في أبريل (نيسان) الماضي، بعد أسابيع من الاحتجاجات التي نادى فيها المتظاهرون بنهايةٍ لحكمه المستمر منذ سنواتٍ طويلة بسبب ضيق العيش، أطاح الجيش حاكم السودان عمر البشير. وحلَّ محله مجلسٌ عسكري انتقالي بقيادة عبد الفتاح البرهان، ورجلٍ آخر لم يكن سوى يد البشير التي أطلقها في دارفور، يُعرف باسم «حميدتي».

ووسط التعتيم الحالي الذي تشهده السودان، وانقطاع خدمات الإنترنت، نشر ديكلان والش، مدير مكتب صحيفة «نيويورك تايمز» في القاهرة، تقريرًا عن حميدتي، وكيف يحاول تبرير حملة القمع العنيفة التي فضَّ بها الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش منذ أيام.

كل رجال البشير

أشار والش إلى أنَّ الفريق أول محمد حمدان، المعروف باسم «حميدتي»، كان في الماضي يتاجر في الإبل، ويقود ميليشيا مُتهمة بارتكاب إباداتٍ جماعية في دارفور، لكنَّه صار يتربع الآن على قمة هرم السلطة في السودان، مراقبًا الشوارع المحترقة بينما يجلس في مكتبه الفاخر داخل مبنى مقر قيادة الجيش الشاهق.

يتيح له مكتبه هذا في العاصمة الخرطوم رؤية المكان الذي أخلته قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي يرأسها من المتظاهرين أنصار الديمقراطية، وذلك في موجة من أعمال العنف بدأت في الثالث من هذا الشهر. وبحسب تقرير والش، أحرقت القوات المدججة بالأسلحة الخيام، واغتصبت النساء وقتلت عشرات الناس، وأغرقت بعضهم في مياه النيل، وفقًا لشهادة العديد من المتظاهرين وشهود العيان.

ويفيد الصحفي بأنَّ تلك المذبحة ساعدت في ترسيخ الصعود السريع للجنرال حميدتي إلى السلطة، الذي تشير معظم التقديرات إلى أنَّه الحاكم الفعلي للسودان. ويراه السودانيون دليلًا على واقعٍ كئيب: فعلى الرغم من نجاحهم في إطاحة البشير في أبريل الماضي، فإنَّ النظام الوحشي الذي خلّفه وراءه يبدو مُصمِّمًا على حماية سلطته.

وينقل والش عن آلاء صلاح (22 عامًا)، المرأة التي ارتدت ثوبًا أبيض وقادت الهتافات من فوق إحدى السيارات ولفتت انتباه العالم إلى الثورة السودانية: «كنَّا نعتقد بأنَّ ذلك سيحدث. لسنواتٍ ظل حمديتي يقتل ويحرق في دارفور، والآن وصلت دارفور إلى الخرطوم».

عبد الفتاح البرهان

أنا أو الفوضى

بحسب والش، لسنواتٍ كان الجنرال هو الطاغية الذي ينفذ أوامر الديكتاتور الوحشي الرئيس السابق عمر حسن البشير، الذي ترأس السودان لثلاثين عامًا. وعندما ملأ المتظاهرون الشارع في أبريل منادين بعزل البشير، أطاحه الجيش. وتخلى حميدتي حينها عن كفيله، زاعمًا مناصرة الثورة.

لكن حين رفض المتظاهرون الرحيل، وطالبوا بانتقال السلطة فورًا إلى حكمٍ مدني، رفض جنرالات الجيش الانصياع لطلباتهم، ومع تعثر محادثات التفاوض على اقتسام السلطة في الثالث من يونيو (حزيران) الجاري، بدأت قوات الدعم السريع حملتها القمعية لفض المتظاهرين.

ووفقًا لما أورده والش، فإنَّ الأطباء السودانيين يُقدِّرون عدد القتلى بنحو 118 شخصًا.

ويشير الكاتب إلى أنَّه في ظل تزايُد الضغوط الدولية، يرغب الجنرال حميدتي (45 سنة) في تقديم نفسه باعتباره منقذ السودان وليس مُدمِّره. إذ أخبر صحيفة «نيويورك تايمز» في حوارٍ قلَّما يُجري مثله: «لو لم أتولَ هذا المنصب لكان البلد قد ضاع».

لكنَّه بحسب والش رفض الإجابة عن الأسئلة المباشرة بشأن الاتهامات التي تزعم ارتكاب قواته أعمالًا وحشية، متذرعًا بالتحقيقات الجارية، التي على حد قوله ستنشر علنًا ما توصلت إليه في الأيام التالية. وأضاف في حواره مع والش: «لا أتهرب من الأسئلة، بل أنتظر نتائج التحقيقات».

أشار والش كذلك إلى أنَّه أثناء حديث حميدتي يوم الخميس الماضي، كان المبعوث الأمريكي الجديد المُعين قادمًا إلى الخرطوم من أجل الضغط على الجيش ليوقف هجومه على المدنيين. وقبلها بيومٍ واحد، أدان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رسميًا العنف المُرتكب في الخرطوم.

ودعا دونالد بوث المبعوث الأمريكي، والذي كان يتولى منصب السفير السابق في السودان، إلى إجراء تحقيقٍ مستقل في عمليات القتل التي وقعت يوم الثالث من يونيو، وإلى انسحاب الجيش من الخرطوم وإنهاء حجب شبكة الإنترنت الذي قطع اتصال السودان بالعالم الخارجي.

ومن جهته قال حميدتي إنَّ ما دفع قواته إلى التحرك كان «الأعمال الاستفزازية الدنيئة» من جانب المتظاهرين، كما وصفها.

فقال وهو يشير إلى عضوه الذكري: «واحدٌ من المتظاهرين أخرج هذا، ولوح به إلى جنودنا. ودُمرت واحدة من عرباتنا أمام أعيننا، وقاموا بتصوير بثٍ حيٍ لها. كانت هناك الكثير من تلك الأعمال الاستفزازية».

الربيع العربي

منذ 3 سنوات
أن تكون فردًا في قوات الدعم السريع.. قصة شاب من ميليشيا «الجنجويد»!

حميدتي هو الحاكم الفعلي

يرى والش أنَّ حميدتي، الرجل النحيل الطويل ذا التعليم الابتدائي والزوجات الأربعة، والذي يفتقر إلى أي تدريبٍ عسكري رسمي، يستمتع بالمظاهر التي يمنحها له منصبه الجديد.

ويصف كيف تحتشد حوله حاشيته ومستشاروه والندلاء داخل مكتبه في المقر الرئيسي للجيش، وكيف تُزين مكتبه الخزانة الموضوعة أمام بابه، تملؤها السيوف الذهبية والنياشين العسكرية الممنوحة إلى القادة العسكريين السابقين.

أما مقاتلوه، فيجولون أمام البوابات في العربات الحربية ذات اللون الكاكي، مستعرضين الأسلحة التي تفرض سلطته. وقد قام البعض منهم بتنظيف أكوام حجارة الرصيف من الشوارع المهجورة في الخارج، ما محا آثار الاحتجاجات الضخمة التي أطربت البلاد منذ أسابيع قليلة مضت.

ورغم أنَّ السودان يحكمه رسميًا الجنرال عبد الفتاح البرهان، وهو ضابط أقدم في الجيش يرأس المجلس العسكري الانتقالي، الذي تولى السلطة من البشير في الحادي عشر من أبريل الماضي، فإنَّ البعض يعتقد بأنَّ السلطة فعليًا تقع في يدي حميدتي، كونه يُحكم قبضته على الخرطوم.

ويشير والش إلى أنَّ المواطنين الغاضبين بدأوا منذ حالة الهياج التي اندلعت في الثالث من هذا الشهر يشيرون إلى رجال حميدتي بـ«الجنجويد»، تيمُنًا بالمليشيا العربية سيئة السمعة التي روَّعت الطوائف العرقية الإفريقية في دارفور في الألفينيات.

ويرى حميدتي في هذا الاسم إهانةً، إذ اكتسب هو نفسه مكانته من خلال قيادة ميليشيا مشابهة. وينقل والش عن حميدتي قوله: «كلمة جنجويد تعني قطاع طرقٍ يسرقونك في الشوارع. هذه ليست سوى دعاية مضادة من المعارضة».

ويؤكد على أنَّ قوات الدعم السريع تطورت تحت قيادته إلى ما هو أكثر من مجموعة من الغوغاء المحملين بالسلاح.

Embed from Getty Images

الميليشيات تحكُم

بحسب والش، هذه القوات يبلغ عدد مقاتليها 50 ألفًا، وفقًا لبعض التقديرات، واستُقدمت لقمع التمرد في أنحاء السودان، وللقتال لقاء أجرٍ في اليمن باعتباره جزءًا من الائتلاف الذي تقوده السعودية.

ويذكر كيف جعلت الحرب حميدتي ثريًا، وجعلت له مصالح في تعدين الذهب وأعمال البناء، بل وفي شركة لتأجير سيارات الليموزين. ومن بين داعميه، وليّ العهد السعودي العنيف الأمير محمد بن سلمان.

والآن تتحقق تلك المخاوف التي راودت السودانيين منذ زمنٍ بعيد، من أنَّ قواته ستهيمن على البلاد، القوات التي كان البشير قد روَّضها لسنوات حرسًا إمبراطوري يحمي كرسيه.

ويقول الباحث والصحفي جيروم توبيانا، الذي عمل في تغطية الصراعات في التشاد والسودان لأكثر من 20 عامًا: «كرر جنرالات الجيش وقادة دارفور من العرب تحذيراتهم من أنَّ تلك المليشيات أشبه بقنبلة موقوتة. والآن ها نحن ذا، وربما يكون الآوان قد فات للرجوع».

ويصف والش الوضع الحالي في الخرطوم، حيثُ تراقب قوات الدعم السريع العاصمة كالصقور، وتقف الشاحنات الصغيرة المُسلحة في تقاطعات الشوارع وعلى الكباري، أو تثير الفوضى في الشوارع الرملية بالمواكب الطويلة المزودة بمقاتلين يلوحون ببنادق القنص والقنابل ذات الدفع الصاروخي.

والبعض الآخر يعملون في المكاتب. ففي قصرٍ مكوَّن من خمسة طوابق في حي المنشية الراقي على ضفاف النيل الأزرق، يجلس الضباط مرتدين الملابس العسكرية في المكاتب المكيفة المزودة بالحواسب الآلية والطابعات.

وفي كل طابق، يفتح المصعد على ملصقاتٍ ضخمة تُظهر الجنرال حميدتي مبتسمًا، إما معانقًا أحد الفقراء أو يفتتح المدارس، أو في مقابلاتٍ مع قادة القبائل، بينما كاميرات المراقبة مُثبتة في الأسقف.

ويشير الكاتب إلى أنَّ هؤلاء الضباط يقضون وقتهم في محاولة صياغة تفسيرٍ للعنف الذي وقع يوم الثالث من يونيو، بعد أن واجهوا وابلًا من الإدانات الدولية، مصوِّرين فض الاعتصام بأنَّه حربٌ أخلاقية ضد المتظاهرين الفاسدين المسلحين المناصرين للديمقراطية.

وفي أحد المكاتب، يرأس الدبلوماسي السوداني السابق الجنرال نور الدين أحمد الوحدة المعنية بحقوق الإنسان لدى القوات. وعلى مكتبه يوجد جدول بالمحاضرات الموجهة إلى الجنود عن حقوق الإنسان. وعلى باب المكتب المجاور له هناك لافتة مُعلقة عليها عبارة «وحدة حماية الطفل».

ويرى والش في هذا مفارقةً، إذ أنَّ قوات الدعم السريع واجهت من قبل اتهاماتٍ بتجنيد الأطفال للقتال في اليمن، لكنَّ الجنرال أحمد أنكر تلك المزاعم، وأنكر أيضًا الشهادات بارتكاب الجنود أعمالًا وحشيةً في حملة الثالث من يونيو، واصفًا كلًا منهما «بالأخبار الكاذبة».

ودليله المزعوم كان في الطابق السلفي، حيث جمع ضابط المخابرات أشياء قال إنَّها صُودرت من المعتصمين: وهي سيف ومسدس قديم، وهراوات، وزجاجات أُفرغ نصفها من نوعٍ من الخمر السوداني «موون شاين»، وحشيش وأوقية ذكرية.

وأثناء عرض الأدلة، استدعى الجنرال إلى الغرفة خمس رجال حفاة الأقدام يرتدون ملابس قذرة ويطرقون برؤسهم إلى الأرض، بوصفهم عينة من الرجال الثلاثمائة الذين قال إنَّهم قبضوا عليهم. ولم يسمح بطرح أي أسئلة.

وبحسب والش، فهذه هي الدعاية نفسها التي تبثها القنوات السودانية الإخبارية، الواقعة حاليًا تحت رقابةٍ عسكرية صارمة. وحسبما أورد الصحفي، يقول المتظاهرون الذين اعتمدوا على شبكة الإنترنت لحشد الآراء ضد البشير، إنَّ في حوزتهم صورًا ومقاطع فيديو توثق أعمال العنف والقتل التي ارتكبها الجيش. لكنَّهم غير قادرين على نشرها في ظل انقطاع الشبكة.

وأورد في تقريره إفادة الدكتورة سُليمة شريف، رئيسة مركز «الأحفاد» للإرشاد وعلاج الصدمات النفسية في الخرطوم، بأنَّ طاقمها عالج عشرات النساء المصابات بالصدمة بعد تعرضهن للضرب والاعتداء من قوات الدعم السريع هذا الشهر.

وأضافت أنَّ 15 امرأة على الأقل تعرضن للاغتصاب، وضُرب عددٌ أكبر من ذلك في أعضائهن التناسلية من الجنود الحاملين للهراوات، بعد دخولهن السجن العسكري.

وحسبما قالت فإنَّ الرقم الحقيقي لضحايا الاغتصاب على الأرجح يفوق ذلك بكثير، نظرًا للحساسيات الثقافية والوصم الذي قد يتعرضن له.

كل ما يهم الجنرالات هو المال

في ختام تقريره، أشار والش إلى أنَّ الجنرال حميدتي، على غرار كثيرٍ من المستبدين، يقول إنَّ سمعته السيئة مُبالغٌ فيها. إذ صرَّح قائلًا: «يقول الناس إنَّ نفوذ حميدتي كبير وإنَّه شرير. لكن هذه ليست سوى تهويلات لإثارة الذعر. مصدر قوتي هو الشعب السوداني».

ومع ذلك، يوضح الصحفي أنَّ هناك علاماتٍ على أنَّ هيمنته على الخرطوم أثارت امتعاضًا وغضبًا داخل الجيش النظامي، حيث يراه بعض الضباط مغرورًا ووقحًا.

وهذه التوترات انفجرت إلى العلن الخميس الماضي، عندما قال المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي إنَّه أحبط ما يبدو محاولةً انقلابية قادها ضباطٌ من الجيش في الأسبوع الماضي. لكن يرى والش أنَّ إطاحة حميدتي لن تكون سهلة، وستتطلب من الجيش أن يبدأ حربًا أهلية في شوارع الخرطوم، حسبما قال مسؤول غربي في الخرطوم طلب عدم الإفصاح عن هويته نظرًا لحساسية الموقف العسكري. وأضاف المسؤول أنَّ هذا الأمر غير مُحتمل في الوقت الراهن.

وفي تقدير والش، فإنَّ الجنرالات في المستويات العليا بالسودان تجمعهم المصالح الاقتصادية المشتركة على اختلاف رتبهم. فبحسب سليمان بالدو من مشروع «كفاية»، الذي يهدف إلى إنهاء الأعمال الوحشية في مناطق النزاع الإفريقية، فإنَّ الجنرال حميدتي وجنرالات الجيش الآخرين صاروا تحت حكم البشير من كبار رجال الأعمال، واحتكروا قطاعات اقتصادية كاملة.

إذ يقول بالدو: «الأمر ليس مجرد سلطة فقط، بل يتعلق بالمال أيضًا. قادة الجيش ومعهم حميدتي متورطون في الفساد حتى أعناقهم، ولهذا لا يتسامحون البتة مع قيام حكمٍ مدني في السودان».

عربي

منذ 3 سنوات
60 يومًا في السُلطة.. هذه الأخطاء ارتكبها المجلس العسكري في السودان

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد