلية العلاج الإشعاعي يعمل الباحثون حاليًا على تحوير الخلايا السرطانية لجعلها أقل قدرة على إصلاح نفسها والنشاط مرةً أخرى.

ونحن نستخدم المواد المُشعَّة في التشخيص والعلاج في قسم »الطب النووي». إذ يُحقن المرضى بنويدات مُشعَّة معينة حسب المكان اللازم علاجه أو تشخصيه في الجسم. ومن ثم يتجمع اليود المُشع مثلًا في الغدة الدرقية، بينما يتراكم الراديوم بالأساس في العظام. ويُستخدَم الإشعاع المنبعث لتشخيص الأورام السرطانية. وتُستخدَم النويدات المُشعَّة في علاج السرطان أيضًا عن طريق استهداف الإشعاع المنبعث عند الورم.

وأشهر النظائر المُشعَّة الطبية شيوعًا هو 99mTc (تكنيتيوم)، الذي يُستخدَم في 30 مليون إجراء طبي سنويًّا في جميع أنحاء العالم. وكغيره من النظائر المُشعَّة الطبية، فهو من صنع الإنسان، مشتق من النويدات الأصلية التي نشأت بدورها من انشطار اليورانيوم في مفاعل نووي ما.

الخوف من الإشعاع

يقول الكاتبان إنه على الرغم من الفوائد التي تقدمها لنا المفاعلات النووية، يخشى الناس من الإشعاع الذي ينتج عنها، إما بسبب النفايات النووية، أو الحوادث، مثل حادثة تشيرنوبل، أو فوكوشيما. ولكن قلة قليلة من الناس ماتت بسبب توليد الطاقة النووية، أو الحوادث الناتجة عنها، إذا ما قارناها بمصادر الطاقة الأولية الأخرى.

الخوف المتوارث بين الناس من الإشعاع

(رسم بياني يوضح أن الطاقة النووية كانت مسؤولة عن عدد قليل جدًّا من الوفيات جراء الحوادث مقارنة بأنواع الطاقة الأخرى).

ونحن قلقون من أن يعيق الخوف من الإشعاع إستراتيجيات التخفيف من آثار التغير المناخي. فألمانيا على سبيل المثال تُولد حاليًا ربع احتياجاتها من الكهرباء عن طريق الفحم، ولكنها مع ذلك تعد الطاقة النووية خطرًا، وتُغلق تدريجيًّا محطات الطاقة النووية المتبقية.

ولكن المفاعلات النووية الحديثة تُخلِّف نفايات أقل من سابقاتها، وهذه النفايات، والنفايات الناتجة من المفاعلات القديمة يمكن تجميدها في الإسمنت، والزجاج، والتخلص منها بوضعها عميقًا في الأرض. كما أن النفايات النووية لا تُنتج ثاني أكسيد الكربون مطلقًا على عكس ما هو عليه الحال في الفحم، والغاز، والنفط.

ويختم الكاتبان تقريرهما بالقول: لدينا اليوم المعرفة اللازمة التي تمكننا من استخدام الطاقة النووية بأمان وتسخيرها لصالحنا وصالح كوكبنا. وبخوفنا المفرط ورفضنا للطاقة النووية باعتبارها مصدرًا رئيسًا للطاقة، فإننا نجازف بالاعتماد على الوقود الأحفوري لمدة أطول. وهذا الأمر، وليس الإشعاع، هو ما يعرضنا ويعرض كوكبنا لخطر أكبر.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد