نشرت مجلة «فورين بوليسي» تقريرًا أعدَّه كولام لينش، أحد كبار كُتَّاب المجلة الأمريكية، عن كتابٍ جديدٍ يتناول بالتفصيل كيف قام مؤسسو دولة جنوب السودان بتجنيد عشرات الآلاف من الأطفال قسرًا للمشاركة في معارك جيش جنوب السودان الضارية.

نقل الأطفال إلى إثيوبيا

يستهل الكاتب تقريره بالإشارة إلى أن جون جرنج، زعيم المتمردين في جنوب السودان الذي أرسى الأساس لاستقلال بلاده، أصدر في أوائل عام 1987 أمرًا بثَّته الإذاعة لقادته الميدانيين قال فيه: اجمعوا الأطفال من القرى التي يعيشون فيها بجنوب السودان، وانقلوهم إلى معسكرات في إثيوبيا على متن سفن حتى يتلقَّوا تدريبات عسكرية، ثم ليعملوا لاحقًا بوصفهم جنود أطفال حركة الاستقلال.

ويُمثِّل هذا الأمر إقرارًا رسميًّا من جانب زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان لسياسةٍ تمخَّض عنها التجنيد الإجباري لعشرات الآلاف من أطفال جنوب السودان الذين يُشكِّلون الجيش الأحمر، وهو قوة غير معروفة من الجنود الأطفال داخل الجيش الشعبي لتحرير السودان.

وتقدم كارول بيرجر، عالمة الأنثروبولوجيا والمراسلة الأجنبية السابقة، في كتابها «الجنود الأطفال في الجيش الأحمر الأفريقي» الذي يستند إلى بحث عميق، معلومات تفصيلية عن ظهور جناح الشباب التابع للجيش الشعبي لتحرير السودان، والذي أدَّى دورًا حاسمًا، وإن كان لا يُعترَف به إلى حد كبير، في أحداث التمرُّد التي دامت عقودًا بجنوب السودان ضد الخرطوم، وبلغت ذروتها في استقلال جنوب السودان عام 2011.

ووفقًا للبحث الذي أجرته كارول بيرجر، فُصِلَ عشرات الآلاف من الأطفال، الذين لا تتجاوز أعمار بعضهم خمسة أعوام، قسرًا عن عائلاتهم في جنوب السودان، وتلقَّوا تدريبات في معسكرات عسكرية إثيوبية، وجُنِّدوا في صفوف الجيش الشعبي لتحرير السودان. وعندما أطاح تحالفٌ يتألف من مجموعات متمردة الرئيسَ الإثيوبي منجستو هايلي مريام، الذي كانت له أيادٍ بيضاءَ على متمردي جنوب السودان، في عام 1991 تخلَّى الجيش الشعبي لتحرير السودان عن آلاف المجنَّدين الذين شقُّوا طريقهم سيرًا على الأقدام إلى الحدود مع كينيا.

أطول صراع في أفريقيا

ويؤكد التقرير أن كارول تقتفي أثر أصول جيش الأطفال منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، بعد أن نفَّذ جرنج وغيره من الضباط السودانيين تمردًا عسكريًّا في مدينة بور، عاصمة ولاية جونقلي؛ ما أسفر عن بداية سيْر السودان في طريق أطول صراع في أفريقيا، الذي أدَّى إلى وفاة نحو مليوني شخص بسبب الجوع، والمرض، والانخراط في صراعات، وتسبَّب في طرد ملايين آخرين من سكان البلاد خارج منازلهم.

Embed from Getty Images

أثناء الفوضى التي أعقبت تلك الأحداث، التي تضمَّنت تنفيذ ميليشيات عربية مدعومة من السودان غارات واسعة النطاق على قرى قبيلة الدينكا التي تقع في شمال بحر الغزال، وعلى بلدات في جنوب ولاية كردفان، فرَّت أعداد غفيرة من المدنيين في جنوب السودان، بما فيهم الأطفال، من منازلهم ولجأوا إلى مخيمات اللاجئين الإثيوبيين في مدن إيتانج، وبونجا، وبانيدوت.

ويستدرك الكاتب قائلًا: بيد أن الجيش الشعبي لتحرير السودان وجد فرصة تمثَّلت في استغلال هذا المصدر المهيأ من الفتيان والمراهقين الذين يمكن إجبارهم على العمل باعتبارهم نواة جيش مُتمرِّد في المستقبل. ومن خلال مساعدة قوات الأمن الإثيوبية، أنشأ الجيش الشعبي لتحرير السودان معهد بونجا للحرب الثورية، المعروف أيضًا باسم كلية بونجا العسكرية، لتدريب الأطفال على خوض الحرب.

وألقى الجيش الشعبي لتحرير السودان بشباكه على نطاق واسع حتى شملت الفتيان في مخيمات اللاجئين الإثيوبيين، وأطلق أول موجة من موجات التجنيد الإجباري الثلاث في قرى جنوب السودان. وانطلقت موجات تجنيد متتالية بعد اتفاق السلام الذي أُبرم عام 2005 وأنهى الحرب الأهلية، كما انطلقت أيضًا في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية التي حرَّضت رئيس جنوب السودان سلفا كير ضد نائبه رياك مشار.

حوادث مأساوية

ووفقًا للتقرير، واستنادًا إلى المقابلات المستفيضة التي أجرتها كارول مع مجندين سابقين، ترسم الكاتبة صورة قاتمة لحياة الشباب، الذين لقي كثير منهم حتفهم بسبب الجوع والعطش والغرق في رحلتهم الشاقة إلى إثيوبيا. وفي إحدى الحوادث المأساوية بصفة خاصة، حمل مشار مئات الأطفال على السطح السفلي لصندل مُحمَّل بالوقود والماشية في ميناء أدوك في ولاية الوحدة. وانقلب القارب وغرق نحو 500 طفل كانوا متوجهين إلى إثيوبيا.

وتعرَّض الأطفال الذين نجوا من هذه الرحلة للتعذيب المنتظم على أيدي مُدرِّبين عسكريين ساديين أقدموا على ضرب الأطفال وتجويعهم وقتلهم بسبب ارتكابهم مخالفات تافهة مثل التحدث خارج إطار اللباقة. وتضمَّنت العقوبات ضرب الأطفال ضربًا مُبرحًا وحرمانهم من الطعام لمدة تصل إلى 45 يومًا. وتذكَّر أحد المجنَّدين السابقين مدربًا عنيفًا بصفة خاصة، قائلًا: «إذا لم تصطفَّ اصطفافًا مثاليًّا، فسيقتلك (المدرب)».

وتشدِّد الكاتبة على أنه لطالما أكَّد قادة جنوب السودان على أنهم يرسلون الأطفال إلى المعسكرات من أجل التعليم، وأنهم استخدموهم في أدوار غير قتالية، مثل إعداد الطعام والعمل بوصفهم حرَّاسًا شخصيين لكبار ضباط الجيش الشعبي لتحرير السودان.

Embed from Getty Images

غير أن كارول تُفكِّك تلك الرواية وتستشهد بالجنود الأطفال السابقين الذين ادَّعوا أن الأطفال كانوا يُرسلون إلى خطوط الجبهات الأمامية، وفي بعض الأحيان كانوا لا يتلقون تدريبًا كافيًّا لإطلاق النيران. وتضمَّنت المهام الموكلة إلى حد كبير للشباب زرع الألغام الأرضية وإطلاق المتفجرات. وقال أحد المُجندين الشباب الذين برعوا في الرياضيات لكارول إنه كان مُكلَّفًا بقياس المدى الخاص بمدافع الهاون.

وقدَّم جرنج تصوُّرًا تكون فيه السودان بلدًا مُوحَّدًا واشتراكيًّا تُدار فيه الاختلافات الدينية والعِرقية من خلال هوية وطنية واحدة. ولكن جرنج، وهو مسيحي ويتمتع بشخصية كاريزمية وتلقى تعليمه في الولايات المتحدة، طوَّر علاقاتٍ وثيقة مع الإنجيليين الأمريكيين والمدافعين عن السياسة الليبرالية. وقد تواجه ضغوطًا شديدة حتى تعثر على حركة أفريقية أخرى تتمتع بالمستوى ذاته من الدعم من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي). وراهن قادة سياسيون محافظون، بمن فيهم بوش، وتقدميون أمريكيون مثل سوزان رايس على قُدرة جرنج على تحويل السودان إلى قوة موالية لأمريكا.

كيف تعاملت واشنطن مع التجنيد الإجباري في جوبا؟

وفي هذا الصدد تعاملت واشنطن بحذر شديد، بحسب الكاتب، مع حملة التجنيد الإجباري. وفي عام 2008 مرَّرت الولايات المتحدة قانون منع الجنود الأطفال، الذي يجرّم استخدام الجنود الأطفال، ويحظر تقديم المساعدة العسكرية للبلدان التي تستخدم الجنود الأطفال. وتُدرج واشنطن جنوب السودان كل عام على قائمة البلدان، التي تتضمن ميانمار، والعراق، ونيجيريا وغيرها من الدول، التي يستهدفها هذا القانون.

غير أن الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حدٍ سواء تغاضت عن تصرفات جوبا. وفي عام 2012 أصدرت إدارة أوباما أول إعفاء رئاسي لجنوب السودان؛ ما يسمح للولايات المتحدة بتمويل عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في السودان وجنوب السودان، على حد تعبير كارول. ويُجدَّد هذا الإعفاء الرئاسي سنويًّا منذ ذلك الحين.

وبدأ بحث كارول بقصة جانبية رائعة، ولكنها مأساوية في نهاية المطاف، في الملحمة السودانية؛ إذ أرسل الجيش الشعبي لتحرير السودان وجناحه السياسي، المُتمثِّل في الحركة الشعبية لتحرير السودان، مجموعة تتكون من 619 طفلًا ومراهقًا من الجيش الأحمر إلى كوبا بين عامي 1985 و1986، حيث تلقوا تدريبات سياسية، وطبية، وأيديولوجية، وعسكرية. وكان الهدف من هؤلاء الأطفال، الذين كان كثير منهم أطفالًا لكبار ضباط الجيش الشعبي لتحرير السودان، هو تشكيل رؤية السودان الاشتراكية الجديدة.

Embed from Getty Images

ويضيف التقرير: لكن الحركة التي خدموها بدأت تتَّخذ بالفعل اتجاهًا جديدًا. وبالعودة إلى الداخل أعلنت الحكومة السودانية جهادها ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبدأت جنوب السودان في التعرُّف على نحوٍ متزايد على مجموعاتها العِرقية والدينية. وتلاشت فكرة الدولة الاشتراكية الموحَّدة. ووجد الشباب أنفسهم في حالة عدم يقين بعد أن قضوا أكثر من عقد في كوبا.

وهاجر نحو 200 طفل إلى كندا، حيث عملوا في مسلخ ليكسايد باكرز، وهو أكبر مسلخ للماشية في كندا حينئذ، ويقع خارج بلدة بروكس الصغيرة، على بُعد ساعتين بالسيارة شرقي مدينة كالجاري.

وتختم الكاتبة تقريرها بالإشارة إلى أن الأطفال الذين عادوا إلى السودان إما وجدوا أن عائلاتهم، الذين قاد بعضهم التمرُّد ضد جرنج، لم يعد أحد يهتم بأمرهم، أو واجهوا العداء والشك في أوساط صغار ضباط الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذين قاتلوا طوال الحرب، وأعربوا عن خوفهم من أن تحل الكوادر التي تلقَّت تدريباتٍ في كوبا محلهم. وغالبًا ما كان يرسلهم الضباط إلى خطوط المواجهة الأمامية، حيث قُتل معظمهم. وتقول كارول: «تمثَّلت النتيجة في إرسال جنود على درجة عالية من التخصص ممَّن تدربوا في كوبا إلى خطوط المواجهة الأمامية باعتبارهم علفًا للمدافع».

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد