يتمحور الحديث دائمًا عن حرب الخليج على التفوق الأمريكي الكاسح، ودحر القوات العراقية الغازية، والتحالف الدولي الذي أُنشئ حينها لتحرير دولة الكويت، لكن تتجاهل النقاشات عن الحرب عادةً السياق الأوسع الذي أحاط بها، والذي يتضمن تأثير الفشل العسكري الأمريكي في حرب فيتنام على نهج أمريكا في الحرب، وتوتر الأجواء بين العسكريين والصحافيين، وعملية التلميع التي تعرض لها انتصار حرب الخليج. وفي هذا التقرير المُفصَّل الذي نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، يتناول إليوت كوهين، الباحث السياسي والمستشار السابق بوزارة الخارجية الأمريكية، حرب الخليج من منظورٍ مختلف تمامًا.
يبدأ كوهين تقريره بتوضيح أنَّ النظر في حرب الخليج الآن يبدو أشبه بدراسةٍ لمجموعةٍ من المبالغات العاطفية التي لا تتكافأ مع واقعها الأصلي؛ ففي تلك الحرب، قررت دولةٌ ضعيفةٌ ومعزولةٌ من العالم الثالث، يُساوي إجمالي ناتجها القومي ثُلث حجم ميزانية الدفاع الأمريكية، الدخول في مواجهةٍ ضد القوة العظمى الوحيدة في العالم، والتي يُموِّلها العالم المُتقدِّم بأسره، وتُساعدها العديد من القوى العسكرية الكبرى. وخسرت العراق خسارةً مُخزيةً بعد خمسة أسابيعَ من القصف الجوي وأربعة أيامٍ من الانسحاب على الأرض، نتيجة تمركز قواتها في مجموعةٍ من المواقع المكشوفة وسط الصحراء. ومن منظور عام 1994، فإنَّ المخاوف التي أُثيرت قُبيل الحرب خلال شهادةٍ كئيبةٍ أُدْلِيَ بها أمام الكونجرس عن المخاطرة بسفك الدماء الأمريكية على أرض المعركة، والاحتفالات الضخمة في الشوارع التجارية إثر انتهاء الحرب، لا يبدو فقط أنَّها كانت مبالغًا فيها، بل تبدو غريبةً كذلك. ووفقًا لمذكِّرات الجنرال شوارزكوف، أراد ومعه رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال كولن باول استخدام سطح السفينة الحربية ميزوري لتوقيع الاتفاقية العراقية، وهذه السفينة كانت موقع توقيع اتفاقية استسلام اليابان عام 1945. وإذا ثَبُتَتْ صحة ذلك الادعاء، فهذا يعني أنَّ الخبراء وأعضاء مجلس الشيوخ والمواطنين العاديين لم يكونوا الوحيدين الذين افتقروا للمنظور السليم خلال الحرب.
آثارٌ من عدم الارتياح
وفقًا لكوهين، رغم نجاح الحرب الكاسح على مستوى العمليات، فإنَّها تركت آثارًا من عدم الارتياح بشأن طريقة تخطيطها وإدارتها، وكيفية تغطيتها في وسائل الإعلام. ولفهم الحرب في ذلك الوقت، يشير كوهين إلى أنَّه كان عليك أن تعتمد على الصحافة التي اجتاحت «الخليج العربي» بمئات الصحفيين، بدءًا من مراسلي الحروب المحترفين الذين أمضوا أجيالًا في تغطية المعارك ووصولًا إلى مراسلي الصحف المحلية المتعطشين لسماع أصوات زمجرة الدبابات المُندفعة في الصحراء. وأُصيب أغلب أولئك الصحافيين بخيبة الأمل جرَّاء نظام الجيش في التعامل معهم، والأشخاص الذين كانوا مسؤولين عن اطلاعهم على موجز الأحداث، والذين ظهروا بمظهرٍ أكثر أناقةً منهم على شاشات التلفاز.
ويتحدث كوهين عن اثنين من الصحافيين الأكفاء كتبا عن مهمتيهما في الحرب، وجاءت شهادتاهما كاشفةً للكثير، لكنَّها في بعض الأحيان لم تكن كما أمل الصحفيان. أحدهما هو المراسل التلفزيوني بيتر آرنت، الذي تُخصِّص مذكراته قرابة الثمانين صفحةً لتجربته في تغطية بغداد. وتُركِّز الأحداث في تلك المذكِّرات على آرنت وشبكة «سي.إن.إن» التي عَمِل لصالحها أكثر من تركيزها على الحرب. ووفقًا لكوهين، يبدو أنَّ استغراق «سي.إن.إن» في تغطية عملها نفسه انعكس على آرنت. وكانت حرب الخليج مُثمرةً بالنسبة لشبكة «سي.إن.إن»، التي كانت تتباهى بوجود أحد مراسليها في بغداد على الهواء، رغم أنَّه لم يتمكن من رؤية شيءٍ مُثيرٍ للاهتمام، أو تغطية العراقيين تغطيةً جادة. وسعدت الشبكة بدقائق البث المُباشر غير المقصودة التي قدَّمها مُخطِّطو الحرب الجوية، والذين أكدوا نجاح هجماتهم على شبكة الكهرباء العراقية بمُشاهدة لحظة انقطاع الأضواء عن مدينة بغداد على الهواء مباشرةً.
المراسل بيتر آرنيت بعد تغطيةٍ حية لحرب الخليج من فندق الراشد.
وساعدت الدعاية الذاتية لشبكة «سي.إن.إن» (بما في ذلك تهنئة نفسها على الهواء في الوقت المُخصَّص للبث المباشر) على خلق هالةٍ من الغموض حول خدمات الأخبار الغربية الشاملة التي كان من المفترض بها أن تجعل الصراع أكثر شفافيةً أمام المُشاهدين. وهو أمرٌ بعيدٌ كل البعد عن الحقيقة. فرغم نجاح آرنت في رؤية عددٍ من المواقع التي قُصِفَت بالصواريخ، لكنَّه افتقر للمهارات اللغوية والخبرات التاريخية وحرية الحركة والوصول، وهي أشياء كانت لتُمَكِّنَه من تقديم انطباعٍ أقل سطحية. وباستعادة أحداث الماضي، تبرز سطحية التغطية التلفزيونية وليس شموليتها.
والثانية هي مولي مور، التي تعد شهادتها على الوقت الذي قضته مع قوات مشاة البحرية الأمريكية «المارينز» أكثر إفادةً في ما يتعلق بحقيقة حرب الخليج، رغم أنَّ تلك الشهادة تُظهر افتتان الصحفيين المُعاصرين باستكشاف مشاعرهم على حساب وصف الأحداث التي تتحقق أمام أعينهم، حسبما يرى كوهين. رافقت مولي قائد المارينز الفريق والتر بومر طوال فترة الحرب البرية. كان بومر يشغل في السابق منصب مدير مكتب الشؤون العامة لقوات مشاة البحرية، ولذلك كان يدرك جيدًا أهمية إبقاء الصحافة على مقربةٍ منه، في تخمينٍ ذكيٍ من جانبه أن ذلك سيُكسِبُ المارينز أفضليةً في معركة الرأي العام. تُعد ميزانية المارينز هزيلةً مُقارنة بأفرع الجيش الأخرى، لكنَّهم يعتمدون على ذكائهم، وهو الأمر الذي برهنوا عليه في هذا الموقف كما في مواقفَ أخرى بالتفوُّق على أقرانهم الأكثر تقليدية.
يوضح كوهين أنَّ شهادة مولي تبدأ بالانفجار في وجه بيروقراطية أفرع الجيش الأخرى، التي تُؤمن أنَّها عرقلت الصحافة في مُعظم فترات الحرب وستُحاول فعل ذلك مُجددًا. وينتهي الكتاب بتقييمٍ (خاطئ) لمُعدل الفتك الخاص بالضربات الجوية على الجبهة، وجدالٍ صاخب بين الكاتبة وجمهورٍ من العسكريين في الولايات المتحدة. ويرى أنَّه من المدهش أنَّ صحفيةً حصلت على هذه الفرصة النادرة لتكون قريبةً من القادة وخططهم أصبحت تحمل هذا القدر من الغضب والارتياب تجاه القوات المسلحة.
السيف والقلم
وفقًا لكوهين، يتبادل الصحافيون والجنود دومًا نظرات الارتياب؛ ففي مذكرات ويليام تيكومسيه شيرمان، الجنرال الأمريكي في الجيش الاتحادي بالحرب الأهلية الأمريكية، يَذكُر شيرمان بحنق: «تقول القاعدة: إنَّ تواجد مراسلي الصحف مع الجيش هو أمرٌ مؤذٍ؛ إذ أنَّهم البشر الأكثر ثرثرةً في العالم، ويقومون بالتقاط المعلومات وتسويق فضائح المعسكر… فضلًا عن أنَّهم يميلون إلى التنبؤ بالأحداث وتوضيح الحقائق التي تكشف الأهداف أمام العدو وتساعده على التحصُّن ضدها… يجب أن يُوفِّر الوقت والاعتدال حلًا عادلًا لهذه المشكلة المعاصرة»، لكنَّ ذلك لم يحدث مع الوقت حسب رأي كوهين. وعلاوةً على ذلك عكست حرب الخليج تدهور العلاقة بين الصحافة والجيش الأمريكي. ويتفق العديد من الجنود، حتى أولئك الذين دخلوا الخدمة بعد انسحاب آخر القوات الأمريكية من فيتنام عام 1973، على الرأي القائل إنَّ التقارير الكيدية والعدائية التي نشرتها الصحافة الأمريكية هي المسؤولة بنسبةٍ كبيرةٍ عن الهزيمة في فيتنام. ومن ناحيتهم، وجد أغلب المراسلين أنفسهم في مواجهة عالمٍ غريبٍ لم يمتلكوا أي معرفةٍ مباشرةٍ عنه قبل الأزمة، وكانوا ينظرون إليه نظرةً يسودها التشكُّك وبعض الازدراء الفكري. وأظهر الضباط شماتتهم أحيانًا في فشل مهنةٍ لا يفهمونها أو يحترمونها، وذلك بعزل الصحافة عن أرض المعركة وإحراج المراسلين خلال المؤتمرات الصحفية في كثيرٍ من الأحيان. وكما هو الحال في الانتصار أُحادي الجانب للجيش على العراقيين، فإنَّ انتصاره على الصحافيين يُمهِّد الطريق أيضًا أمام مزيدٍ من الصراعات الأكثر غموضًا وحِدَّةً في السنوات المُقبلة.
صحافي يغطي الأحداث في مدينة الخفجي بالسعودية.
ويرى كوهين أنَّ الصحافيين ربما لم يضعوا حرب الخليج في نطاقها الأوسع، لكنَّ حجم وأهمية ذلك الصراع غفل عنه كذلك أولئك الذين درسوا الحرب منذ عام 1991 وحتى الآن. هل كانت حدثًا فاصلًا في التاريخ العسكري، أم علامةً على ثورةٍ وشيكةٍ في الشؤون العسكرية، أم أنَّها مجرد تأكيدٍ لحكمة المُراهنة على الكتائب الضخمة؟ هل كان العجز عن إطاحة صدام حسين فشلًا للسياسة الأمريكية، أم أنَّه عكس الحسابات الأمريكية الماكرة التي قضت بأنَّ نظامًا بعثيًا ضعيفًا ومستقرًا بالفعل هو خيرٌ للمصالح الأمريكية؟ سيستغرق الأمر سنواتٍ قبل الوصول إلى إجاباتٍ شافيةٍ لتلك الأسئلة، لكن في هذه الأثناء، أنتج عدَدٌ من المؤلفين شهاداتهم الخاصة التي تُوضِّح الخطوط العريضة للحرب على الأقل.
الماضي البسيط
يوضح كوهين أنَّ الموجة الأولى من المنشورات الخاصة بالحرب أتت على يد الصحفيين، الذين عملوا في مجموعاتٍ أحيانًا، وأنتجوا في عجلةٍ رواياتٍ عن أزمة الخليج والحرب من أشلاء شهاداتٍ مختلفة، واستُبدلت بعدها برواياتٍ أخرى. أما الموجة الثانية فكانت من صُنع حكومة الولايات المتحدة، وشملت تقريرًا عرضته وزارة الدفاع وهيئة الأركان المشتركة أمام الكونجرس، بالإضافة إلى المجلدات المختلفة التي تصدر عن أفرع الجيش الأخرى. (ونظرًا لأنَّ كوهين أشرف على واحدةٍ من تلك الدراسات، لم يعلق على تلك الجهود).
وخلال العام الماضي، ظهرت مجموعةٌ ثالثةٌ من الدراسات على يد صحفيين ومحللين ممن غَطُّوا أحداث الحرب ودرسوها مُطوَّلًا. ويعد كتاب «Crusade: The Untold Story of the Persian Gulf War» للمؤلف ريك أتكينسون واحدًا من كتب السرد التاريخي الجيدة، رغم أنَّ مساحة «القصة غير المروية» بالكتاب تشغل حيِّزًا أصغر مما يعد به اسمه. ويتعمَّق أتكينسون، الكاتب البليغ ذو الأسلوب المُنمَّق أحيانًا، في الأبعاد السردية والتكنولوجية للقصة، رغم أنَّ سرده المفيد عن الأزمة والحرب يبدو غير جذاب. لفت الكتاب الانتباه بسبب الصورة السلبية التي رسمها لنورمان شوارزكوف، لكنَّها لا تشغل سوى مساحةٍ صغيرة؛ إذ تُسيطر المقالات القصيرة عن المعارك والشهادات عن اجتماعات اللجان على فحواه. وهنا أيضًا، أفسدت ممارسات الصحافة المُعاصرة فن السرد التاريخي، كما يظهر في أعمال بوب وودورد. وهناك حيلتان تحديدًا تخلقان شعورًا كاذبًا بالمعرفة المطلقة: كتابة الذكريات عن التعليقاتات والتصريحات في صورة اقتباسٍ (دون الإشارة لمصدرها)، والتظاهر بوصف الأفكار الباطنية لشخصٍ ما. ورغم كل ذلك، يعتبر كوهين كتاب أتكينسون كتابًا جيدًا ويحوي قصةً مُثيرةً للاهتمام وتستحق السرد.
ويضيف كوهين أنَّه يرى بعض القصص القصيرة عن الحرب مُعبِّرةً للغاية. منها وصف أتكينسون لواحدٍ من أوائل الطيارين الأمريكيين وهو يصرخ أثناء احتجازه في رفاقه الأمريكيين: «إذا كنتم تسمعونني، فدعوني أُذكركم بما قيل لنا ونحن في السعودية قبل بدء الحرب: لا يُوجد شيءٌ هنا يستحق أن نموت من أجله». ويرى هنا واحدةً من انحرافات هذه الحرب، التي بدت أيضًا في توصيات القادة الجويين لطيَّاريهم: «لا يوجد هدفٌ يستحق أن نضحي من أجله بطائرة» (وتشمل الاستثناءات الجديرة بالذكر حالات اشتباك وحدات العدو مع القوات الصديقة أو خلال مهمات البحث والانقاذ). وعلى هذا الصعيد ومن نواحٍ أخرى أيضًا، خيَّم شبح فيتنام فوق رؤوس قادة التحالف. إذ خدم جنرالات حرب الخليج كضباطٍ ميدانيين في فيتنام. وبينما كان هؤلاء يكرهون على الأرجح ما عرفوه أو سمعوه عن الإدارة المدنية للحرب على المستويات الأدنى، لكنَّهم داخل أنفسهم كانوا يحتقرون بالقدر ذاته إهدار الجيش للحياة البشرية في جنوب شرق آسيا. إذ كانوا يسخرون من الساسة والأهداف السياسية بعدما عادوا من مجموعة دول منطقة الهند الصينية، لكنَّهم عقدوا العزم على إدارة الحرب التالية بكفاءةٍ وقوةٍ وسرعة. وكجزءٍ من إعادة تنظيم الجيش الأمريكي في أعقاب فيتنام، انخرطوا عاطفيًا في التركيز على رفاهية الجنود إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ في التاريخ الأمريكي. وإذا وجدوا أنفسهم في مفاضلةٍ بين الحفاظ على حياة جنودهم وتحقيق هدفٍ سياسي ما من خلال الحرب؛ كانوا يميلون دائمًا إلى الخيار الأول. لذا يعتبر كوهين عنوان كتاب أتكينسون منحرفًا عن الواقع: إذ إنَّ رفض القادة لاعتبار الحرب بمثابة حملةٍ صليبيةٍ هو الذي شكَّل تكتيكاتهم وأسلوب العمليات وطريقة انتهاء الحرب.
النصب التذكاري لضحايا فيتنام في واشنطن.
مبالغة الجنرالات في تقدير الحرب
وفقًا لكوهين، يُركِّز كتاب مايكل جوردون وبيرنارد ترينور المُقبل «The Generals’ War» على عملية صُنع القرار في الدوائر العليا، ويُتحدث عن الأمر ببلاغةٍ مُقدِّمًا مُراجعةً هي الأكثر شمولًا واستقصاءً حتى الآن عن استراتيجية الحرب وعملياتها. وسيظل على الأغلب أفضل المؤلفات التي صدرت عن حرب الخليج لوقتٍ طويل. ويرى كوهين أنَّه إذا كان أتكينسون قد حاول سلخ جلد شوارزكوف، فقد وجَّه جوردون وترينور أنظارهما صوب رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي لا يُمكن لأحدٍ الاقتراب منه حتى يومنا هذا، وهو الجنرال كولن باول. إذ يُوثِّق الكاتبان رفض باول المبدئي لخوض الحرب، ويُحمِّلونه قدرًا كبيرًا من المسؤولية عن انتهائها قبل أوانها وفرار أكثر من 50% من قوام الحرس الجمهوري، حرس صدام حسين وحصن نظامه. ويتطلَّب ذلك كثيرًا من الشجاعة، نظرًا لأنَّ باول كان قد أصبح شخصيةً لا يُمكن المساس بها مع حلول نهاية فترته في المنصب. وبوسع المرء أن يرى في هذا الكتاب طلائع التقييم النقدي المُتأخِّر لدور باول داخل البنتاجون، وأيضًا نرى ذلك النقد في مقالٍ نشره ريتشارد كوهن، أحد أبرز مُؤرخي الجيش، في نسخة ربيع عام 1994 من مجلة «ناشيونال إنترست».
علاوةً على ذلك، رسم جوردون وترينور الصورة الكبيرة للحرب. إذ يُشيرون إلى أنَّّ معركة الخفجي، التي استمرت منذ التاسع والعشرين وحتى الواحد والثلاثين من يناير (كانون الثاني) حسبما ذكر كوهين، مَثَّلت محاولةً عراقيةً كُبرى لبدء معركةٍ بريةٍ لم يفهمها الصحفيون ولا القيادة العليا الأمريكية في وقتها (ويبدو أنَّ شوارزكوف لم يفهمها حتى الآن، استنادًا إلى مذكراته). ويُثبت الكاتبان أنَّ كل فرعٍ من أفرع الجيش قاتل في الحرب بالطريقة التي يُفضِّلها، رغم الحديث عن العمل المشترك الذي هيمن على تغطية الحرب أمام الرأي العام. ويصفان تحديدًا كيف استُخدِمت الآلة العسكرية المُصمَّمة في الأساس من أجل خوض صراعٍ داخل أوروبا ضد الاتحاد السوفيتي في تطبيق أسلوب الحرب نفسه على ظروفٍ مختلفةٍ وأقل تطلُّبًا. وكيف أنَّ لكمة «القبضة اليسرى» للجيش الأمريكي كما عُرِفَت حينها، والتي اعتمدت على تحركات الفيلق السابع بالجيش الأمريكي (الذي وصل من أوروبا في الوقت المناسب لبدء الحرب البرية)، تحركت بوتيرةٍ مُتباطئةٍ أثارت ارتباك شوارزكوف. لكنَّ الفيلق السابع فعل ذلك لأنَّه تصوَّر العدو في صورة سوفييت ناطقين بالعربية، واعتبرهم قوةً تستدعي عملياتٍ مدروسةٍ تُنفِّذها قواتٌ ضخمة. وشاركهم شوارزكوف شخصيًا ذلك الرأي، كما يتضِّح من قلقه بشأن الخسائر البشرية الكبيرة، في البداية على الأقل.
ويوضح كوهين أنَّ الجيش الأمريكي بالغ في تقدير قوات الجيش العراقي، وهو ما عزته مولي وغيرها من الصحافيين إلى التلاعب غير الضروري بالأخبار قبل الحرب وأثناءها، والتبجح غير اللائق في أعقابها. ويرى أنَّ الجيش استشعر الحاجة الشديدة لخداع العدو (عن طريق الصحافة إن اقتضت الضرورة) قُبيل الحرب، وابتهج بطريقةٍ يُمكن تَفهُّمها في أعقابها. وعلى الجانب الأمريكي، كان القليلون يمتلكون صورةً شاملةً عن دوافع النظام العراقي ومدى فعالية حكومته وجيشه. ولا تُقدِّم أيٌ من الكتب الواردة في هذا المقال شهادةً مُقنعةً عن قرار العراق بغزو الكويت والحسابات العراقية (في حينها) طوال فترة الأزمة والحرب. وبشكلٍ رئيس، يعكس ذلك الصعوبة الكبيرة في الحصول على مقابلةٍ صحفيةٍ أو موادَ وثائقيةٍ تُوضِّح القرارات والنوايا العراقية توضيحًا كافيًا، لكنَّه يعكس أيضًا الطريقة العجيبة التي خاضت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الحرب ضد عدوٍ غامض، وإن كان شريرًا. وأسهمت السرِّية العراقية وسلبية الجيش العراقي خلال الحرب إسهامًا كبيرًا في الصورة أحادية الجانب التي نمتلكها حتى يومنا هذا. ولا يسعنا سوى ملاحظة الصعوبة التي واجهتها الحكومة الأمريكية في التعامل مع نظامٍ سياسيٍ وثقافيٍ بغرابة البعث العراقي. ويُظهِرُ سرد أتكينسون للمحادثات الفاشلة بين السفير الأمريكي في بغداد وصدام حسين كم كان ذلك الفشل قاطعًا في عشية أزمة الكويت.
معانقة الدب
يذكر كوهين أنَّ شخصية نورمان شوارزكوف، المعروف بين جنوده بـ«الدب»، وبين الكتاب المحررين بـ«نورمان العاصف»، تخضع لفحصٍ دقيقٍ في الأعمال الأخيرة؛ إذ يكشف أتكينسون تحديدًا جزءًا كبيرًا من النظرة العامة إلى شوارزكوف داخل الجيش: شخصيةٌ مُتسلِّطةٌ وغضوبةٌ ومتقلِّبةٌ وتفتقر للثقة بنفسها. وفي مرةٍ من المرات، وربما في مناسباتٍ أخرى، فكَّر رؤساؤه إعفاءه من منصبه، لكنَّ فشلهم في ذلك يعكس درجة السيطرة الاستثنائية التي فرضها الجنرال باول على مرؤوسيه العاطفيين. ولا شك أنَّ رئيس هيئة الأركان المشتركة، رغم أنَّه مجرد وسيطٍ بين شوارزكوف والمدنيين، كان هو من يُدير الحرب، وفقًا لشهادة شوارزكوف وجوردون وترينور.
ورغم النجاح الباهر الذي حظيت به مُذكرات شوارزكوف على المستوى الدعائي، يرى كوهين أنَّها لا تعكس واقع تلك الحرب. ولا يُمكن مقارنتها بمذكرات الأميرال ساندي وودوارد المُثيرة للاهتمام «One Hundred Days: The Memoirs of the Falklands Battle Group Commander»، التي تُقدِّم شهادةً تفصيليةً عن القيادة العليا خلال حملةٍ عسكرية حفَّتها مخاطر أكبر قبل عِقْدٍ من حرب الخليج. ورغم ذلك، تُعَدُّ قصة حرب الخليج انتصارًا مُباشرًا بالنسبة لشوارزكوف والعديد من كبار القادة المُشاركين في الحرب، ولن تُشوَّه تلك الصورة بالإفراط في التفكير بشأن الجدل والتردد خلال مرحلة الإعداد للحرب وأثناء إدارتها.
شورازكوف في مؤتمرٍ صحافي لشرح وضع الحرب في السعودية.
ويتابع كوهين أنَّه رغم أنَّ شوارزكوف يَعُدُّ نفسه من الخبراء في الشؤون العربية، لكنَّ شهادته الشخصية تُشير إلى العكس؛ إذ حذَّر رؤسائه من أنَّ العرب لن يقبلوا الاستسلام غير المشروط، «بل سيُفضِّلون الموت على الاستسلام»، رغم أنَّ معظم الجيوش العربية (والأوروبية) قَبِلَت ذلك الاستسلام. وبعد أنَّ أصرَّ على أنَّ العراقيين سيُجبرون على الاستسلام خلال المفاوضات، رضخ هو لإصرارهم على أن تُفتِّشه الشرطة العسكرية الأمريكية بحثًا عن أسلحةٍ قبل دخوله خيمة المفاوضات. وإحقاقًا للحق كان تصريح شوارزكوف للعراقيين بإجراء رحلاتٍ جويةٍ بالمروحيات المسلَّحة عَقِب وقف إطلاق النيران، وهو القرار الذي مهَّد الطريق أمام سحق «التمرُّد» الشيعي في الجنوب، نابعًا بشكلٍ كبيرٍ من غياب التوجيه الواضح من القيادة. إذ يبدو أنَّ القيادة المدنية لم تُفكِّر كثيرًا في شروط الاستسلام أو الشكل العام للتسوية السياسية التي تُريدها. وأدرك شوارزكوف رغم عيوبه كيفية الحفاظ على التحالف غير الفعال الذي أسسه الرئيس بوش، وهذا إنجازٌ لا يُستهان به. وإذا كانت عدم رغبته الصادقة في سقوط ضحايا تُعَدُّ خيانةً (إذ ألمح مثلًا أنَّه ورئيس أركانه كانا على وشك قبول عرضٍ سوفيتيٍ بإنهاء الحرب بعد إندلاع الحرب بـ11 ساعةً، وقُبيل بدء الهجوم البري)، فهو لم يقترف ذنبًا سوى تَبنِّي الموقف العسكري العام. وإذا كان لا يثق في رؤسائه المدنيين، ويحتقرهم أحيانًا، فهو يُقدِّم مثالًا على التوترات القائمة بين الجنود ورجال الدولة، والتي ترسخَّت في وجدان الجيش الأمريكي منذ حرب فيتنام.
تلميع النصر
يرى كوهين أنَّ الاستنتاج المُربك الذي ستتوصَّل إليه بقراءة تلك الكتب عن حرب الخليج استشعر على أنَّ الولايات المتحدة أخطأت في اندفاعها إلى ذلك الصراع بعد أن اتَّبعت سياسةً مُضلَّلةً ومبنيةً على معلوماتٍ غير صحيحةٍ تجاه العراق، وانتصرت في الحرب التي كانت تخشاها أكثر من اللازم بقواتٍ تفوَّقت على العدو بحجمها وثِقَلها أكثر من مهارة تكتيكاتها وعملياتها. ورغم ذلك، يفتقر هذا الحُكم القاسي إلى جزءٍ مهمٍ من الحقيقة. إذ إنَّ قليلًا من الكتب التجارية أولت عنايةً كافيةً ومستحقةً للنجاحات التقنية البارزة، مثل العملية المُعقدة التي نفذها الطيارون لتدمير نظام الدفاع الجوي العراقي، أو غارات المدفعية التي خططت لها القوات البرية بعناية. فضلًا عن أنَّ معظم المدنيين لا يُقدِّرون حجم الإنجاز اللوجستي الذي حققته الولايات المتحدة وحلفاؤها. ومع ذلك، أدَّى الأثر التراكمي لكتابات ما بعد الحرب إلى خفوت بريق النصر الذي بدا شبه مثالي في ربيع عام 1991.
ويوضح أنَّ هذه المراجعة التاريخية للحرب التي لم تُجرى حتى الآن ستتجاوز الحدود. وأنَّ هناك أمرين يمكن بهما تقييم آداء العسكرية الأمريكية في حرب الخليج. الأول هو نسبة الضحايا المنخفضة بشكلٍ مُدهشٍ مقارنةً بحجم الدمار الذي أصاب العدو. والتحليل الثاني هو الشكل المحتمل لسياسات «الخليج العربي» في حال لم تخُض الولايات المتحدة الحرب. فمن المؤسف أنَّ صدام حسين نجا ليضطهد الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، لكنَّ العراق لم يُقدم على تهديد إمدادات النفط العالمية أو سيادة الدول المجاورة من جديد إلا بعدها بسنوات. وعلى الأرجح لن ينفجر في وجه العالم مُسلَّحًا بالقنابل النووية خلال العِقْدِ الجاري، وهو الأمر الذي كان سيحدث لولا الحرب.
ويختم كوهين موضحًا أنَّه بينما ارتكب الجنود ورجال الدولة الذين انتصروا في حرب الخليج نصيبهم من الأخطاء الفادحة، وتلاعبوا بالحقائق أو شوهوها، وتناسوا كرامتهم في بعض الأحيان أثناء المشاحنات ونوبات الغضب، ولم يُكونوا قادةً استثنائيين، لكنهم أدَّوا المهام المنوطة بهم بكفاءةٍ تكفي لمواجهة التحديات التي تعرَّضوا لها وأكثر. لذا فهم يستحقون الكثير من المديح الذي حصلوا عليه، إن لم يكن كله.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».