دعا محلل شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المخضرم، ستيفن كوك، في مقالٍ له على موقع «فورين بوليسي» العالم إلى الكف عن دعم نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أهدر مليارات الدولارات على مشروعات «ذات قيمة مشكوك فيها، في الوقت الذي يعاني فيه المصريون من أوضاع اقتصادية صعبة»، وفق تعبير كوك.
يذكر كوك الحريق المروِّع الذي حدث مؤخرًا في كنيسةٍ قبطية في حي إمبابة بالقاهرة الكبرى، والذي أدَّى إلى مقتل 41 شخصًا، بينهم 18 طفلًا. وهي أحدث حلقة في سلسلةٍ من الكوارث التي حلَّت بالمصريين مؤخرًا. منذ يناير (كانون الثاني) 2021. شهدت مصر انهيارًا في المباني وحوادث قطارات ومجموعة متنوعة من المصائب الأخرى بما ينذر بالخطر، مما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى. تعكس هذه الحوادث موجة الكوارث التي عانى منها المصريون في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الطويل.
إذا كانت مصائب أواخر عهد مبارك قد ساهمت في عدم الاستقرار في مصر، فهل يمكن لمآسي مماثلة فعل الشيء نفسه؟
يتساءل كوك ويجيب: نعم بكل تأكيد. وإذا كان عدم الاستقرار هذا قد ساهم في سقوط مبارك، فهل يمكن أن يحدث الشيء نفسه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؟ ربما، لكن من المحتمل ألا يحدث ذلك. قد يبدو هذا غريبًا، خاصةً لأن المحللين غالبًا ما يستنتجون أنَّ الحكام قد يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل عندما يصبح عدم الاستقرار سِمةً من سمات السياسة. ومع ذلك، في مصر في هذه اللحظة، لا يبدو أن هذا هو الحال.
يواجه المصريون – مثل العديد ممن يعيشون في البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض في جميع أنحاء العالم – أزمة غذاءٍ ناجمة عن قوى خارجة عن سيطرة حكومتهم. كما أنهم يصارعون أزمة مالية من صُنع السيسي بالكامل. وكما اكتشف أسلافه، من الصعب تحقيق الرخاء في مصر.
إن عدد الأشخاص الذين ينضمون إلى القوى العاملة في البلاد كل عام هائل، وهناك مجموعة متنوعة من التحديات الهيكلية، لا سيما البيروقراطية الهائلة والجيش الذي يزاحم القطاع الخاص، وهي تعد حواجز أمام الاستثمار الأجنبي مما يعرقل النمو الاقتصادي الشامل.
يشير كوك إلى أنه في مواجهة هذا الواقع، اختار السيسي ومستشاروه خلق انطباعٍ بالثراء المجتمعي المتزايد. قام السيسي باستثمارات ضخمة في مجرى قناة السويس وأنظمة الأسلحة والمفاعل النووي، وبالطبع العاصمة الإدارية الجديدة لمصر. تؤكد صور ما تمَّ إنجازه، بالإضافة إلى التكلفة الضخمة لهذه المشروعات، جهود السيسي في محاولاته لإقناع المصريين بأن مصر في حالة نمو ولا يزال بإمكانها فعل أشياء عظيمة.
مشروعات ضخمة بلا دراسات جدوى
لكنَّ هذه المشروعات في الغالب «عملية احتيال»، وفق كوك. من المؤكد أنَّ جسر تحيا مصر الجديد شمال وسط القاهرة – وهو أوسع جسر مُعلَّق في العالم – جنبًا إلى جنب مع التقاطعات والجسور الجديدة التي ظهرت في مصر على مدار العقد الماضي، تعد تحسيناتٍ مهمة، والتي يمكن أن تسهم في تطوير الاقتصاد. لكنَّ مشروعات أخرى مضت قدمًا بقليلٍ من الدراسة، وقليل من التبرير الاقتصادي.
بلغت تكلفة عائد الاستثمار فيما أشار إليه البعض خطأً باسم «قناة السويس الجديدة» 8.5 مليارات دولار. والتي هي في الغالب مجرَّد توسعة جانبية بطول 21 ميلًا على طول القسم الشمالي من الممر المائي. كان الهدف هو تسريع العبور عبر القناة ومن ثم زيادة الإيرادات لمصر، لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان المبلغ القياسي للأموال التي تجنيها هيئة قناة السويس هو نتيجة هذا المسار أم بسبب زيادة الرسوم التي فرضت في السنوات الأخيرة على السفن التي تتحمل 12% من التجارة العالمية التي تمر عبر القناة.
يقول كوك إنَّ مصر لا تحتاج إلى مفاعل نووي، فلديها فائض من الكهرباء. وما المبرر لعاصمة جديدة تكلف نحو 60 مليار دولار؟
صحيح أنَّ القاهرة تعاني من فوضى المرور، وبنيتها التحتية سيئة، لكنّ المدينة الجديدة لا تُبنَى من أجل المصريين العاديين. من المقرر أن يكون مُجمَّعًا حصريًّا لموظفي الحكومة وكبار المسؤولين والنخب الأخرى. قد يكون النهج الأكثر حكمة هو تخصيص هذه الموارد لإصلاح بعض أكثر مشكلات القاهرة وضوحًا.
لقد دمَّر السيسي الميزانية العمومية لمصر. إنها واحدة من أكثر البلدان المُثقَلَة بالديون في العالم. تقترض الحكومة المصرية الأموال فقط لخدمة الفوائد على ديونها الحالية. وينقل كوك عن صديقٍ له من القاهرة قوله: «أصبح الجميع في القاهرة الآن خبيرًا في تحليل سياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. متى سيرفع أسعار الفائدة ومقدار الزيادة. الناس خائفون».
كما ينقل عن آخر قوله إنّ «الشيء الوحيد الذي يبدو أن الناس يتحدثون عنه هذه الأيام هو كم أصبح كل شيء مكلفًا وميعاد تخفيض قيمة العملة القادم». في عام 2016، خَفَّضَ البنك المركزي المصري قيمة عملة البلاد للامتثال لشروط صندوق النقد الدولي للحصول على قرض. ونتيجة لذلك، أصبح كل شيء بين عشيَّةٍ وضحاها أكثر تكلفة. لا عجب أن يخشى المصريون المزيد من تخفيض قيمة العملة. قد يكون تدهور الوضع المالي لمصر هو سبب استقالة رئيس البنك المركزي – أو إجباره على الاستقالة – مؤخرًا.
خلص بنك جولدمان ساكس مؤخرًا إلى أنَّ الحكومة المصرية بحاجة إلى تمويل بقيمة 15 مليار دولار فقط لتمويل أعمالها الإدارية فقط. إن رعاة السيسي السعوديين والإماراتيين وحتَّى القطريين في الخليج العربي قلقون بما يكفي لدرجة أنهم التزموا بتقديم 22 مليار دولار على مدى الأشهر القليلة الماضية. يزعم المسؤولون الحكوميون أنَّ أرقام بنك جولدمان مرتفعة للغاية، لكنهم يعترفون بأن مصر ستسعى للحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى القرض الذي حصلت عليه في عام 2016 والدفعتين الأخريين من الصندوق في عام 2020.
القروض لن تحل مشكلات مصر
يرى كوك أنَّ من المُرجَّح أن يقترح صندوق النقد الدولي برنامجًا سهلًا إلى حدٍّ ما، لكنه لن يكون خاليًا من الشروط أو التكلفة. وهنا تتقاطع حاجة السيسي السياسية لخلق انطباعٍ بالازدهار مع الواقع الموضوعي: على وجه التحديد، لم يفِ السيسي بما وعد به، بل دمَّر اقتصاد البلاد.
لا يؤخذ برأي المصريين في كيفية إنفاق رؤسائهم ثروات البلاد، وسوف يتحمَّلون الألم الإضافي المطلوب لتخفيف عجز الميزانية العمومية لمصر. من المحتمل أن يستلزم ذلك مجموعة من السياسات غير المرغوب فيها، من بينها التخفيض المذكور أعلاه لقيمة العملة، وكذلك خصخصة الشركات المملوكة للدولة – وهي مصادر الوظائف التي قد تختفي من قبل المُلَّاك الجدد، وزيادة الرسوم على كل شيء.
يتساءل كوك: إلى أيِّ مَدَى قد يكون المصريون مستعدِّين للتحمُّل؟ ويجيب بأن لا أحد يعلم. فمنذ أكثر من عقدٍ من الزمان، اعتقد العديد من المحللين أن المصريين سيكونون على استعدادٍ لتحمل الكثير – حتى جاء 25 يناير عام 2011، عندما أوضح المصريون أنهم ليسوا كذلك وأطلقوا ثورة. يبدو من المعقول أنَّ الضغوط الاقتصادية الإضافية ستدفع الناس مرَّةً أخرى إلى أقصى حدودهم ثم إلى الشوارع. لقد شهدنا هذا في جميع أنحاء العالم، ويبدو أنَّ هذا يحدث بشكل منتظم، من سريلانكا إلى الإكوادور والهند وإيران وكازاخستان وأماكن أخرى.
إنَّ قادة مصر على درايةٍ بالمخاطر. فعندما التقى السيسي بالرئيس الأمريكي جو بايدن على هامش اجتماع مجلس التعاون الخليجي الموسع في يوليو (تمُّوز) الماضي، كان الزعيم المصري مهتمًّا في الغالب بأسعار المواد الغذائية.
ربما يخشى المصريون من الاحتجاج الآن. هذا أمرٌ مفهومٌ بالتأكيد، بالنظر إلى أنَّ السجون المصرية تعجُّ بالمعارضين السياسيين الحقيقيِّين للحكومة الذين يتعرَّضونَ لظروف سجن مُروِّعة. ومع ذلك – يستدرك كوك – فإن القدرة القمعية للدولة المصرية ليست ضمانة ضد التعبئة الشعبية – كما أظهر عام 2011. في الواقع، كان لمبارك ميزة لا يتمتَّع بها السيسي. فالأخير ليس لديه حزب سياسي يُلقِي باللوم عليه مثلما فعل مبارك مع الحزب الوطني الديمقراطي.
نتيجة لذلك، يفتقد السيسي لطبقة دفاع عن النظام تمتع بها مبارك خلال جزء كبير من ولايته التي استمرت 30 عامًا. وهذا يعني أنَّ أجهزة الأمن الداخلي المصرية يجب أن تتصرَّف بأقصى درجات الوحشية من أجل جعل خروج المواطنين عن الخط أمرًا مكلفًا للغاية. ومع ذلك، فإن الاعتماد المفرط على العنف ينطوي على مخاطر كبيرة، من بينها إمكانية دفع الناس إلى ما بعد نقطة الخوف وجعلهم شجعانًا بما يكفي ليقولوا «ليس لدينا ما نخسره. لم نعد خائفين».
إذا أصبح عدم الاستقرار سمة أكثر بروزًا في السياسة والمجتمع المصري، يبدو من البديهي أن حكم السيسي قد يكون أيضًا في خطر. ومع ذلك، لا توجد بدائل ذات مصداقية للرئيس المصري الحالي، ومن ثم لا يوجد تهديد واضح لسلطته. على عكس عهد مبارك، حيث كان يمكن تَصوُّر وجود بدائل للرئيس.
على هذا النحو، لم تُظهر مراكز القوى الرئيسية – الجيش وأجهزة المخابرات وكبار القضاة وقيادة الشرطة – ميلًا كبيرًا للانفصال عن السيسي ومن المُرجَّح أن تظلَّ على هذا النحو حتى لو وجد المصريون بشكلٍ جماعي طرقًا للتعبير عن مظالمهم. ما الفائدة من استبدال ضابطٍ بآخر؟
بالطَّبع، إذا أصرَّ السيسي على أن يُعرِّض التماسك الاجتماعي في البلاد للخطر، فهذه قصَّةٌ مختلفة. كان هذا خطًّا أحمرَ تجاوزه كل من مبارك وخليفته محمد مرسي، مما دفع القيادة العسكرية العليا إلى عزلهما. وفق كوك.
إن الفجوة بين ديمومة السيسي والظروف السياسية في البلاد مهمة. فهي تشير إلى أنه في مصر، ما تراه هو ما تحصل عليه: زعيم راسخ على قمة بلد يقترب من الإفلاس – دعنا نسمِّي ذلك عدم استقرار سلطوي. تكمن المشكلة في أنه بينما يواصل السيسي الإنفاق على مشروعات ذات قيمة مشكوك فيها، يقع العبء على عاتق المصريين، مما يزيد من تدهور الظروف الرديئة التي يضطر الكثيرون للعيش في ظلها.
بمرور الوقت – وربما قريبًا – سيكون هناك حدٌّ لمقدار المساعدة التي يمكن أن تقدمها الدول الغنية لمصر نظرًا إلى الأزمات التي لا تُعدُّ ولا تحصى في جميع أنحاء العالم. سيكون ذلك سيئًا أولًا وقبل كل شيء للمصريين، ولكن يمكن أن يكون له أيضًا تأثير سلبي في الاستقرار في شمال أفريقيا والمشرق وحتى أوروبا.
أفضل شيء يمكن أن يفعله السعوديون والإماراتيون والقطريون والأمريكيون ومسؤولو صندوق النقد الدولي هو مقاومة فكرة أن مصر «أكبر من أن تفشل». قد يكون الأمر كذلك، لكن إنقاذ السيسي بأموالٍ مجانية وشروط صندوق النقد الدولي السهلة لن يؤدي إلا إلى إطالة أزمة مصر.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».