بينما يذهب الأطفال في مختلف أنحاء العالم إلى مقاعد الدراسة للتعلم عن الحياة، يمكث أطفال إدلب بين المقابر ليتعلّموا عن الموت والآلام فقط. حكاية مؤلمة ينقلها مراسل صحيفة «الإندبندنت» المختص بالشرق الأوسط ريتشارد هول وتقرير عن الجوانب التي يشهدها أطفال الحرب في سوريا في يومنا هذا.
حفّارو قبورٍ صغار
يجب أن يكون جواد ويزن على مقاعد المدرسةِ الآن يقرآن كتبهما ويتعلّمان عن الحياة، لكنهما يضطران إلى العمل اليومي لدعم أسرتهما حالهما حال الآلاف من الأطفال في محافظة إدلب السورية التي أنهكتها الحرب وشرّدت أطفالها من حيواتهم السابقة. حكاية هذين الطفلين تأتي أقسى وقعًا من مثيلاتها، إذ يعمل الصبيّان –بعمرِ ثمانية أعوام و15 عامًا- حفّاري قبور في مكانِ أصبحت مقابره تعج بالوافدين الجدد.
ليست وظيفة حفر القبور وظيفة منتظمة ليزن وجواد، لكنهما يؤديّانها يوميًا للحاجة إليها كما توضح الصحيفة. يحكي جواد –أصغر الأخوين- عن عملهما قائلًا: «أساعد والدي حين يأتي شخصٌ ما في حاجةٍ لدفنِ شخصٍ ميت، لذلك نحفر القبر معه ثم نردمه بالتراب وننظفه وكل شيء. نسقي الأشجار والورود وكل ما يطلبه أبونا منا» ويضيف جواد في المقابلة التي أجرتها معه منظمة أنقذوا الأطفال (Save the Children): «لا أخاف من العمل هنا لأنهم موتى جميعهم، الله يرحمهم كلهم، الله يرحمنا. عندما يموت المرء فقد انتهى عمره ولا نستطيع قول شيء غير ذلك».
- جواد -8 سنين- ويزن -15 سنة- في المقبرة التي يعملان بها حفّاري قبور. المصدر
حكاية طفولة مسروقة
يعمل الصبيان مع والدهما غسان في المقبرة في تخوم محافظة إدلب، حيث لقي أكثر من 500 شخص مصرعهم خلال الشهرين الأخيرين جراء هجمات النظام السوري المدعومة من روسيا على المنطقة بما في ذلك 130 طفلًا من بين الضحايا، وتعتبر محافظة إدلب آخر معاقل المعارضة السورية.
تسببت الغارات الجوية والقصف المستمر بحملات نزوح عظيمة مُفرِغةً البلدات والقرى في هذه المحافظة، وقد تضررت الكثير من المدارس جراء القصف أو تحولت ملاجئ للنازحين. أما المدارس التي ما تزال تعمل حتى الآن فإن قدرتها الاستيعابية تنحصر بين 300.000 إلى 650.000 طالب فقط وفقًا للمؤسسات الخيرية.
«إذا أردت اللعب يأتي رفيقي ويخرج لي طائراته وألعابه ونلعب. لكن الآن لم يبق أحد. كلهم ميتون. حين نزحنا نحن ماتوا هم.. بقصف الطائرات».
تنضمّ عائلة غسان إلى أرتال النازحين الذين يتجاوز عددهم مليون شخصٍ نزحوا من المناطق السورية المختلفة إلى إدلب ملاذًا أخيرًا لهم. يعود موطن هذه العائلة الأصليّ إلى محافظة حلب وقد فرّوا من هناك قبل تنفيذ النظام لهجومه على حلب بهدف استعادة المدينة والذي دمّر منزلهم بين منازلٍ كثيرة. تعيش عائلة غسان الآن في سكنات الإجار مثل بقية النازحين.
شهد أطفال هذه العائلة الكثير في حيواتهم بالرغم من أعمارهم الصغيرة، فقد عاشت العائلة مثلًا لفترةٍ وجيزة تحت حكم داعش، وهي فترة ما تزال تؤرق أرواح هذين الصبيين. يحكي يزن قسطًا من الأهوال التي رآها: «خلال الحرب بدأنا نرى جثثًا معلقة في الساحات العامة، بعضها رؤوسها مقطوعة. [هناك] امرأة أخرى قُتلت بالرجم، ورجل أُلقيَ من المبنى. هكذا صارت الحياة، كارثة».
ويضيف يزن في المقابلة عن فترة حكم داعش: «أصعب شيء رؤية الجثث في الأراضي، وجوه الناس البريئة الميتة. رجل مقطّع يحملونه في أكياس. هذا أصعب شيء رأيناه». ويستذكر جواد بدورِه تفاصيل من المشاهد المروّعة التي كان شاهدًا عليها بطفولته وباكورة إقبالته على الحياة: «قتلوا مرة امرأة وعلّقوا أولادها.. كل ولد علّقوه في دوّار..».
«خلال الحرب بدأنا نرى جثثًا معلقة في الساحات العامة، بعضها رؤوسها مقطوعة. [هناك] امرأة أخرى قُتلت بالرجم، ورجل أُلقيَ من المبنى. هكذا صارت الحياة، كارثة… أصعب شيء رؤية الجثث في الأراضي، وجوه الناس البريئة الميتة. رجل مقطّع يحملونه في أكياس. هذا أصعب شيء رأيناه».
طفولة بين المقابر
فضلًا عن طبيعته غير الملائمة للأطفال، فإن حفر القبور عمل صعب ومضجر للغاية. يكسب الطفلان مالًا قليلًا من الأشخاص الذين يزورون القبور لمناجاة أحبابهم الموتى، لكنها حصيلة بالكاد تكفي.
يحكي يزن عن حالتهم المادية مفصّلًا: «ليس هنالك مال لدى والدي، ولذا إذا أردنا شراء حقيبةٍ للمدرسة مثلًا وأغراضًا فإنه ليس لدينا (المال للشراء)، إذا أردنا الدخول للمدرسة نحتاج ثيابًا، نحتاج أقلامًا ومباري للأقلام ومماحٍ» أما عما يجنياه من مهنة المقابر فيقول: «أنا لا ألعب هنا بتاتًا. أجلس فقط مع والدي، وإذا جاء شخص ما إلى المقبرة أملأ الماء له وأساعده. إذا لم يأت أحد أو لم يعطونا النقود، نسألهم أن يعطونا بقشيشًا.. وإن لم يفعلوا، فكيف نعيش؟».
- يزن يحفر أحد القبور في المقبرة التي يعمل بها مع أخيه الأصغر في تخوم إدلب، المصدر
يبدو أن الموت يرافق أيام هذين الطفلين لحظةَ بلحظة، إذ إنه الشبح الجاثم في تفاصيل معيشتهم وماضيهم كذلك. يحكي جواد عن حنينه للعب مع رفاقه السابقين في موطنه قائلًا: «إذا أردت اللعب يأتي رفيقي ويخرج لي طائراته وألعابه ونلعب. لكن الآن لم يبق أحد. كلهم ميتون. حين نزحنا نحن ماتوا هم.. بقصف الطائرات».
يودّ غسان لو يرسل أبناءه إلى المدرسة، لكن لديه ستة أطفال ليعتني بهم وهو غير قادر على تحمل تكلفة الثياب واللوازم المدرسية التي يحتاجونها: «أتمنى لو أنهم يذهبون للمدارس، أن أدرسهم وأجعلهم يرتدون أحسن الثياب.. وضعنا لا يسمح بالمدارس وما شابه ذلك».
مضيفًا: «إذا أراد اليوم نقودًا ثمن دفتر للمدرسة، سأقول له أني لا أملك ذلك. من أين آتي له؟ وأنظر: هنالك أشقاء أصغر سنًا منه يحتاجون الطعام والشراب والماء» ويقول أيضًا: «من المؤسف أنهم يعملون تحت هذه الشمس، يأتون معي من الساعة السادسة صباحًا حتى السابعة والثامنة مساءً. أطفالي المساكين، لم يقدموا على فعلِ شيء خطأ واحد».
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».