قال ستيفن كوك في مقال له على موقع Salon: إن ثاني أكبر المحافظات في مصر – الإسكندرية – القابعة على ساحل البحر المتوسط كانت مدينة عالمية ذات يوم، تقاطر عليها العرب والأوروبيون من كل حدب. تميز المجتمع السكندري بتعدد اللغات والثقافات، وهو ما كان سائدًا في مصر أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن العشرين. لكن الإسكندرية باتت آيلة للسقوط – وفق تعبير كوك – بسبب التخطيط العمراني السيئ والانفجار السكاني والفساد المستشري. والمفارقة العجيبة هنا هي أنها باتت معقلًا للإسلاميين منذ نحو أربعين عامًا.
لكن كوك يؤكد أن هناك تضخيمًا لما يعرف بالحقبة الليبرالية التي شهدتها مصر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى في منتصف الأربعينات، بل إن الذكريات المتبقية من القاهرة والإسكندرية من القرن الماضي تعكس واقعًا معقدًا رزحت فيه البلاد تحت الاحتلال البريطاني، وساد مناخ اقتصادي غير صحي، وارتفعت حدة العنصرية، كما أُعجب البعض بالفاشية.

ومع ذلك – يضيف كوك – شهدت مصر آنذاك مناخًا أكثر تسامحًا وانفتاحًا على الآخر عما هي عليه الآن. فقد كان الطبقة الأرستقراطية والناس من كل مشارب الحياة والخلفيات جزءًا من المجتمع السياسي والفكري والثقافي والاقتصادي.

لكن الحال انقلب رأسًا على عقب في العقود الستة الأخيرة – يشير كوك. فقد شهدت مصر صعودًا كبيرًا للأفكار القومية والأصولية الدينية التي استخدمها الساسة في تحقيق مآربهم الشخصية. إنها قصة مجهولة إلى حد ما لغير المتخصصين في الشأن المصري، لكنها مرتبطة بشكل غريب بما يجري في الولايات المتحدة الآن، وهذا على الرغم من الفارق الكبير بين البلدين من الناحية التاريخية والسياسية والاقتصادية. وكتوضيح تمهيدي، فإن المناخ السياسي السام الذي تسبب في تراجع مكانة مصر أضحى ظاهرًا الآن في أمريكا.
في أعقاب انقلاب يوليو (تموز) عام 1952 – يواصل كوك حديثه – افتقر الضباط الأحرار إلى الخبرة اللازمة للحكم. وقد شدد المقدم أنور السادات – الذي قرأ بيان الانقلاب – على أن الفساد والاحتلال البريطاني هما أصل البلاء في مصر. وقد أعلن هؤلاء الضباط الصغار عزمهم إدخال إصلاحات على النظام القائم، ولكن ما لبثوا أن أسقطوا النظام السياسي القائم وشرعوا في بناء نظام جديد سيطروا عليه بالكامل. وقد منح هذا النظام منزلة مقدسة للقوات المسلحة المصرية، واكتسب أعداءً من كافة التيارات، وعلى رأسها الليبراليون والشيوعيون والإخوان المسلمون وطلاب الجامعات.

اقرأ أيضًا: مترجم: ما هي الليبرالية الجديدة؟ تعريف مختصر

لم تكن القوة المفرطة التي استخدمها الضباط الأحرار لفرض رؤيتهم على مناوئيهم كافيًا – ينوه معد المقال – فقد اكتشف جمال عبد الناصر – قائد البلاد لاحقًا – أن ثمة حاجة لنظام سياسي جديد قائم على الشعبوية لتثبيت أركان حكمه. وبما أن مصر كانت محتلة من البريطانيين في ظل النظام الملكي الفاسد، فقد شهدت تظاهرات حاشدة ضد غياب العدالة في توزيع الدخل والفقر الناتجين عن هذا النظام. استغل الضباط الأحرار هذا الأمر وأكدوا على عدم ثقتهم في الأجانب، وتعهدوا برفع الظلم عن الفقراء، ولعبوا على وتر أن معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة هم من الفقراء، على الرغم من أن معظم كان من الطبقة المتوسطة العليا.

وفي عام 1956، وقع العدوان الثلاثي على مصر إثر قيام عبد الناصر بتأميم قناة السويس التي سيطر عليها البريطانيون منذ أن باع الخديوي إسماعيل حصة مصر في القناة لسداد ديونه اتجاه أوروبا. يرى كوك أن خطوة التأميم كانت منطقية؛ لأن الأجانب كانوا هم المستفيدين من أهم الممرات المائية المصرية، وقد رفع ذلك من شعبية ناصر لدى عامة الشعب.

كان ناصر خطيبًا مفوهًا، فرفع شعارات القومية العربية التي اعتُبرت مقياسًا للوطنية؛ فزاد الضغط السياسي والثقافي على أولئك الذين اعتبروا أنفسهم مصريين فقط. وفي نفس الوقت – يقول كوك – جرى مصادرة أملاك الكثير من الأجانب؛ مما حدا بالكثير من اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين إلى العودة إلى بلدانهم، وعلى رأسهم اليهود. وهذا ما نراه في أمريكا اليوم؛ إذ باتت الهجرة هي المحدد للهوية الأمريكية. فإذا كان الشخص من غير الأصول القوقازية والمسيحية، تعرض للعنصرية والمطالبة بمغادرة الولايات المتحدة.
تولى السادات الحكم بعد ناصر. وقد جرى الاحتفاء به في الغرب لزيارته للقدس في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 التي أدت إلى توقيع ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، فضلًا عن تدشين عصر الانفتاح الاقتصادي، الذي فتح الباب أمام العودة الكاملة للشركات الخاصة في مصر. ومع ذلك – يضيف كوك – فقد اتبع السادات استراتيجية سياسية قد تكون مفيدة للأمريكيين في هذه اللحظة.
بغية التفوق على منافسيه وتأمين منصبه كرئيس، انفتح السادات على جماعة الإخوان المسلمين، حيث أتاح لهم الفرصة لتطبيق أجندتهم للإصلاح الاجتماعي، التي اتسمت بالاستبداد وغياب التسامح، مقابل دعمه سياسيًا. لكن الإخوان المسلمين لم يكونوا متطرفين مثل القوميين البيض الذين روج لهم الرئيس دونالد ترامب طوال حملته الانتخابية وحتى الآن في رئاسته، لكن أسباب علاقاته معهم تشبه إلى حد كبير علاقة السادات بالإخوان المسلمين.
لكن «الرئيس المؤمن» عجز عن الوفاء بالتزاماته الدينية واتفاقاته مع الإخوان. على مدى العقود التالية، تمكن الإخوان من فرض أجندتهم فيما يخص قضايا متنوعة، مثل الفنون والأدب والتعليم والسياسة الخارجية والهوية المصرية. وهذا نفس ما تشهده الولايات المتحدة الآن.
بات الخطاب الأصولي – على الرغم من أنه ليس شيئًا جديدًا في أمريكا – جزءًا أكثر بروزًا في سياسة الدولة. فقد أعلنت مستشارة الرئيس ترامب الروحية، بولا وايت، مؤخرًا أن معارضوه «يحاربون يد الله». وواجهت عاصفة من الانتقادات من رجال الدين وغيرهم، ولكن التزمت الطبقة السياسية الصمت خوفًا من رد فعل عنيف من قاعدتها الدينية. في مصر – يؤكد كوك – كان القادة غالبًا ما يضطرون إلى تلبية مطالب الإسلاميين، مهما كانت قاسية، للأسباب نفسها.

اقرأ أيضًا: «فورين أفيرز»: كيف تسقط الديمقراطيات؟

وتسببت مواقف الإسلاميين المتشددة حول ما هو مقبول مجتمعيًا، وما هو محظور؛ مما تسبب في شل مجتمع كان ديناميكيًا ذات يوم، وأنتج حربًا ثقافية قوضت طاقة بلد لديه ثروة هائلة من رأس المال البشري. فهل هذا ما يريده الأمريكيون؟ يتساءل كوك.

هناك أسباب وجيهة لدى المصريين للإعجاب بناصر والسادات، على الرغم من أن هذا الأخير لا يزال أقل شعبية بكثير. لقد كانت سنوات ناصر لحظة التمكين، وكانت فترة السادات فترة من الانتصار الجزئي والاستعادة الجزئية لسيادة مصر. كان من المفترض أن تستعيد هذه الأحداث العظمة المصرية المفقودة، التي تستحق مجتمعًا يكون بحق وريثًا للحضارة الفرعونية.

ومع ذلك، فقد كانوا يتلاعبون بالهويات، ويروجون للقومية ويزرعون الانقسامات. والنتيجة هي أن مصر عانت من اختلال من أزمة إلى أخرى، فباتت غير قادرة على حل مشاكلها؛ لأن المجتمع أصبح مستقطبًا جدًا، وتسوده عدم الثقة والسخرية والعنف بشكل دائم. وما لم يكن الأمريكيون حذرين، فإن واقع مصر الحالي يمكن أن يكون مستقبلهم.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد