هل نترقب عصرًا ذهبيًّا ثانيًا للقتلة المتسلسلين قريبًا بسبب الحرب على الإرهاب والأزمات الاقتصادية؟

نشرت صحيفة «نيويورك بوست» مقابلة أجراها الصحافي «جاشوا ريت ميللر» مع الباحث التاريخي «بيتر فرونسكي»، والذي يدرس التاريخ في جامعة رايرسون بتورنتو، ومؤلف كتاب «أبناء قابيل: تاريخ القتلة المتسلسلين منذ العصر الحجري إلى الوقت الحاضر» يعد الكتاب فهرسًا يحوي بين دفتيه 17 ألف سنة من تاريخ المهووسين بالقتل، بداية من قابيل، مرورًا بجاك السفاح، ووصولًا إلى قاتل النهر الأخضر.

ولعل أهم الفرضيات الأساسية التي طرحها الكاتب في كتابه الثالث الذي يتناول القتلة المتسلسلين تتمثل في «هل يُعد (الجيل المحطم) من الجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية مفرخة لما يُسمى بـ(العصر الذهبي) للقتلة المتسلسلين الأمريكيين؟» خلال بحثه في ذلك التاريخ الأسود، نقب «فرونسكي» عن أسباب الأعمال الوحشية التي كان يوثقها، خاصة الأسباب التي أدت إلى الازدهار الطاغي للقتلة المتسلسلين بين عامي 1950 و2000.

كان الاستنتاج المثير للجدل الذي توصل إليه لتفسير ظهور 2065 سفاحًا تصدروا العناوين الرئيسية للصحف، بعد سفكهم دماء الأبرياء في النصف الثاني من القرن العشرين: موجة ثوران خفية نتيجة لصدمة الحرب التي أصابت الآباء العائدين للتو من ميادين القتال في أوروبا والمحيط الهادي، والذين أنجبوا جيلًا من القتلة المعقدين نفسيًّا وعاطفيًّا.

أبرز القتلة المتسلسلين في أمريكا من بينهم تيد باندي، وديفيد بيركوفيتش وجون واي وجاي ريدجواي

ما هي نظريتك للأسباب التي أدت إلى «العصر الذهبي» للقتلة المتسلسلين؟

يقول «فرونسكي»: إن المشكلة تكمن في أن أمريكا شهدت صعودًا سريعًا للقتل المتسلسل بدايةً من سبعينيات القرن الماضي تقريبًا، وصولًا إلى الثمانينيات والتسعينيات، وبالفعل قد طرح الباحثون كافة أنواع النظريات حول أسباب حدوث ذلك، وغالبًا ما ربطوا ذلك الصعود بما كان يحدث في الولايات المتحدة آنذاك، من ازدياد أعمال العنف خلال الستينيات، والأنواع الجديدة التي ظهرت من اللذة والانغماس في المتعة خلال السبعينيات.

يقول الكاتب إنه –كما أورد في كتابه- أيقن حينها أن مشكلة القتلة المتسلسلين بدأت في التشكل في وقت مبكر جدًا من حياتهم، في وقت لم يتجاوزوا الخامسة من أعمارهم في غالب الأمر. إنها عملية تتشكل في الطفولة؛ لذا فكَّر في الأمر من هذا المنطلق، وتوصل إلى ضرورة العودة في بحثه من 20 إلى 25 عامًا إلى الخلف، إذ كان متوسط أعمار القتلة المتسلسلين عندما اقترفوا أول جريمة قتل لهم تقريبًا 28 عامًا، وعندما قام بذلك بالفعل، وبدأ في الاطلاع على تواريخ ميلاد من يُطلق عليهم قتلة «العصر الذهبي» المتسلسلون، وجد أنهم جميعًا قد نشأوا وتربوا خلال حقبة الحرب العالمية الثانية، أو خلال فترة الحرب الباردة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرةً، ولأن العوامل العائلية تُعد غاية في الأهمية في صنع القاتل المتسلسل حسب رأيه، كان لا بد أن يتوجه بالبحث إلى الآباء، متسائلًا: ما الذي قد أصاب الآباء بالصدمة إذن؟

ما هي استنتاجاتك؟

يوضح «فرونسكي» أنه عندما بدأ البحث في تجربة الجنود الذين قاتلوا في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تخلص من فكرة أن هذه كانت آخر الحروب النبيلة؛ إذ قاتل الأمريكان عدوًا غاشمًا بشرف، بدأ يوقن أنهم حقيقة لم يحاربوا بنبل أو شرف، بل توجب عليهم محاربة العدو بوحشية غير مسبوقة، تكاد تشبه أسلوب محاربة الأقوام البدائية، فكانت حرب دمارٍ شاملٍ. ويضيف أن الشباب الأمريكي استُدعي للقتال في ما يكاد يشبه حرب الإبادة؛ لأن أمريكا كانت تحارب مرتكبي إبادة جماعية بالفعل؛ لذلك يعتقد أن كثيرًا من الرجال الذين عادوا من الحرب كانوا يُعانون من الصدمة، ولم يجدوا متنفسًا لهم.

ويشير إلى ما حدث بعد عدة سنوات، عندما عاد الجنود من حرب فيتنام، بدأ المتخصصون في تشخيص أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة؛ ولكن عقب الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك ما يمكن فعله للعائدين من الحرب، لم يكن أمامهم سوى أن يصمتوا ويتواءموا مع ذلك الوضع بشكل كامل، إذ شُغلوا بالتشريعات الخاصة بالجنود تارة، وطُلب منهم أن يلتحقوا بالجامعة وينسوا الأمر تارة أخرى.

وهكذا، يقول «فرونسكي» إنه كلما تعمق أكثر في تتبع أطفال أبناء محاربي الحرب العالمية الثانية بالدراسة، زادت فكرة أن آباءهم عادوا في وجوم من الحرب التي لم يتحدثوا عنها إطلاقًا بوضوح؛ يتحدث هنا عن ذلك النوع من الاكتئاب الصامت، ومن ثم بدأ يدرك أن «إذا كان هذا هو حال الأشخاص الأصحاء، فما بالك بآباء من أصبحوا قتلةً متسلسلين». يشير «فرونسكي» في حديثه إلى أن ليس هناك حتى الآن دراسات وأبحاث في هذا الموضوع، لكن يحدوه الأمل أن يلاحظ بعض طلبة الدراسات العليا هذا الأمر، ويهتموا بذلك الجيل الذهبي من القتلة المتسلسلين، ويؤكد أن أمريكا لديها الكثير من أمثال هؤلاء، ويقترح أن تبنى قاعدة بيانات عن آبائهم: كيف كانت تجربتهم خلال الحرب العالمية الثانية؟ هل سافروا للخارج؟ هل شهدوا معارك حربية؟

ماذا قال القتلة المتسلسلون في هذه الحقبة عن آبائهم؟

يقول «فرونسكي» إن آباءهم كانوا في كثير من الأحيان محاربين قد عادوا للتو من الحرب في حالة صدمة شديدة، لكن بدأت تكشف الفظاعات التي ارتكبت في الحرب خلال العقدين الأخيرين بكثرة، على سبيل المثال ظهرت معدلات جرائم الاغتصاب التي ارتكبها الجنود الأمريكيون في هذه الحرب. يوضح «فرونسكي» أن الإحصاءات في هذا الصدد محيرة للغاية، فنحن نتحدث عن اغتصاب النساء اللاتي كان الجنود الأمريكيون مكلفين بتحريرهن في فرنسا وإيطاليا وغيرها. ويضيف أنه عندما نلقي نظرة على الحرب في المحيط الهادي، حيث دارت حرب إبادة جماعية بالفعل بمفهوم الحرب بين الأعراق المختلفة، وعندما نكتشف ما ارتكب في الحرب من أعمال مثل ممارسات طقوس جنسية مع الموتى، وقطع الرؤوس، وفصل الأسنان، وجمع التذكارات البشرية، سوف ندرك حينها مدى شدة الصدمة التي خلفتها تلك التجربة، ويؤكد أن ذلك لا ينطبق على مرتكبي هذه الفظائع فقط بطبيعة الحال، بل على أي شخص شاهدها، أو سمع بها أيضًا، ويضيف: «لدي يقين أن قلة فقط من الجنود الأمريكيين ارتكبوا هذه الفظائع، ولكن لا شك أن الغالبية العظمى منهم قد شهدوا على هذه الأعمال».

غلاف كتاب «أبناء قابيل: تاريخ القتلة المتسلسلين منذ العصر الحجري إلى الوقت الحاضر»


ما الذي ساهم أيضًا في لعب دور محوري في نشأة هذا «العصر الذهبي»؟

يذكر «فرونسكي» أن العامل الرئيسي الثاني -والذي حدده مكتب التحقيقات الفيدرالي أيضًا-، كان المجلات الشهيرة للمخبر الفذ، ومغامرات الرجال، يقول: «أتذكر تلك المجلات عندما كنت طفلًا، وأتذكر ذلك الشعور الجامح الذي كان ينتابني عندما أرى أغلفة هذه المجلات»، يصف تلك المجلات أنها بطبيعة الحال لم تحتوِ أغلفتها على أي صورٍ إباحية، وهو ما يعتقد أنه ساهم في تفاقم سوء الأمر، يفسر ذلك بأن الصور الإباحية في هذه الحالة «تخفف من تخيلات القارئ»، بينما قصص تحقيقات الجرائم الحقيقية، ومجلات المغامرات تدفع القارئ دفعًا إلى الاستمتاع بها في مخيلته، ومن ثم يجد نفسه مشدوهًا لاتخاذ الخطوة التالية داخل عقله.

يقول «فرونسكي»: إن تلك المجلات اشتهرت بتصوير استرقاق النساء وتعذيبهن على كل أغلفتها، وكانت جميع أغلفة هذا النوع من المجلات يُصور عليها امرأة مقيدة ذات هيئة مبعثرة، وعادةً ما كان يُصمم غلاف المجلة بحيث تكون صورة المرأة التي عليه مواجهة للقارئ. لذا، يبدو الأمر وكأن الشخص الذي ينظر إلى غلاف المجلة هو من سيقدم على ارتكاب الجريمة في حق الشخصية المُصورة في المجلة، وهو ما يضعه فعليًّا في الحالة الذهنية للقاتل.

وهل كانت هذه المجلات أمريكية حصرية؟

يؤكد «فرونسكي» أنها بالفعل كانت «أمريكية بامتياز»، وكانت تعرف بحقبة مجلات اللب، إذ سُميت بذلك لأنها كانت تُطبع على ورق لب الخشب الرخيص. ويوضح: «لذا، فإن كنت فتى حاقدًا، أو تعاني من صدمة، أو تعرضت للإيذاء، أو منعزلًا، فسوف تنسحب على الأغلب إلى عالم خيالي، يسود فيه التسلط والانتقام»، وعندما تختمر خيالات السيطرة والتحكم تلك في ذهن شاب بمرحلة البلوغ، فإنها تتحول بشكل كبير إلى سلوك جنسي مشوه. وبالتالي أصبح الآن يمتلك الآلية المُتصورة لكيفية التنفيس عن خيالات السيطرة والاسترقاق والاغتصاب والقتل. وهكذا لعبت تلك المجلات بكل تأكيد دورًا مهمًا، إلى جانب نوع من العزلة العائلية، وانهيار شخصية الأب.

يشير «فرونسكي» إلى أن هناك شيئًا واحدًا يكاد يكون مفقودًا في حياة أغلب القتلة المتسلسلين، وهو شخصية الأب؛ فغالبًا ما يتحدثون عن شخصية الأم المسيطرة، بينما هناك على الجانب الآخر، غياب الأب، أو حضور باهت لشخصيته. ومن ثم نجد أن هناك جيلًا من الرجال المصابين بصدمة نفسية أنجبوا أطفالًا، ربما كان بعضهم قادرًا على التعامل مع الصدمات النفسية التي عانوها، بينما لم يستطع آخرون. لكنه يظن أن هؤلاء الأشخاص الذين لم يستطيعوا التعامل مع صدماتهم، تسببوا في نهاية المطاف بإصابة أطفالهم بصدمات نفسية، سواء كان ذلك بالتخلي عنهم، أو إيذائهم، أو حتى بانعزالهم فحسب.

هل تتوقع رد فعل هجوميًّا من المحاربين القدامى على نظريتك للحرب العالمية الثانية؟

يؤكد «فرونسكي» أنه بالفعل يشعر بالقلق من فهم ما يقول فهمًا خاطئًا، ويفسر ذلك قائلًا: «لم يتبق لنا الكثير من الأشياء التي نؤمن بها، وكان من بين الأشياء التي لطالما آمنا بها، تلك الحرب (النبيلة) التي خضناها». لذا، يأمل أن يتفهم الناس أن ما يطرحه لا يمثل ذلك الجيل الكامل من المحاربين القدامى؛ فهو يعتقد أن المحاربين القدامى يعلمون بحدوث هذه الأمور، وأنه حدث بشكل مبالغ فيه بدرجة تفوق قدرتنا على التعبير. ويضيف أن الحرب ليست كما تُعرض لنا في الأفلام، خاصةً الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، لا يعتقد أن هذه النظرية سوف تصدم الناس، إذ كُشف بالفعل ما هو أسوأ من ذلك، لا سيما بعد أن كشفت السجلات أعداد حوادث الاغتصاب التي وقعت؛ كل ذلك حدث بالفعل، لكنه «لم يكن خطأ قدامى محاربينا»؛ إذ يكمل قائلًا: «كنا نحارب عدوًا أكثر وحشيةً بكثير؛ كنا نحارب وحوشًا في واقع الأمر، وهذا النوع من الحروب يتطلب هذا النوع من الوحشية».

هل مساهمتك الثالثة في ما يتعلق بتفسير سلوك القتلة المتسلسلين أشبعت فضولك؟

يقول «فرونسكي» إن الكتاب الثالث والبحث في موضوعه أشبع فضوله بالفعل؛ وذلك بسبب إمكانية تقديم تفسير لسبب بلوغ أمريكا ذروة القتل المتسلسل، وكذلك تفسير تراجعه في وقتنا الحاضر، مضيفًا: «أو ربما بسبب احتمال حدوث ذلك مجددًا، وبلوغنا ذروة أخرى على الشاكلة نفسها، إذا ما انتقلت الصدمة التي عانى منها الآباء إلى أبنائهم»، لا سيما أننا نتطلع إلى فترة تتراوح بين 20 و25 عامًا بعد عام 2008 –الأزمة الاقتصادية- وكذلك الحرب على الإرهاب، ويقول: إن لحسن الحظ، لم يضطر كثير من الرجال والنساء المشاركة في الحرب على الإرهاب، إذ كانت حربًا محدودة، على الرغم من يقينه أنها لم تكن أقل وحشية من الحرب العالمية الثانية، لكنه يأمل أن تكون أقل من سابقاتها؛ لأن عدد القوات التي نُشرت «ببساطة لن يتسبب في ترك تلك الآثار نفسها التي خلفتها الحرب العالمية الثانية». لكنه يقول: إن من ناحية أخرى يعلم الجميع أن «الحياة أصبحت صادمةً أكثر داخل حدود الوطن، إذ لم تعد بحاجة للذهاب إلى الحرب كي تصاب بالصدمة، نحن نعيش في زمن غريب».

أيمكن أن نتوقع موجة جديدة من القتلة المتسلسلين بحلول 2030؟

يؤكد «فرونسكي» أنه أمر متوقع بالفعل؛ ولا شك أن الصاعقة –الأمة الاقتصادية- التي أصابت الولايات المتحدة الأمريكية والعالم عام 2008، غيرت كثيرًا من العائلات حول العالم؛ إذ دمرت عائلات بطريقة لا نزال غير قادرين على تقديرها، أو حتى قياسها بدقة؛ لذا عندما نبدأ في الحديث عن أولئك القتلة المتسلسلين، فإن القصص التي قد نسمعها خلال العقد القادم: «كنا نعيش بصفتنا عائلة مطمئنة في بيتنا، حتى حل عام 2008، انتحر والدي؛ بعد أن فقد وظيفته، أو أصبح والدي مدمنًا على المخدرات، أو كان والدي مدمنًا على الخمور، لم يكن هكذا من قبل. فقد كبرياءه، وفقدت أنا والدي»، ربما تكون تلك هي الرواية السائدة حينها.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

تحميل المزيد