نظرًا لعدم وضوح استجابة دول المنطقة بشأن ما يجري في السودان، بل إن بعض دول المنطقة كانت داعمة للانقلاب العسكري الأخير، بات من المرجح أنَّ التدخلات الإقليمية في شؤون البلاد هي السبب في تعثُّر عملية الانتقال السلمي في السودان. وهو ما خلُص إليه خليل العناني، زميل أول في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن، في مقالٍ نشره موقع مجلة «ريسبونسبل ستيت كرافت» التابعة لمعهد كوينسي الأمريكي لفن الإدارة الرشيدة.
في مستهل مقاله يشير الكاتب إلى أنه في يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 نفَّذ الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان انقلابًا عسكريًّا، وأعلن حالة الطوارئ، وحلَّ مجلس السيادة السوداني، وأقال الحكومة المدنية واحتجز رئيسها عبد الله حمدوك وفريقه الوزاري، إلى جانب اعتقال نشطاء وشخصيات سياسية أخرى.
بينما أعرب المجتمع الدولي سريعًا عن رفضه للانقلاب وضغطَ من أجل عودة الحكومة المدنية والإفراج الفوري عن المعتقلين، كانت استجابة دول المنطقة غير واضحة، بل كان بعضها داعمًا للانقلاب. ويكشف هذا عن مدى تعقيد الأوضاع في السودان وتأثير الديناميكيات الإقليمية على المرحلة الانتقالية السياسية في هذا البلد.
انقلاب قيد الإعداد
يُوضح الكاتب أن الانقلابات العسكرية ليست غريبة على تاريخ السودان؛ إذ كان مثل غيره من دول أفريقيا والعالم العربي، تحت الحكم العسكري منذ عقود ولم يكن لديه حكومة مدنية منذ الانقلاب العسكري الذي نفَّذه عمر البشير في عام 1989 وأطاح بالحكومة المنتخبة آنذاك. وظل البشير في السلطة حتى أطاحت به الانتفاضة الشعبية السودانية في عام 2019. وبعد ذلك خضع السودان لترتيبات انتقالية من خلال شراكة بين القادة العسكريين والمدنيين الذين وقَّعوا اتفاق تقاسم السلطة في أغسطس (آب) 2019، لكن نظرًا لقدرته المؤسسية ونفوذه أصبح الجيش هو الحاكم الفعلي للسودان.
ومنذ أن أصبح البرهان رئيسًا للمجلس السيادي، تمكن من تهميش دور حكومة حمدوك داخليًّا وخارجيًّا حتى عَدَّها بعض المراقبين مجرد حكومة تابعة للجيش. وبالإضافة إلى ذلك تزايد شعور في أوساط ائتلاف «قوى الحرية والتغيير» مفاده أن المجلس العسكري السوداني لن يترك السلطة للمدنيين. وتجدر الإشارة إلى أن انقلاب البرهان حدث قبل شهر واحد فحسب من الموعد المحدد لتسليم قيادة مجلس السيادة في نوفمبر (تشرين الثاني) من العسكريين إلى المدنيين.
ومع ذلك أسهمت عدة عوامل في حدوث الانقلاب، مثل الخلافات والتوترات المتزايدة داخل ائتلاف «قوى الحرية والتغيير» بشأن كيفية التعامل مع الجيش والجدول الزمني لنقل السلطة إلى المدنيين. وأدَّت هذه التوترات إلى إضعاف الكتلة المدنية وحدثت انقسامات كبيرة داخل صفوف الائتلاف. وكانت «قوى الحرية والتغيير» قد حذَّرت قبل يوم واحد من الانقلاب من حدوث ما وصفته بـ«انقلاب زاحف»، وهو ما يُشير إلى وجود فجوة انعدام ثقة متزايدة بين الائتلاف والجيش. واستغل البرهان السخط الشعبي من حكومة حمدوك والاحتجاجات التي اندلعت قبل أيام قليلة من الانقلاب بسبب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
محور إقليمي للثورة المضادة
يلفت العناني إلى أن انتفاضات الربيع العربي واجهت ثورة مضادة شرسة من بعض دول المنطقة بهدف تقويض أي انتقال ديمقراطي في العالم العربي وإجهاضه. ويُؤمن محور الثورة المضادة، بقيادة الإمارات والسعودية ومصر، إيمانًا راسخًا بأن الديمقراطية تُشكل تهديدًا وجوديًّا على حكمهم ويمكن أن تُؤدي إلى نشر الفوضى وعدم الاستقرار، كما يرى محور الثورة المضادة ضرورة التصدي لأي دعوات للتغيير السياسي في المنطقة والقضاء عليها مهما كانت التكلفة.
وعلى مدى العقد الماضي، أسهمت هذه الدول إسهامًا كبيرًا في الصراعات السياسية المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة، من اليمن إلى سوريا ومن مصر إلى تونس. وتستخدم هذه الدول نفوذها السياسي، والاقتصادي، والماليئ والدبلوماسي، من أجل التأثير على ديناميكيات الانتفاضات الداخلية وتشكيل نتائجها.
وبحسب العناني، فقد بدأت الموجة الحالية للثورة المضادة في مصر خلال صيف عام 2013، عندما أطاحت بالرئيس الراحل محمد مرسي، أول رئيس منتخب في مصر. واستطاعت الإمارات والسعودية والكويت، من خلال ضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد المصري المتعثر والهش، عكْس مسار تيار الربيع العربي ودعم قائد الجيش المصري آنذاك، عبد الفتاح السيسي؛ ليصبح حاكمًا لمصر. ومنذ ذلك التاريخ تغيرت ديناميكيات المنطقة بأسرها.
وبقي بشار الأسد في منصبه رئيسًا للنظام السوري، على الرغم من المذابح التي ارتكبها في حق السوريين وتشريد الملايين منهم داخليًّا وخارجيًّا. وانزلقت ليبيا واليمن في حرب أهلية مدمرة في ظل التدخل العسكري والمالي والسياسي لثلاثي الثورة المضادة: الإمارات، والسعودية، ومصر. وأخيرًا تعثرت عملية الانتقال إلى الديمقراطية في تونس بسبب الانقلاب البطيء (انقلاب قيس سعيد)، وأُسدل الستار على قصة النجاح الوحيدة للربيع العربي.
ولذلك، ليس مستغربًا أن تكون هذه الدول الثلاث، ومعها إسرائيل، متورطة بدرجات متفاوتة في الأزمة السياسية الحالية في السودان. وبالفعل أدَّت بعض هذه الدول دورًا رئيسًا في دعم انقلاب البرهان وقدَّموا له الدعم السياسي والدبلوماسي لمواجهة الضغط الدولي وتخفيف حدته.
رهانات مصر الكبيرة في السودان
ويُنوِّه الكاتب إلى أن رد فعل مصر على انقلاب البرهان يكشف إلى أي مدى يُمكن أن يؤثر اللاعبون الإقليميون على الأوضاع السياسية في السودان. ولم تعلن مصر عن إدانة الانقلاب في السودان ولم تُطالب بعودة الحكومة المدنية. ولعبت دورًا محوريًّا في دعم الانقلاب؛ إذ أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا قصيرًا على صفحتها على «فيسبوك»، دعت فيه جميع الأطراف السودانية إلى ممارسة «ضبط النفس وإعطاء الأولوية للمصلحة العليا للسودان». والأهم من ذلك، أنه في الوقت الذي دعا فيه حلفاء مصر الإقليميون (السعودية والإمارات) إلى عودة الحكومة المدنية، طلبت مصر صراحة من البرهان إقالة حمدوك.
وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، زار الخرطوم قبل الانقلاب والتقى البرهان وقال له: «يجب أن يرحل حمدوك». وبحسب التقرير، زار البرهان القاهرة سرًّا في إحدى الليالي قبل الانقلاب والتقى بالسيسي لتأمين دعمه السياسي للانقلاب. وبعد الانقلاب، بذلت مصر جهودًا مضنية لتشكيل لوبي إقليمي يمكن أن يوفر الدعم السياسي والدبلوماسي لبرهان ويخفف من الضغوط الدولية المتزايدة عليه لإنهاء الانقلاب وإعادة حمدوك إلى منصبه. وكان البرهان مضطرًا في نهاية المطاف إلى الامتثال للاتفاق السياسي الجديد المُوقَّع مع حمدوك في 21 نوفمبر.
ويؤكد الكاتب على أهمية الإجابة عن سؤالٍ يتعلق بأسباب دعم مصر لانقلاب البرهان موضحًا أن ذلك يساعد في تفسير موقف القاهرة من الأزمة الحالية في السودان. أولًا: ليس للنظام المصري الحالي مصلحة في وجود حكم مدني في السودان، ناهيك عن حكم ديمقراطي. ولن يسمح نظام السيسي، الذي جاء إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في عام 2013، لأي انتقال ديمقراطي أن يتحقق على حدوده الجنوبية أو الغربية؛ إذ يرى النظام هذا الأمر تهديدًا وجوديًّا لا يمكن قبوله أو التسامح معه.
ثانيًا: تقع الخرطوم ضمن حدود الأمن القومي للقاهرة، لأن مصر تنظر إلى السودان بوصفها جزءًا من عمقها الجيوإستراتيجي وبوابتها الوحيدة إلى أفريقيا. لذلك، فإنه أمر بالغ الأهمية لمصر أن تكون حكومة السودان متعاونة (إن لم تكن خاضعة) حتى يتسنى لها ممارسة النفوذ وضمان الدعم الكامل. ولن يوفِّر للقاهرة مثل هذا النفوذ السياسي سوى الجيش السوداني فحسب؛ لأن أي حكومة مدنية منتخبة لن تسمح للسودان بأن يصبح مجرد دمية في قبضة النظام المصري.
ثالثًا: تعد قضية سد النهضة الإثيوبي أمرًا حيويًّا لمصر ولا يمكن حلها دون الحصول على دعم السودان الكامل. وقد أفاد تقرير «وول ستريت جورنال» أن مصر لم تكن راضية عن موقف حمدوك من سد النهضة «بسبب انفتاحه على إثيوبيا». وفي ظل العلاقات القوية التي طوَّرها الجيش المصري مع نظيره السوداني على مدار العامين الماضيين، ربما يؤدي ذلك إلى تعزيز موقف مصر تجاه إثيوبيا. وتعتمد مصر على دعم السودان المطلق في قضية سد النهضة، وهو أمر لا يمكن ضمانه إلا في ظل الحكم العسكري.
الإمارات والسعودية
ويشير الكاتب إلى أن الإمارات والسعودية ضخَّتا استثماراتٍ ضخمة في السودان خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير وبعد الإطاحة به في عام 2019. وفي عام 2015 انضم البشير إلى «قوات التحالف العربي» وقدَّم دعمًا عسكريًّا للحرب التي تقودها السعودية في اليمن.
وبعد رحيل البشير من السلطة، لم يستمر الدعم الإماراتي والسعودي للمجلس العسكري السوداني فحسب، بل زاد كثيرًا. وأقامت أبوظبي والرياض علاقات خاصة وقوية مع البرهان وحميدتي، ووفَّرتا لهما دعمًا سياسيًّا وماليًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا هائلًا من أجل ضمان ولائهما وتبعيَّتهما. لذلك فعندما نفَّذ البرهان انقلابه الأخير، كانت استجابة كلا البلدين متماثلة لكنهما لم يُدينا الانقلاب بوضوح. وتأسيًا بمصر دعا البلَدَان الأطراف السودانية إلى ممارسة ضبط النفس ووقف التصعيد.
ويبدو جليًا أن الإمارات والسعودية لا ترغبان في رؤية أي تحركات في السودان باتجاه الحكم الديمقراطي، وذلك لأنهما، ومعهما مصر، يمثلان قوًى مضادة للديمقراطية، ومن أجل حماية مصالِحهما الإستراتيجية في المنطقة، يجب أن يسيطِرا سيطرة كاملة على النظام في الخرطوم. وتؤمن الإمارات والسعودية أن وجود حكومة مدنية في السودان قد يُؤدي إلى خسارة الدعم السياسي والعسكري السوداني ليس فقط للحرب في اليمن، ولكن في أماكن أخرى في المنطقة، وخاصة ليبيا، حيث يشارك كلا البلدين ويدعمان أمير الحرب خليفة حفتر. وتخشى أبوظبي والرياض أيضًا من أن وجود حكومة منتخبة في السودان قد تُغير توجهاتها السياسية تجاه لاعبين إقليميين آخرين مثل تركيا أو قطر أو إيران، وربما يؤثر ذلك على مصالِحهما.
خوف إسرائيل من خسارة السودان
وألمح الكاتب إلى أنه منذ الإطاحة بالبشير من منصبه، حاولت إسرائيل إقامة علاقات قوية مع المجلس العسكري السوداني، الذي أصبح الحاكم الفعلي للبلاد. ونجحت إسرائيل من خلال استخدام نفوذها السياسي مع الإدارة الأمريكية في عهد ترامب إلى جانب نفوذ الإمارات المالي في جرِّ السودان للانضمام إلى قائمة الدول العربية التي طبَّعت العلاقات معها.
وأقام المسؤولون الإسرائيليون، خلال العامين الماضيين، علاقات قوية مع البرهان وحميدتي، ويبدو كلاهما متحمِّسين للتطبيع مع إسرائيل مقابل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. وتراقب إسرائيل عن كثب الأوضاع في السودان منذ انقلاب البرهان على أمل ألا يُؤثر ذلك على عملية التطبيع بين البلدين.
ولم يكن من المستغرب أن يزور وفد إسرائيلي يضم أعضاءً من جهاز الموساد الإسرائيلي الخرطوم بعد أيام قليلة من الانقلاب لتقييم الوضع، والتأكد من أنه لن يؤثر على التطبيع. وفي إشارة إلى مدى تأثير إسرائيل على المجلس العسكري السوداني طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل استخدام علاقاتها مع البرهان لإنهاء الانقلاب.
ويختم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن انقلاب البرهان يكشف مدى تعقيد الديناميكيات الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والطرق التي يمكن من خلالها التأثير على الأوضاع في السودان. كما أنه يُعد أيضًا إثباتًا آخرَ على أن الربيع العربي لم يزل يُمثل تهديدًا أساسيًّا للأنظمة الاستبدادية في المنطقة وحلفائها، الذين هم على أتم الاستعداد للقيام بكل ما يلزم من أجل كبح جماح أي تحركات ناشئة تهدف إلى التغيير السياسي وإرساء دعائم الديمقراطية.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».