نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تقريرًا لمراسلتها في الشرق الأوسط، سارة دعدوش، تحدثت فيه عن أزمة الخبز التي أضافت عبئًا آخر على كاهل مواطني سوريا المنهكين. 

استهلت المراسلة تقريرها بالقول: يستيقظ أبو محمد وابناه صباح كل يوم لأداء صلاة الفجر، ثم يتناوبون في الذهاب مباشرةً إلى المخبز للحصول على حاجتهم من الخبز قبل أن يحين وقت ذهابهم إلى أعمالهم أو مدارسهم. يقول أبو محمد إنهم ينتظرون هناك لثلاث ساعات على الأقل، ومن ثم يصلون إلى أعمالهم في الوقت المحدد بشق الأنفس. ويضيف أن أطفاله غالبًا لا يدركون حصصهم المدرسية الأولى، وأحيانًا يضيع عليهم يومهم الدراسي بالكامل. 

طوابير الخبز الآخذة في الازدياد

وذكر أبو محمد في مقابلة أُجريت معه عبر الهاتف أنه في أحد المرات وقف منتظرًا دوره لسبع ساعات، ثم لثماني ساعات في اليوم الذي تلاه، وست ساعات أخرى في يوم لاحق. يقول أبو محمد: «وجدتُ أن عملي يتأثر سلبًا بهذا التأخير، وأنا بحاجة إلى العمل كي أعيش». 

وأبو محمد الذي رفض الإفصاح عن اسمه بالكامل خوفًا من مضايقات الأجهزة الأمنية، واحد من بين أعداد متزايدة من السوريين الذين يقفون في طوابير الخبز التي تبدو بلا نهاية.

Embed from Getty Images

تقول المراسلة: ربما كانت أزمة الخبز بمثابة الأزمة الأكثر وضوحًا وألمًا والتي تُدلل على انهيار الاقتصاد السوري. وأضافت أن كميات الخبز المدعوم الذي يمكن لمعظم العائلات شراؤه قد انخفضت إلى النصف أو أكثر، وتضاعفت أسعار الخبز المدعوم منذ أكتوبر (تشرين الأول)، على الرغم من التأكيدات الرسمية التي ظهرت في ربيع 2020، والتي نصَّت على أن رفع أسعار الخبز «خط أحمر» لا يمكن تجاوزه. 

وأفاد أبو محمد، وهو عامل في مصنع، وأب لخمسة أطفال، أن عائلته بحاجة إلى ثلاثة أو أربعة أكياس من الخبز يوميًّا. ويشتري أبو محمد كيسين من الخبز الرديء ومنخفض الجودة من مخبز حكومي، وتلك هي حصته الكاملة وفقًا لنظام دعم الخبز. وينتظر في صفوف طويلة أمام مخابز خاصة للحصول على بقية احتياجه اليومي، ولكنه يحصل على أرغفة خبز ذات جودة أعلى. ويضيف أنه عندما تضطره الحاجة لمزيد من الأرغفة، ويحالفه الحظ ليجد بعضًا من هذا الخبز المنخفض الجودة، يدفع 10 أضعاف السعر المقرر من الحكومة، وهو 50 سنتًا ثمنًا له إلى من يسميهم بـ«تجار الأزمات» في السوق السوداء.

ويشير التقرير إلى أن نقص الخبز خارج المدن الكبرى ربما يكون أسوأ حالًا. ففي مقابلة أُجريت مع أحد سكان مدينة طرطوس الساحلية عبر «فيسبوك»، ذكر هذا الشخص أن «الرجل الفقير الذي يعيش في القرية لا يملك الغاز، ولديه بعض الأخشاب التي يوقدها فحسب، ولم يعد يملك الخبز، ويصنع خبزه بنفسه». 

الخبز.. الضيف الرئيس في وجبات الطعام السورية

تصف المراسلة مكانة الخبز على المائدة السورية فتقول: ويأكل السوريون الخبز كل وجبة تقريبًا؛ إذ يُقطِّعونه قطعًا صغيرة تُمسك بإصبعين مُشكِّلةً جيبًا صغيرًا يغمس في الزبادي والزيتون لوجبة الإفطار، ويُتناول به الخضروات المحشوة في وجبة الغداء، وتُلف به الشاورما عند تناول وجبة متأخرة في الليل. 

والخبز السوري التقليدي أكبر حجمًا بكثير من خبز البيتا المعروف في الولايات المتحدة، وأرق قدًّا وأخفُّ وزنًا، ويُباع في حِزَم من سبعة أرغفة معبأة في أكياس بلاستيكية شفافة. وفي الآونة الأخيرة، فَزِع السوريون بعدما قل عدد الأرغفة في الأكياس.

عربي

منذ سنتين
بالأرقام.. كيف أصبحت الليرة ملطخة بالدماء في سوريا ولبنان؟

وفي مقابلة مع صحيفة الوطن الموالية للحكومة في وقت سابق من هذا الشهر، سعى وزير الزراعة حسن قطنا إلى تبديد السخط العام قائلًا: «دعونا نعُد إلى خَبْز خُبْزنا في منازلنا، بدلًا عن الانتظار في طوابير المخابز الحكومية». 

وألمحت المراسلة إلى المفارقة التي ترافقت مع ارتفاع أسعار الخبز؛ إذ تراجعت جودة الخبز، وازدادت الطوابير طولًا على نحو مثير للسخرية. وأصبح المواطنون الذين لم يكونوا يجرؤون على الشكوى من قبل خوفًا من حكومة بشار الأسد الاستبدادية يعبِّرون عن غضبهم اليوم. وتصاعدت حدة هذا الغضب بعد أن أعلنت صحيفة حزب البعث الحاكم في وقت سابق من الشهر الجاري اختفاء 500 طن من القمح أثناء إنزالها من السفينة. 

تناقص واردات القمح الروسية إلى النصف مع جائحة كورونا

ونوَّه التقرير إلى أن سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية استوردت أكثر من 1.1 مليون طن من القمح، وفقًا لموقع تقرير سوريا الذي يرصد اقتصاد البلاد. وكانت جميع هذه الواردات تقريبًا تأتي من روسيا، الحليف المهم لنظام الأسد، إلا أن جائحة كورونا أجبرت روسيا على الحد من صادراتها في وقت سابق هذا العام من أجل تأمين احتياجاتها المحلية. وقال مسؤول في مؤسسة الحبوب السورية هذا الشهر إن الشركات الروسية انسحبت من ستة عقود كانت قد أبرمتها مع سوريا؛ الأمر الذي قلَّص واردات سوريا من القمح الروسي إلى النصف تقريبًا. 

وفي الوقت نفسه، أدَّت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة الناجمة عن الحرب وسوء إدارة الحكومة السورية والعقوبات الأمريكية، وكذلك الأثر غير المباشر للانهيار المالي في لبنان المجاورة إلى تراجع قيمة الليرة السورية؛ ما جعل استيراد القمح باهظ التكلفة. كما عطلت الأزمة إنتاج المحاصيل وتسويقها. ومع أن القمح يُعد أكبر محصول في البلاد، إلا أن الاكتفاء الذاتي من القمح، الذي مثَّل حجر الزاوية في سياسة حزب البعث الحاكم لعقود، قُوِّض بالفعل بسبب الحرب والجفاف.

Embed from Getty Images

وتمزَّقت البلاد منذ 2011 بسبب الحرب الأهلية التي نشبت بعد أن انتفض السوريون ضد الأسد. وعانت المحافظات الثلاث الأكثر ثراءً بالأراضي الزراعية، وهي: حلب، والرقّة، والحسكة، بشدة من القتال الدائر بين الجيش السوري المدعوم من روسيا من جهة، والثوَّار المدعومين من الغرب، و«تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» المتطرف من جهة أخرى. ودُمِّرت على إثر ذلك الآلات الزراعية، وأصبحت طرق الشحن غير آمنة، في حين ارتفعت تكاليف الإنتاج. 

وفي حين أدَّت غزارة هطول الأمطار، وتحسن الوضع الأمني إلى مضاعفة حجم المحصول السنوي العام الماضي، وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، لم يزل الإنتاج المحلي البالغ 2.2 مليون طن يشكِّل نصف متوسط الإنتاج المحلي قبل بدء الأزمة. 

على مَنْ يقع اللوم: حكومة الأسد أم الولايات المتحدة؟

يشير التقرير إلى ما فعلته حكومة الأسد لحشد المواطنين المؤيدين حين ألقت باللوم على الولايات المتحدة باعتبارها السبب في أزمة الخبز، في إشارة ضمنية إلى تأثير العقوبات الأمريكية على الاقتصاد؛ إذ أعاقت هذه العقوبات قدرة سوريا على استيراد قطع غيار للآلات الزراعية، والمبيدات الحشرية. وعطلت العقوبات أيضًا المعاملات المالية الأمر الذي قلَّل من قيمة الليرة السورية، وفاقَم الأزمة الاقتصادية. وأثرت العقوبات الأمريكية بشدة أيضًا على واردات الوقود؛ ما أدَّى إلى اصطفاف طوابير من السيارات خارج محطات الوقود لمدد زمنية تصل أحيانًا إلى 10 ساعات.

وكانت وكالة الأنباء الرسمية (سانا) قد ألقت باللوم على الرئيس ترامب في حرائق الغابات التي أتت على محاصيل الحبوب، مدَّعية أن ترامب أمر مروحيات الأباتشي الأمريكية بحرق حقول القمح في محافظة الحسكة الواقعة شمال شرق البلاد. 

Embed from Getty Images

وظهر دارم طباع وزير التربية والتعليم في مقطع فيديو هذا الشهر في حقل ممسكًا بباقة من سنابل القمح، وحث الطلاب على زراعة محصول القمح. وقال: «أنتم الآن مدركون لأهمية حبوب القمح، عندما تقفون في طوابير المخابز، وعندما تستيقظون لتناول الإفطار، وعندما تعودون إلى المنزل بعد اليوم الدراسي». وقد قوبلت تصريحات الوزير بالسخرية على شبكة الإنترنت؛ إذ شعر النقاد بالحيرة من تصوير الوزير للقمح على أنه نبتة منزلية.

ربما لا توجد أزمة خبز في البلاد على الإطلاق!

على الجانب الآخر ذكرت بعض تقارير وسائل إعلامية موالية للحكومة، ومنشورات موالية أيضًا على «فيسبوك» أنه ليس هناك أزمة خبز في سوريا على الإطلاق. وهي التصريحات التي قوبلت بغضب شديد من المواطنين. وقال أحد سكان مدينة طرطوس، اشترط عدم ذكر اسمه خوفًا من بطش النظام، إنه غاضب على نحو خاص من الوزراء «الذين يجلسون في مكاتبهم، ويسخرون من معاناة الناس، ويعتقدون أن كل شيء على ما يُرام».

وتزايدت الطوابير أمام المخابز على نحو كبير لدرجة أن أحد مخابز العاصمة دمشق أقام سياجًا بارتفاع ستة أقدام لاحتواء الزبائن. وانتشرت صورة لرجال محشورين فيما يشبه الحظيرة أو القفص انتشارًا واسعًا على الإنترنت؛ ما أثار غضب السوريين في الداخل والخارج الساخطين من الظروف المهينة التي يعاني منها الشعب السوري، والتي تشبه السجن.

واختتمت المراسلة بجملة توحي أن لا حلول تلوح في الأفق لهذه الأزمة، قائلة: «ثم أزال المخبزُ السياجَ»!

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد