أعرب بعض الخبراء والدبلوماسيين المخضرمين عن عدم اقتناعهم بانفتاح روسيا على مفاوضات السلام مع أوكرانيا، وحذَّروا من إمكانية استخدام الكرملين للمفاوضات لكسب مزيدٍ من الوقت وإعادة تنظيم صفوف القوات الروسية في ميدان المعركة. وهذا ما أبرزته مجلة «فورين بوليسي» في التقرير الذي أعدّه كلٌ من إيمي ماكينون، مراسلة شؤون الأمن القومي والاستخبارات، وروبي جرامر، مراسل شؤون الدبلوماسية والأمن القومي.

وفي مطلع التقرير، يُشير المراسلان إلى اللقاء الذي عُقد بين وفدَيّ المفاوضين الروس والأوكرانيين يوم الثلاثاء في إسطنبول لإجراء محادثات سلام تُمهِّد الطريق أمام وضع حد للحرب الدامية المستمرة منذ أكثر من شهر في أوكرانيا، بعدما تسبب الغزو الروسي في حدوث أكبر أزمة إنسانية وأزمة لاجئين تشهدها قارة أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن كلا الطرفين أشارا إلى استعدادهما لتقديم تنازلات، بما فيها إعلان موسكو عن خطط لتقليص هجومها على العاصمة الأوكرانية كييف، إلا أن كبار المسؤولين الغربيين والدبلوماسيين المخضرمين حذَّروا من التعامل بجدية مع تعهدات روسيا بشأن مفاوضات السلام.

دولي

منذ سنة واحدة
جيرهارد شرودر.. هل ينجح صديق بوتين الألماني الذي يعمل على إنهاء الحرب؟

وفي هذا الصدد، صرَّح وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكين، للصحفيين خلال رحلته إلى المغرب يوم الثلاثاء أن «روسيا تقول شيئًا، وتفعل شيئًا آخر. ولم أرَ أي شيء يُوحي بأن المفاوضات تمضي قدمًا». وقد أفاد مسؤولون أوكرانيون أن روسيا شنَّت غارة، قبل محادثات إسطنبول، أدَّت إلى تدمير مبنى الحكومة المحلية في مدينة ميكولايف الواقعة على الساحل الجنوبي لأوكرانيا، مما أسفر عن مقتل 12 شخصًا وإصابة 22 آخرين على الأقل.

تقدم ملموس في المفاوضات وتحوُّل في الإستراتيجية الروسية

يُوضِّح التقرير أن المفاوضين الأوكرانيين والروس اجتمعوا لعدة ساعات في إطار محادثات استضافها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول يوم الثلاثاء. وفي حديثه خلال المؤتمر الصحفي، وصف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو المحادثات بأنها «التقدم الأهم الملموس منذ بدء المفاوضات»، وذلك على الرغم من عدم تحقيق أي إنجاز ملحوظ بشأن إنهاء الحرب –بحسب المراسلَيْن.

Embed from Getty Images

وعلى الرغم من أن القوات الروسية فشلت في تحقيق هدفها الأوليِّ الذي قال عنه التقرير إنه يتمثل في الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية وإطاحة حكومة البلاد، كان الخبراء تنتابهم الريبة من أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستعدًا للتخلي عن هذا الهدف بعد شهر واحد فحسب من بداية الحرب.

وتقول أندريا كيندال تيلور، زميلة أولى ومديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز الأمن الأمريكي الجديد، إننا «لا نعرف ما الذي يفهمه بوتين بشأن كيفية سير الحرب في أوكرانيا، وسأكون متفاجئة إذا كان مستعدًا بالفعل لتقليص أهدافه السياسية. لقد استعدَّ للتو على الجبهة الداخلية من ناحية حشد الجمهور للدعم».

وألمح التقرير إلى أن كبار مسؤولي الدفاع الروس أشاروا، في الأيام الأخيرة، إلى حدوث تحول في الإستراتيجية الروسية للتركيز أكثر على شرق أوكرانيا، حيث يخشى عدد من المحللين من إمكانية تطويق الآلاف من القوات الأوكرانية المتمركزة في المنطقة، وفصلها عن سائر القوات المسلحة في أوكرانيا. وتوضح أندريا كيندال تيلور، التي خدمت في وكالة المخابرات المركزية سابقًا بوصفها محللة بارزة للشؤون الروسية، أن «جزءًا من هذا التحول الإستراتيجي قد يتعلق بمحاولتهم تطويق القوات الأوكرانية في تلك المنطقة، ومن ثم إذا تحقق ذلك، فسيكون بمقدورهم من جديد التحرك نحو كييف أو غيرها من المناطق».

ومن جانب آخر، أشار خبراء آخرون إلى أن الكرملين لديه تاريخ سابق من استخدام مفاوضات السلام ستارًا للحيلولة دون إحراز تقدم ملموس وتحقيق انتصارات دعائية، كما حدث في عدة جولات من محادثات السلام الفاشلة في عام 2014، بعد ضم روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم ودعم المقاطعات الانفصالية في شرق أوكرانيا. وأعربت ماري يوفانوفيتش، دبلوماسية أمريكية مخضرمة وشغلت منصب سفيرة الولايات المتحدة في أوكرانيا من 2016 إلى 2019، عن أنها كانت «تتشاءم» عندما يتعلق الأمر بأي محادثات دبلوماسية مع روسيا.

وأضافت ماري، خلال حضورها إحدى الفعاليات التي نظمتها شركة «كوهين جروب» الاستشارية يوم الثلاثاء في واشنطن أن «هذا تكتيك روسي معروف لاستخدام المفاوضات لتغيير الحقائق على أرض الواقع». موضحةً أنه «في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا أنها ستبدأ المرحلة الثانية من عملياتها العسكرية في أوكرانيا وتُقلص أنشطتها العسكرية بالقرب من كييف، فإن قواتها ما زالت تقصف أوكرانيا بالكامل فيما يبدو وكأنها إستراتيجيتها القديمة نفسها والإرهاب القديم نفسه ضد أهداف مدنية».

هل تتحول المحادثات إلى مفاوضات حقيقية؟

يلفت التقرير إلى أن المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين شاركوا، خلال الأشهر التي سبقت الحرب في أوكرانيا، في عدة جولات من اللقاءات الدبلوماسية مع نظرائهم الروس، ولكن دون تأثير يُذكر. تقول أندريا كيندال «أعتقد أن الأهداف التي كانت تسعى روسيا لتحقيقها في المفاوضات التي سبقت اندلاع الحرب يُمكن أن تنطبق تمامًا على أهدافها في المفاوضات الحالية. وفي كلتا الحالتين، كان الأمر يتعلق بكسب الوقت لإعادة حشد قواتها وتنظيم صفوفها وإعادة تقدير الوسائل التي يُريدون من خلالها تحقيق أهدافهم».

ومع ذلك، استدركت ماري يوفانوفيتش قائلة إن: «المحادثات يُمكن أن تضع الأساس لتحقيق إنجازات دبلوماسية في المستقبل. وأعتقد أنه من المهم جدًّا أن يستمر الأوكرانيون والروس في المحادثات. وسوف يتطور الحوار بينهما في مرحلة ما إلى محادثات حقيقية. لكن هذا لا يعني أن روسيا في هذه المرحلة تتفاوض بحسن نية كما يبدو».

Embed from Getty Images

وأبرز التقرير أن اجتماع الثلاثاء الذي انعقد في تركيا، عضو حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تربطها علاقات جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، هو أول محادثات مباشرة تُعقد منذ أسابيع بين فريقي مفاوضات كييف وموسكو. وكانت بيلاروسيا، الحليف الوثيق لموسكو، قد استضافت محادثات سابقة بين الفريقين.

وفي السياق ذاته، أشار الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، خلال الأسابيع الأخيرة إلى أنه لا يمانع في الحديث عن مستقبل الأراضي الأوكرانية التي تحتلها روسيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى إمكانية تنازل أوكرانيا عن تطلعاتها للانضمام إلى الناتو مقابل ضمانات أمنية قوية من الغرب. وفي محادثات الثلاثاء، قدَّم ميخايلو بودولياك، كبير وفد المفاوضين الأوكراني، سلسلة من المقترحات بشأن هذه المسائل، على الرغم من أنه لم يتضح كيف ستطبَّق من الناحية العملية.

واستشهد التقرير بتغريدة بودولياك على تويتر، والتي أشار فيها إلى أن أوكرانيا تسعى إلى صياغة معاهدة ذات «نظير مُحسَّن للمادة الخامسة» من بند الدفاع الجماعي للوثيقة التأسيسية الخاصة بحلف الناتو، والتي ستلزم الدول الضامنة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بالدفاع عن أوكرانيا في حال تعرضها لهجوم مستقبلي. وكانت الدول الغربية قد امتنعت عن التدخل بصورة مباشرة في الحرب على أوكرانيا، مع تحذير الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن تدخل الولايات المتحدة قد يُشعل شرارة الحرب العالمية الثالثة.

وقدَّم بودولياك أيضًا اقتراحًا أوكرانيًّا لحل وضع شبه جزيرة القرم من خلال الوسائل الدبلوماسية، على الرغم من أنه لا يلوح في الأفق أن موسكو مستعدة في أي وقت من الأوقات للتخلي عن سيطرتها على شبه جزيرة القرم، بحسب التحليل.

طريق طويل أمام المفاوضات

يُنوِّه التقرير إلى أن موسكو تراجعت نوعًا ما عن بعض مطالبها التي أكدت عليها مع بداية اندلاع الحرب. وأفادت صحيفة «فاينانشيال تايمز» يوم الاثنين أن روسيا تخلت عن هدفها المتمثل في «تشويه سمعة أوكرانيا» ولن تعترض على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، بشرط أن تظل غير منحازة عسكريًّا.

Embed from Getty Images

وفي يوم الثلاثاء، قال فلاديمير ميدينسكي، كبير وفد المفاوضين الروس، إن انسحاب موسكو من محيط كييف لا يُعد بمثابة وقف لإطلاق النار، مشيرًا إلى أن المفاوضات لا يزال أمامها طريق طويل يتعين على الطرفين قطعُه. وأضاف ميدينسكي أن عقد لقاء بين بوتين وزيلينسكي يُمكن أن يكون ممكنًا بمجرد التوصل إلى اتفاق نهائي. وخلال مقابلة أجراها مع وكالة أنباء «تاس» الروسية، أكدَّ ميدينسكي قائلًا: «ومع ذلك، ومن أجل التحضير لمثل هذا الاتفاق على أساس مقبول للطرفين، لا يزال أمامنا طريق طويل يتعين علينا أن نقطعه».

وقد أثار تعيين ميدينسكي كبيرًا للوفد الروسي للمفاوضات شكوكًا عديدة بشأن التزام موسكو بالمحادثات، نظرًا لأن ميدينسكي كان وزير ثقافة سابق ويُعرف بتوجهه المحافظ المتشدد، كما وُجِّهت إليه اتهامات، مثل بوتين، بإعادة كتابة التاريخ من أجل تحقيق أهداف سياسية. ويقول أندريه كوزيريف، الذي شغل منصب وزير الخارجية الروسي خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي، إن: «ميدينسكي مجرد شخصية بارعة في الحملات الدعائية في واقع الأمر. وهو ليس دبلوماسيًّا، وهذا ما جعلني منذ البداية أعتقد أن هذه المفاوضات ليست حقيقية». بحسب ما يختم المراسلَيْن تقريرهما.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد