ظلت ما لا يقل عن ثلاثة قوارب تحمل لاجئين من الروهينجا، عالقة بلا وجهة، تتقاذفها الأمواج في البحر منذ أكثر من شهرين. واعتبارًا من هذا الأسبوع، توارت هذه القوارب عن أنظار الجماعات الحقوقية التي كانت تتعقبُّها.
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا لمديرة مكتبها في جنوب شرق آسيا، هانا بيتش، حول هذه المأساة. وفي مستهل تقريرها، قالت المراسلة: في مكان ما وسط المياه الفيروزية، وربما عند ملتقى خليج البنغال ببحر أندامان، رُصِدت قوارب خشبية مليئة باللاجئين الروهينجا، وهي الآن تطوف بلا مرسى تحت رحمة الرياح والتيارات لأكثر من 10 أسابيع. مُنِعت هذه القوارب من الإرساء في ماليزيا، وجهتها المفضلة، أو في بنجلاديش، مينائها الأصلي.
واعتبارًا من هذا الأسبوع، غابت هذه القوارب عن أنظار الجماعات الحقوقية التي كانت تحاول تعقبها عبر الأقمار الصناعية. ويحمل كل قارب – كان هناك ثلاثة قوارب على الأقل – المئات من مسلمي الروهينجا الذين هم في أَمَس الحاجة إلى ملاذ آمن، ويرزحون تحت رحمة المتاجرين بالبشر.
يقول محمد يوسف، أحد كبار الأئمة في أحد مخيمات اللاجئين في بنجلاديش، حيث لجأ حوالي مليون شخص من الروهينجا بعد فرارهم من موجات الاضطهاد والعنف في دولة ميانمار المجاورة: «أشعر برغبةٍ في البكاء عندما تمر في خاطري أوضاع إخواني وأخواتي الذين ما زالوا عالقين هناك في عمق البحر».
لعبة بينج بونج بشرية
وذكرت المراسلة أن القوارب كانت عالقة في البحر فيما وصفته الأمم المتحدة بـ«لعبة بينج بونج بشرية» خطيرة. ورفضت حكومة بنجلاديش استقبال تلك القوارب متذرعةً بأنها فتحت أبوابها بالفعل أمام عديد من لاجئي الروهينجا، وتحمَّلت نصيبًا من العبء أكبر بكثير من أي نصيب تحمَّلته أي دولة غيرها في أزمة اللاجئين. ولكن مع رفض ماليزيا السماح للقوارب بأن ترسو على شواطئها، وسط الإغلاق الوطني العام بسبب جائحة فيروس كورونا، وأجواء رهاب الأجانب التي تخيم على المنطقة، لم تجد القوارب ملجأً آخرَ تذهب إليه.
يقول ستيفن كورليس، ممثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بنجلاديش، «لقد تحمَّلت بنجلاديش عبء مسؤوليات جِسَام تجاه اللاجئين الروهينجا، ويجب ألا تُتْرك وحدها في مواجهة هذه التحديات. لكن إغلاق الأبواب في وجوه اليائسين لا يمكن أن يكون حلًّا».
واتَّضحت النتائج المدمرة لهذا الرفض في يوم 15 أبريل (نيسان) بعدما أنقذت قوات خفر السواحل في بنجلاديش قارب روهينجا آخر، كان قد مُنِع من الرسو على شواطئ ماليزيا. وأُطلق سراح حوالي 400 شخص يعانون من سوء التغذية والجفاف، وكثير منهم من الأطفال، كانوا رهن الاحتجاز على يد المتاجرين بالبشر. ولم تحدد وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، التي قيَّمت حالة اللاجئين، كم عدد الروهينجا الذين لقوا حتفهم في الرحلة، قائلةً ببساطة إن «كثيرين ماتوا وأُلقيت جثامينهم في البحر». وذكرت الوكالة أن عددًا كبيرًا تعرض لإيذاء بدني على أيدي المتاجرين بالبشر.
والآن يخضع الروهينجا الذين نجوا من هذه الرحلة للحجر الصحي الخاص بفيروس كورونا في مخيم مؤقت في بنجلاديش.
تكتيك شائع
ولفت التقرير إلى أن المتاجرين بالبشر الذين يُهرِّبون الروهينجا من معسكرات الاعتقال في ميانمار، أو من مخيمات اللاجئين في بنجلاديش، إنما يفترسون بعضًا من الأشخاص الأكثر ضعفًا على وجه الأرض. ومعظم الروهينجا من المشرَّدين الذين تسببت لهم الصدمات في أضرار نفسية بالغة بسبب عقود من الاضطهاد على يد جيش ميانمار، ويَئِس كثير منهم من الوصول إلى أرض ماليزيا، حيث يمكنهم الحصول على فرص للعمل كعمال غير نظاميين (لا يحملون وثائق).
ويوجد حوالي 100 ألف مسجل لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ويعيش عديد منهم على هامش المجتمع دون أي أوراق تثبت هويتهم. وتقدم التجارة في نساء الروهينجا وفتياتهم أزواجًا لرجال الروهينجا؛ مما يضمن استمرار معاناة المجتمع المحروم بالفعل في بلد آخر.
ومات المئات من الروهينجا أثناء محاولتهم الوصول إلى أرض ماليزيا. وأُلقيَ بعضهم في البحر من على متن قوارب تحمل فوق طاقتها، بعدما طالت الرحلات؛ لأن الدول رفضت أن تقبلهم وتوفر لهم ملاذًا آمنًا. ودُفن آخرون في مقابر جماعية في الغابات، بعدما عجزت عائلاتهم عن توفير رسوم التهريب التي زادت فجأة خلال الرحلة، وهو تكتيك شائع يتَّبعه مُهرِّبو البشر للضغط؛ لكسب مزيد من الأموال من وراء هذه التجارة.
يقول السيد يوسف، الذي يعمل إمامًا في مخيم اللاجئين في بنجلاديش، إنه هو ورجال دين آخرين نصحوا العائلات بعدم الذهاب في رحلات بحرية محفوفة بالمخاطر. لكن الشعور باليأس في المخيمات، حيث يعاني مئات الآلاف من الأشخاص من بطالة مزمنة، دفع الروهينجا إلى وَضْع أرواحهم على أكف المهربين. ويضيف السيد يوسف: «يجب معاقبة المتاجرين بالبشر، وليس هؤلاء الروهينجا الأبرياء».
سفن الرقيق
وألمحت المراسلة إلى أن الظروف على القوارب أشبه ما تكون بالظروف على متن سفن الرقيق في أيامنا هذه؛ حيث تُرَص نساء الروهينجا وأطفالهن معًا رصًّا محكمًا في أماكن مظلمة ضيقة، حتى إنهم لا يمكنهم التمدد إلا بشق الأنفس. وعندما اعترض حرس السواحل والقوات البحرية في تايلاند وماليزيا طريق القوارب، ألقوا إليهم في بعض الأحيان عبوات معكرونة سريعة التحضير وكراتين من مياه الشرب على متن السفن. وتقول جماعات حقوقية إن سلطات جنوب شرق آسيا، برفضها تقديم مأوى لهم، فإنها تحكم على عديد من الروهينجا بالإعدام.
وقال الناجون في المقابلات إنهم اعتادوا إلقاء الجثث يوميًّا في البحر. وفي عام 2015، اكتشفت الشرطة في ماليزيا ما يقرب من 140 قبرًا وأقفاصًا مصنوعة من أغصان الشجر في مخيمات بالغابة للروهينجا والبنجلاديشيين المهرَّبين، الذين كانوا يحاولون شق طريقهم من تايلاند إلى ماليزيا. واتُّهِمت السلطات في كلا البلدين بالتواطؤ في هذه التجارة، وإعاقة الجهود الرامية إلى القضاء عليها. وبينما أدانت تايلاند في النهاية تسعة مسؤولين بالمشاركة في مخططات الاتجار بالبشر، لم يخضع أي مسؤول ماليزي للمساءلة.
ونوَّه التقرير إلى أن حدَّة اضطهاد الروهينجا زادت في عام 2017، عندما أطلق الجيش ذو الأغلبية البوذية في ميانمار العنان لما وصفه مسؤولو الأمم المتحدة بأنه حملة بقصد الإبادة الجماعية. ونتيجة لذلك، تدفق مئات الآلاف من الروهينجا عبر حدود ميانمار مع بنجلاديش، حاملين معهم قصصًا عن الإعدامات والاغتصاب الجماعي.
ويعيش عديد من الروهينجا الآن في مخيمات اللاجئين المنتشرة عبر التلال الجرداء، التي كانت يومًا ما كثيفة وتغطيها بساتين الخيزران والفاكهة في شرق بنجلاديش. وبحسب المنظمات الإنسانية، أصبحت الظروف الآن أكثر خطورة بعدما كانت تتسم بالازدحام والقسوة، حتى قبل تفشي جائحة فيروس كورونا. ولم تتأكد إصابة أيٍّ من الروهينجا بالفيروس في المخيمات، على الرغم من محدودية الاختبارات. وبداعٍ من مخاوف انتشار الفيروس في أوساط اللاجئين، حظرت حكومة بنجلاديش وصول معظم عمال الإغاثة إلى المخيمات. وبعد تطبيق بعض قواعد التباعد الاجتماعي، فقَدَ بعض الروهينجا وظائف قليلة ذات أجر زهيد كانوا يعملون بها.
ليس هناك أي بارقة أمل
ويضيف التقرير: الآن، وقد مُنِع حوالي 80% من عمال الإغاثة من دخول المخيمات، توقفت مسيرة حملات طبية مهمة، مثل لقاحات الحصبة. وقال السكان إن المراحيض تفيض بما فيها، بينما لا توجد مياه كافية للاستحمام. وأدَّى حظر الإنترنت عبر الهواتف الجوالة، الذي فرضته حكومة بنجلاديش، إلى انزلاق الظروف إلى الأسوأ. وعلى الرغم من مخاطر الرحلة، يقول بعض سكان المخيم، إن الانتقال إلى جنوب شرق آسيا قد ما يزال يستحق العناء. ويقول لاجئ نجح في الفرار إلى بنجلاديش في عام 2017 إنه إذا كان بمقدوره توفير التكاليف، لأرسل أبناءه إلى ماليزيا. بينما كَالَ آخر اللعنات على الأموال التي فقدها من جرَّاء رحلة فاشلة في موسم إبحار سابق.
يقول سراجول مصطفى، الذي يعيش في مخيم كوتوبالونج، أكبر مستوطنة للاجئين في العالم: «يبحث الناس دائمًا عن حياة أفضل يشعرون فيها بالأمان. ويواصل السماسرة إغراءاتهم. ويخاطر الناس بحياتهم غير عابئين بالعواقب».
واختتمت المراسلة تقريرها قائلة: من كوخ الخيزران الخاص به في مخيم كوتوبالونج، لخَّص محمد نور حالة الروهينجا فقال: «لم يكن هناك أمل كبير فيما مضى، ولكن الآن ليس هناك أي بارقة أمل».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».